رحل تشافيس... ولكن تطلعاته الإنسانية الطموحة انغرست في عمق بلده وقارته وعالمه
داود تلحمي
الحوار المتمدن
-
العدد: 4024 - 2013 / 3 / 7 - 00:39
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
أوغو تشافيس، الذي ملأ القارة الأميركية اللاتينية، ومناطق أخرى من العالم، بحضوره القوي والصاخب والمؤثر طوال أربعة عشر عاماً قضاها في رئاسة فنزويلا، وفي الدعوة ليسار متجدد ولاشتراكية إنسانية ديمقراطية حرة تحترم الإنسان وكرامة المواطن وحقوقه، رحل في أوج عطائه وحيويته، بعد أن أطاح به المرض الرهيب، الذي وحده لم يتمكن هو من التغلب عليه.
ويكفي أن نرى الحزن والدموع على وجوه الفنزويليين، أو لنقل معظمهم، حتى ندرك كم كان لهذا القائد الحقيقي المتدفق بالحيوية من محبة ورصيد تقدير ووفاء لدى هذه الغالبية من شعبه، التي صوتت لإعادة انتخابه ثلاث مرات، نجح فيها كلها منذ الدورة الأولى بأغلبية مريحة، كما حمته من انقلاب سعى خصومه في البلد وخارجه في العام 2002 أن ينهوا به دوره ومساعيه لإزالة الظلم الواقع على فقراء وبؤساء شعبه وعلى عموم شعوب القارة اللاتينية.
وكان انتخابه للمرة الأولى في أواخر التسعينيات الماضية قد افتتح عصراً جديداً في القارة، التي كانت تعتبر في الماضي "حديقة خلفية للولايات المتحدة"، وذلك بانتقال مساحات واسعة من القارة الى الخيار اليساري، الذي كان شبه محرّم على القارة... كما أظهرت ذلك التجارب اليسارية السابقة التي جرى إحباطها بالقوة أو بالتآمر والتخريب، في غواتيمالا في الخمسينيات وفي البرازيل في الستينيات وفي تشيلي في السبعينيات وفي نيكاراغوا في الثمانينيات الماضية، كما أظهر ذلك القمع الشديد والدموي للتحركات الشعبية والتحررية في مجمل بلدان القارة لعقود طويلة.
وحدها كوبا الصغيرة صمدت بعد وصول الثوار اليساريين الى السلطة فيها في مطلع العام 1959، وتحمّلت العديد من عمليات الإجتياح والتخريب ومحاولات اغتيال قادتها، كما تحملت الحصار ومحاولات التجويع طوال أربعين عاماً، الى أن وصل أوغو تشافيس الى السلطة في فنزويلا وافتتح العصر الجديد لليسار المتجدد في أميركا اللاتينية.
ولكن أحد قادة الثورة الكوبية من غير الكوبيين، ومن الأرجنتين بالتحديد، وهو الطبيب إرنستو غيفارا، الذي لازمه لقب "تشي" لكونه كان يردد كثيراً هذه الكلمة الصغيرة في لهجته الأرجنتينية المميزة، لم يكن مستعداً للإنتظار طويلاً حتى تنتشر أفكار ومُثُل اليسار في القارة، فذهب بنفسه ليدعم المجموعات الثورية في بلدان القارة الفقيرة. وهناك، وبعد سنوات قليلة، تمكن أعداء اليسار وحريات الشعوب، من أجهزة المخابرات الأميركية ومن الطغم المحلية التابعة، من اصطياده وتصفيته بعد أسره. كان ذلك في أواخر العام 1967 وفي بلد في جنوبي القارة اسمه بوليفيا، وهو بلد حمل هذا الإسم تيمناً باسم بطل الكفاح من أجل الإستقلال والوحدة في أميركا اللاتينية في القرن التاسع عشر، سيمون بوليفار. وظن قتلة غيفارا انهم تخلصوا بذلك من هذا الرجل الذي كانوا يلاحقونه من بلد الى آخر، لا بل من قارة الى أخرى، بعد أن كان قد بدأ تحركاته الأممية في إفريقيا السوداء في مطلع الستينيات الماضية.
لكن ما جرى في أميركا اللاتينية في الأعوام والعقود التالية لمقتل غيفارا، وخاصة منذ وصول تشافيس الى السلطة في فنزويلا، ومسلسل النجاحات اليسارية اللاحقة في بلدان القارة اللاتينية، من البرازيل الى بوليفيا والإكوادور وبلدان عديدة أخرى، أخرج صور وملصقات غيفارا من الغرف المغلقة وأقبية وكهوف الثوريين الى الساحات الكبيرة والواجهات ومقرات الرئاسة، بدءً بالبلد الذي ضحى غيفارا بحياته من أجل تحرره، بوليفيا.
من المبكّر أن يبتهج خصومه
ولذلك، من المبكر، بالتأكيد، أن يبتهج خصوم تشافيس وأعداؤه، خاصة في القسم الشمالي من القارة الأميركية. فتشافيس ترك بصمات لا تمحى في أذهان وقلوب الملايين من أبناء وبنات فنزويلا وسكان عموم القارة. ومهما كان السبب وراء هذا المرض الرهيب الذي أطاح بهذا الرجل الإستثنائي وهو في أوج حيويته وعنفوانه، فلن يتمكن أعداء شعوب أميركا اللاتينية وأعداء حرية وكرامة شعوب العالم من محو هذه المرحلة الناصعة من التاريخ البشري والإنساني ولن يستطيعوا إعادة المارد الذي انطلق بقوة في أنحاء هذه القارة الى قمقم التبعية والخنوع.
فحياة أوغو تشافيس القصيرة نسبياً، كما كانت حياة إرنستو غيفارا قبله، وتأثيره لا ينتهيان بموته. ومساهمته الغنية في رفع رايات الحرية والعدالة وحق الإنسان، كل إنسان، مهما كان لون بشرته وأصوله العرقية والإثنية وجنسه وثقافته، أن يعيش حرا كريما في البلد الذي عاش ومات أجداده قروناً طويلة عليه، لن تذهب هدراً. فشيء ما تغير في أميركا اللاتينية والعالم خلال هذه السنوات القليلة التي عايشها تشافيس في سدة الرئاسة. ولا شيء يمكن أن يعيد عجلة التاريخ الى الوراء.