هل التحول نحو الإشتراكية طريق باتجاه واحد؟
داود تلحمي
الحوار المتمدن
-
العدد: 3928 - 2012 / 12 / 1 - 22:51
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
لم أتناول في مقالي السابق حول "التحول نحو الإشتراكية في عصرنا" فكرة وردت في تعقيب الصديق والزميل العراقي جميل محمد (ابو كوثر) المشار إليه في ذلك المقال، وهي فكرة كون التحول نحو الإشتراكية توجهاً لا عودة عنه، بمعنى أن البلد الذي يتحول نحو الإشتراكية يبقى عليها ولا مجال للعودة الى النظام الرأسمالي.
وفي الواقع، هذه الفكرة كانت سائدة ابان وجود الإتحاد السوفييتي في القرن الماضي. ولكن بعد انهيار التجربة السوفييتية والتجارب الأوروبية الشرقية والجنوبية الأخرى بات من الضروري التدقيق في هذه المقولة.
وقبل كل شيء لا بد من الإقرار بأن الأنظمة التي كانت سائدة في كل هذه البلدان، سواء منذ العام 1917 بالنسبة لروسيا والبلدان التي اتحدت معها لاحقا في إطار الإتحاد السوفييتي، أو بالنسبة لعدد من بلدان أوروبا الشرقية والوسطى والجنوبية الشرقية التي خاضت تجارب تحول إشتراكي شبيهة بعد الحرب العالمية الثانية، كل هذه الأنظمة كانت مشاريع تحوّل نحو الصيغة الإشتراكية المأمولة، ولكن مقومات اكتمال هذا التحوّل لم تكن متوفرة. وهو ما يجعل مسألة الإرتداد عن هذا الطريق قابلة للتفسير. وهذا يتعلق في المقام الأول بالتجربة الخاصة بالإتحاد السوفييتي نفسه، والتي كانت التجربة الأولى من نوعها في التاريخ البشري. وهكذا، فالتجربة الرائدة لم تكتمل ولم تصل الى الهدف المبتغى، لا بل تفكك البلد نفسه وعادت أجزاؤه الى نمط إنتاج رأسمالي، وفي عدد من الحالات نمط إنتاج متوحش ذي سمات مافيوية مريعة.
وقد بات الآن واضحاً أكثر من أي وقت مضى أن إلغاء الملكية الفردية لوسائل الإنتاج وسيطرة الدولة عليها، وتحقيق درجة معينة من تقارب المداخيل وتوفير ضمانات إقتصادية وإجتماعية أساسية للمواطنين ليست وحدها شروطاً كافية لإنضاج عملية التحول نحو الإشتراكية. ونحن الآن، بالضرورة، بحاجة الى إعادة النظر في بعض المسلمات التي كانت سائدة الى حد كبير في صفوف اليساريين الجذريين خلال القرن الماضي. فللتحول الثابت نحو الإشتراكية شروط عديدة بالإضافة الى هذه الشروط الإقتصادية – الإجتماعية، من بينها بالتأكيد ما تحدثنا عنه في المقال السابق عن ضرورة توفر أوسع درجات المشاركة الشعبية في القرار وفي إدارة المجتمع والبلد، وأكبر قدر من الحريات الديمقراطية، بالمفهوم الأوسع والأكثر عمقاً وتقدماً لهذه الحريات من تلك الحريات (المنقوصة) السائدة في البلدان الرأسمالية المتقدمة. وقد اصطلح على تسمية هذا المفهوم للديمقراطية بالديمقراطية الشعبية، باعتبار أن المشاركة الشعبية على كل المستويات تشكّل أحد أركانه الأساسية. وتعبير "الديمقراطية الشعبية" هنا يحمل، بالطبع، معنى مختلفاً عن الواقع الذي كان قائماً في عدد من البلدان التي كانت أنظمتها، المتأثرة أو المرتبطة بالتجربة السوفييتية، تقرن اسم بلدها أو نظامها بهذه الصفة، أي الديمقراطية الشعبية.
