آفاق إنعكاسات الثورة الشعبية المصرية على المنطقة العربية والوضع الفلسطيني
داود تلحمي
الحوار المتمدن
-
العدد: 3859 - 2012 / 9 / 23 - 18:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بات واضحاً الآن ان العام 2011، عام الإنتصارات الأولى لثورتي تونس ومصر، وعام امتداد الحراك الثوري الذي أشعلتاه الى أنحاء المنطقة العربية في مواجهة أنظمة الإستبداد والفساد، وأنظمة التبعية والخنوع، من الواضح أن هذا العام شكّل منعطفاً بارزاً في تاريخ المنطقة.
وإذا كان لشعب تونس الفضل في إشعال شرارة هذه الثورات الشعبية، بعد أن تمكن من الإطاحة بالنظام الإستبدادي التابع في ذلك البلد، فإن الإنتقال السريع لهذه الشرارة الى الساحة المصرية الكبيرة، ثم النتائج البارزة التي تحققت هناك، بدءً بالإطاحة برأس النظام، كلها نقلت الظاهرة التونسية لتصبح ظاهرة عربية واسعة. كما أظهرت ان العملية التي بدأت في منطقتنا، ولا تزال مستمرة، تشكّل انتقالاً نوعياً من مرحلة تاريخية معينة، اتسمت بتفشي إستحواذ الفرد أو الطغمة قليلة العدد على القرار وعلى ثروات البلد، وبتبعية متزايدة للأجنبي وخاصة للولايات المتحدة الأميركية في غالبية الحالات، الى مرحلة تاريخية جديدة تماماً، تتسم أول ما تتسم ببروز واضح لدور الشعوب ولتصميمها على استعادة القرار بشأن مصيرها ومستقبلها، عبر بناء مؤسسات وأنظمة حكم تعبّر عن مصالحها وتطلعاتها ورغبتها في التطور وفي تحقيق درجة معينة من الإنصاف في توزيع ثروة البلد كما في تحمُّل أعباء مرحلة البناء فيه.
تمايزات ثورتي تونس ومصر عن الثورات والحراكات اللاحقة
وما يميّز ما جرى في تونس ومصر عما جرى بعد ذلك في بلدان عربية أخرى هو ثلاثة عوامل رئيسية:
أولاً، وجود مجتمع مدني قوي ومتطور في كلا البلدين لم تتمكن كل وسائل القمع والإستبداد، طوال عقود طويلة من القهر وتغييب الحريات الديمقراطية، من الحد من حيويته ودوره النشط.
وثانياً، ان الثورتين فاجأتا العالم كله بدون استثناء، فلم تتمكن القوى الخارجية ذات النفوذ والأطماع من التدخل المبكّر لحماية النظامين التابعين القائمين أو للتأثير في مسار الثورتين في بداياتهما، حيث لم يحصل التدخل إلا في مرحلة متأخرة من الحراك الثوري أو بعد النجاح الأولي الذي حققتاه بإطاحة رأسي النظامين.
وثالثاً، في كلا البلدين اتخذ الجيش موقف الإمتناعً عن التدخل لقمع الحراك الشعبي، وهو امتناع كامل في حالة تونس، وعدم حماسة لتجاوز حدود معينة في حالة مصر. علماً بأن قطاعات واسعة من الجيشين، بحكم تكوينهما، أبدت تعاطفاً كبيراً مع الحراك الشعبي، وفي حالة مصر أبدت حتى قيادات الجيش استياء مبكراً من مشاريع النظام السابق للتوريث.
وهذه الشروط الثلاثة لم تتوفر كلها بنفس القدر في الحراكات الشعبية اللاحقة التي شهدتها بلدان عربية أخرى، من ليبيا الى البحرين، ومن اليمن الى سوريا، وغيرها، مما جعل المسارات والمآلات تتباين وتختلف بين كل بلد من هذه البلدان.
***
ولا شك بأن نجاح الثورة الشعبية في مصر يكتسب أهمية إستثنائية نظراً لحجم مصر البشري وموقعها الجغرافي في قلب المنطقة العربية، وتاريخها المركزي المعاصر، خاصة خلال الخمسينيات والستينيات، في استنهاض الوضع العربي والسعي الى تحقيق قفزة نوعية في أوضاعه الداخلية ودرجة استقلاله عن النفوذ الخارجي.
وليس أدل على هذه الأهمية من كون بعض العوامل التي شكلت المقدمات لنضوج ظروف الثورة في مصر، خاصة منذ مطلع القرن الحالي، مرتبطة بأوضاع عربية محيطة، مثل انطلاق الإنتفاضة الفلسطينية الثانية في أواخر العام 2000 والحرب الأميركية- البريطانية على العراق التي بدأت في مطالع العام 2003. دون أن ينفي ذلك طبعاً كون العوامل الرئيسية للثورة هي بالأساس عوامل مصرية، داخلية، مرتبطة بتدهور الأوضاع المعيشية لغالبية المواطنين وتفشي الفقر والبطالة، خاصة بعد موجة تطبيقات "الليبرالية الجديدة" والخصخصة ومساعي تصفية القطاع العام وعرض ثروات البلد ومرافقه للبيع، سواء لأطراف خارجية أو لقطاعات موغلة في الفساد من الرأسمالية الطفيلية المحلية وبيروقراطية الدولة المتحالفتين والمتداخلتين. كل ذلك في مناخ من النهب المتفاقم الذي ترافق مع كل هذه العمليات والذي بدأت قصصه المنتشرة في الشارع تزكم الأنوف وتزيد من درجة التوتر والنقمة لدى قطاعات واسعة من الشعب. وهو ما دفع النظام الى اللجوء الى مزيد من القمع لإخماد كل تحرك شعبي وقطاعي مطلبي ووطني، بهدف حماية مصالح الشريحة الحاكمة وإدامة حكمها.