وبات واضحاً أيضاً ان نمط الإنتاج الذي كان سائداً في الإتحاد السوفييتي، والذي حقق نجاحات كبيرة على صعيد التنمية والتطور الإقتصادي والعلمي في العقود الأولى للتجربة، وصل منذ الستينيات الماضية الى ذروته ودخل مرحلة أزمة تباطؤ وركود لم يتمكن من تجاوزها، وهي أزمة شكّلت أحد العوامل الرئيسية لانهيار التجربة.
وكان المفكر والإقتصادي الماركسي المصري البارز سمير أمين قد أطلق في أحد كتبه المبكرة تعبير "نمط الإنتاج السوفييتي" على نمط الإنتاج الذي كان سائداً آنذاك في الإتحاد السوفييتي. حيث اعتبر ان نمط الإنتاج هذا ليس نمط إنتاج رأسمالياً ولا اشتراكياً، وإنما هو صيغة إنتقالية، قد تقود، في نهاية المطاف، الى الإشتراكية، كما قد تقود البلاد الى العودة الى نمط الإنتاج الرأسمالي، على حد رأيه. وهو رأي كان في حينه مثيراً.
وفي هذا السياق، يمكن أن نستوعب لجوء الصين الشعبية وفييتنام، خاصة منذ النصف الثاني من الثمانينيات الماضية، وهي المرحلة التي بدأت فيها تظهر الى العيان بشكل واضح عوامل تعثر مسيرة الإقتصاد السوفييتي وتأزم التجربة، الى نمط تنمية مختلف يتبنى بعض أساليب التنمية الرأسمالية في ظل سيطرة جهاز الدولة على الوضع العام للبلد وعلى مرافق الإقتصاد. وهو نمط تنمية حقق في البلدين معدلات نمو عالية خلال العقدين الماضيين، وأخرج الملايين من الناس، وفي الصين يمكن حتى الحديث عن مئات الملايين من الناس، من خانة الفقر والفاقة. علماً بأن هذا النمط من التطور قد جلب معه أيضاً إشكالات واختلالات أخرى، من نمط تنامي شرائح من الأثرياء الكبار، أصحاب الملايين، وتزايد الهوة في المداخيل بين القلة الغنية والقطاعات الواسعة الأقل ثراء أو الأفقر، الى جانب تفاقم مظاهر الفساد المختلفة، وهي مظاهر تناولها المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي الصيني الذي انعقد خلال خريف 2012 علناً وركّز على ضرورة معالجتها.
وبمعزل عن مآل هاتين التجربتين الهامتين في بلدين حملا في مرحلة الكفاح، بين عشرينيات وسبعينيات القرن الماضي، لواءي التحرر الوطني والتحول الإشتراكي معاً، وهو مآل ليس باستطاعتنا أن نتنبأ به، إلا ان من الطبيعي أن نأمل بأن تفضي التجربتان الى نجاح يؤمن في آن واحد التنمية الواسعة الضرورية على كافة الصعد الإقتصادية والإجتماعية والعلمية- الثقافية، وكذلك استمرار التمسك بالأفق الإشتراكي. ومع انه ليس من السهل مقارنة وضع هذين البلدين الكبيرين وإمكانياتهما (الصين كما هو معروف مأهولة بأكثر من مليار وثلاثمئة مليون نسمة، وعدد سكان فييتنام يقترب من المئة مليون نسمة) مع وضع بلد صغير نسبياً مثل كوبا في البحر الكاريبي ومنطقة أميركا اللاتينية (أكثر قليلاُ من عشرة ملايين نسمة)، إلا ان الوظيفة التاريخية للتجربة الكوبية كانت ذات أهمية كبيرة على الصعيد القاري، أي على صعيد تأثيرها على أوضاع بلدان القارة اللاتينية والكاريبية الأوسع خلال هذه العقود الخمسة ونيف من صمود التجربة، وهو صمود كان له ثمن كبير دفعه البلد وسكانه، خاصة بعد انهيار التجربة السوفييتية وافتقاد البلد الصغير للدعم الإقتصادي الذي كان قائماً حتى ذلك الحين من قبل بلدان حلف وارسو ومنظمة "كوميكون" للتعاون، اللذين انهارا أيضاً مع انهيار الإتحاد السوفييتي بطبيعة الحال.
ومن هذه الزاوية، يمكن أن نعتبر، مع كل التحولات الجارية منذ مطلع القرن الحالي في عدد من بلدان القارة اللاتينية، وطموحات التحول الإشتراكي الجريئة المعلنة في عدد منها، ان التجربة الكوبية كانت مصدر دعم وإشعاع، حيث كانت لها بصمات قوية على بلدان تلك المنطقة وحركاتها السياسية والإجتماعية، وكانت لها حتى تأثيرات خارج هذه القارة أيضاً (يجب ألا ننسى دور كوبا النشط، بعد دعمها العسكري المباشر لنظام أنغولا اليساري في أواخر السبعينيات الماضية، في توفير شروط استقلال ناميبيا المتاخمة في جنوب القارة الإفريقية، وحتى، الى حد معين، في إنضاج شروط إنهاء نظام الفصل العنصري في جمهورية جنوب إفريقيا نفسها. كما من المهم الإشارة الى الأهمية الرمزية الإيحائية لشخصية وكفاح أحد أبرز قادة الثورة الكوبية، إرنستو "تشي" غيفارا، وتأثير هذا النموذج الثوري الواسع على قطاعات غير قليلة من الشبان والتيارات اليسارية والتحررية في أنحاء العالم).
لا وصفات جاهزة لكيفية شق الطريق نحو الإشتراكية
وهنا، لا بد من العودة الى التأكيد ان ليست هناك وصفات جاهزة للطرق الممكن اتباعها للوصول الى تجاوز النظام الرأسمالي وفتح آفاق التحول الإشتراكي. فالتجارب وحدها هي التي ستدل على الطرق الأنجع والأجدى. كما ان التجارب العملية هي التي ستظهر كيف ستكون عليه أوضاع البلدان المتحولة نحو الإشتراكية بعد اكتمال المرحلة الإنتقالية، التي يبدو الآن تماماً أنها ستكون مرحلة طويلة الأمد نسبياً، وأطول مدى بالتأكيد مما كان يراهن ويتصور قادة الثورات اليسارية في مطلع القرن العشرين.
وربما يحتاج الأمر، كما ذكرنا في المقال السابق، الى تحولات على نطاق واسع في العالم، يشمل بلداناً مؤثرة في الإقتصاد العالمي، بحيث يحدث التحول الكبير في مجمل الإقتصاد العالمي، أو جزء أساسي منه. وهو تحول لا يمكن التنبؤ به منذ الآن. ولكن كل ذلك لا يحول دون إمكانية تحقيق خطوات هامة على هذا الطريق من خلال العمل على تحرير ما أمكن من بلدان العالم من التبعية للنظام الرأسمالي والإمبريالي العالمي ومن عوامل الفقر والجهل والتخلف والتفاوتات الهائلة في المداخيل وكل أشكال الإجحاف التي يمكن أن تلحق بقطاعات واسعة من الشعوب. وهو تحديداً ما تحاول أن تقوم به بعض التجارب الجارية حالياً في أميركا اللاتينية.
***
وحتى نعود الى الفكرة الأساسية في هذا المقال، من الواضح أن الإنتقال (غير القابل للعودة الى الوراء) نحو الإشتراكية يفترض شروطا عدة ليس فقط في البلد المعني وإنما على الصعيد العالمي، وهي شروط من الواضح أنها ليست متوفرة بعد، وتحتاج الى زمن إضافي لاكتمالها أو إنضاجها. ولنتذكر أن التحول في القارة الأوروبية نحو النظام الرأسمالي لم يكن تحولاً مستقيماً بل شهد جملة من الصراعات والمخاضات، وحتى بعض الإنتكاسات، الى أن حقق هذا النظام انتصاره المبين على النظام الإقطاعي وجملة الأنظمة الأخرى ما قبل الرأسمالية، ليس فقط في أوروبا وإنما في أنحاء العالم من خلال الغزوات الإستعمارية والنفوذ الإمبريالي والتمدد الرأسمالي الى كل زوايا العالم.
فعلى سبيل المثال، وبما ان الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر تعتبر نموذجاً للثورة البورجوازية على النظام الإقطاعي، فنحن نتذكر أن هذه الثورة تعرضت الى جملة من الإنتكاسات... في البداية عندما وضع الضابط نابليون بونابارت يده على العملية الثورية والبلد نفسه واستخدم شعارات الثورة في مشروعه الإستبدادي التوسعي الطموح، وتحوّل من عسكري جمهوري شاب الى امبراطور متوج لا حدود لطموحه، لينتهي بهزيمة كبيرة على أيدي جيوش أوروبا الأخرى أعادت النظام الملكي الى البلد. ورغم ذلك، استمرت عملية الإنضاج، وتلاحقت الثورات والإجهاضات بعد ذلك حتى أواخر القرن التاسع عشر تقريباً. والأمر نفسه ينطبق على تحولات شهدتها بلدان أوروبا الأخرى، مثل بريطانيا، بالإتجاه نفسه، وإن بأشكال مختلفة. ولنتذكر أيضاً أن نظام الإعتماد على العبيد في العملية الإنتاجية استمر في التعايش مع أنظمة إقتصادية أكثر تقدماً، بما في ذلك مع النظام الرأسمالي نفسه، حتى ستينيات القرن التاسع عشر في بلد متطور مثل الولايات المتحدة، وحتى بعد ذلك في بلدان أخرى في أنحاء العالم، وبأشكال متنوعة.
وهكذا، في عصرنا الراهن، يمكن أن تنشأ تجارب متقدمة تفتح آفاقاً للتحول الإشتراكي، وتتعايش الى زمن معين مع الأنظمة الرأسمالية القائمة، الى أن تتوفر شروط تحوّل على الصعيد الكوني تجعل النظام الرأسمالي متقادماً، بحيث يفرض الوضع الجديد ميزان قوى مختلفاً على صعيد البلد المعني وعلى الصعيد العالمي ينتج إستقراراً في التحول ويجعل من الصعب وغير المعقول العودة الى الوراء، تماماً كما هي الآن فكرة العودة في البلدان الرأسمالية الى نظام الإقطاع أو العبودية أو أية أنماط إنتاج ما قبل رأسمالية أخرى. وهنا أستذكر مقولة ذكرها القائد الشيوعي الإيطالي الراحل إنريكو بيرلينغوير في لقاء كنت مشاركاً فيه، وربما كان غيره يرددها أيضاً، وهي مقولة ان الإشتراكية، أو عناصر منها، يمكن أن تنمو في رحم النظام الرأسمالي، تماماً كما نمت الرأسمالية الأوروبية في رحم النظام الإقطاعي.
ولذلك يجب ألا نقلل من أهمية بعض التجارب المستمرة، أو الحديثة، التي لا زالت تسعى الى تحقيق هذا الحلم القديم للبشرية: حلم المجتمع الخالي من الإضطهاد والغبن، والذي يتعامل مع البشر جميعاً، بدون تمييز، على ان لهم حقاً متساوياً في العيش الحر والكريم. وربما ما زال هناك من يعتقد أن تجاوز المجتمعات التمييزية والظالمة أمر طوباوي وغير قابل للتحقيق. لكن مسار البشرية والتطورات التي تحققت خلال القرون الأخيرة تبقي مساحة واسعة لإبقاء شعلة الحلم بالمجتمعات العادلة والعالم الأكثر إنصافاً متقدة.