وبالطبع، لا نتوقع الآن، بعد زهاء العشرين شهراً على إزاحة رأس النظام القديم، أن تزول كل هذه المشكلات بين ليلة وضحاها أو في أمد قصير. ذلك ان القوى الخارجية المعنية، وخاصةً ولكن ليس حصراً، الولايات المتحدة، ذات النفوذ الكبير في البلد منذ عهد أنور السادات والصفقات التي تلت حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 التي خاضها جيش مصر والقوات العربية الأخرى ببسالة إستثنائية، لن تستسلم بسهولة لـ"ضياع" مصر من أيديها، كمقدمة لاحتمال ضياع مساحات واسعة من هذه المنطقة، على غرار ما حدث للولايات المتحدة في أميركا اللاتينية خلال العقد الماضي.
ومعروف ان انور السادات كان قد وظّف نتائج حرب 1973 لعقد صفقات مع الولايات المتحدة ومن ثمّ مع إسرائيل، قادت عملياً الى تبديد المكاسب التي كان يمكن أن تحققها هذه الحرب على صعيد إنهاء الإحتلال الإسرائيلي لكافة الأراضي العربية التي احتُلت في حرب حزيران/يونيو 1967 وإنجاز قدر معقول من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وأكثر من ذلك، جرى تحويل هذه الإنجازات العسكرية والمعنوية، عبر سياسة قصيرة النظر تبحث عن الكسب السريع للطغمة الحاكمة، أو للفرعون الحاكم، الى تكريس فعلي لنتائج هزيمة حزيران/يونيو، من خلال تحقيق عزل مصر عن الجبهات العربية الأخرى، ونقلها الى أحضان التحالف الأميركي- الإسرائيلي. وما حققه السادات على هذا الصعيد كان قد عُرض بثمن أقل بعد حرب 1967 على سلفه جمال عبد الناصر، الذي رفضه بشكل حازم، وأصر على ربط كافة الجبهات العربية والقضية الفلسطينية في إطار أية تسوية.
وبهذا العزل لمصر، تم ترك الجبهات الأخرى، بما في ذلك جبهة الكفاح الوطني لشعب فلسطين وقضيته وأراضيه المحتلة، تحت رحمة إسرائيل وجيشها وميزان القوى الذي فرضته، بدعم غير محدود من الولايات المتحدة لها ولسياساتها التوسعية والإمبريالية الإقليمية. جرى ذلك في البداية في سياق السياسة الأميركية لمواجهة الإتحاد السوفييتي وحلفائه في مرحلة "الحرب الباردة" الساعية الى إخراجه من المنطقة، ولاحقاً إنطلاقاً من استمرار اعتبار إسرائيل ذخراً هاماً، في منطقة غير مستقرة، لا تكنّ شعوبها الكثير من الود للولايات المتحدة، ولا تحرص على خدمة مصالح إحتكاراتها ومجمل الإحتكارات الغربية عموماً. وهي منطقة تزايدت أهميتها الإستراتيجية مع تزايد احتياطيها المكتشف من النفط والغاز والحاجة المتصاعدة للبلدان الصناعية، وغيرها من البلدان الفقيرة بموارد الطاقة، للإستيراد منها.
الصعود الصعب للمقاومة الفلسطينية... سباحة ضد التيار؟
وفي هذا السياق، شكّلت ظاهرة صعود المقاومة وحركة التحرر الفلسطينية المعاصرة منذ الستينيات الماضية، وخاصة بعد حرب العام 1967، سباحة ضد التيار، أي ضد الإتجاه العام للتراجع في أوضاع حركة التحرر العربية المستقلة ونفوذها وتأثيرها في بلدان المنطقة.
لكنها، رغم ذلك، حققت إنجازات مهمة على صعيد استنهاض وتوحيد مشاعر وفعل الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل وخارجه، وعلى صعيد تحقيق اعتراف عربي وعالمي واسع بحقوقه الوطنية. إلا ان إخراج مصر من الصراع والمواجهة مع المحتلين الإسرائيليين منذ وقت مبكر بعد حرب 1973، وبشكل واضح ومرسّم في صفقة كامب ديفيد 1978 والمعاهدة الثنائية مع إسرائيل في آذار/مارس 1979، وتفاقم التناقضات والصراعات الداخلية والإقليمية في المنطقة المشرقية العربية، من ساحة لبنان ومحيطه الى الجبهة العراقية- الإيرانية ومجمل الجبهة الخليجية، شكّلا عاملين سلبيين أضعفا إمكانية ترجمة هذه الإنجازات الفلسطينية الى مكاسب ملموسة على الأرض، وتحديداً، وفق ما حددته الهيئات الوطنية الفلسطينية من أهداف لهذه المرحلة: تحقيق إنهاء إحتلالات العام 1967 وتأمين حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحررة من الإحتلال وحق المشرّدين من وطنهم في العودة إليه.
وأضيف الى هذين العاملين السلبيين في الوضع العربي عامل هام على الصعيد الدولي، لم يكن متوقعاً إطلاقاً في السبعينيات ومعظم الثمانينيات الماضية، وهو انهيار الإتحاد السوفييتي وكتلة الدول الأوروبية الشرقية الحليفة له بين العامين 1989 و1991، مما فاقم الخلل في موازين القوى العالمية والإقليمية لصالح التحالف الأميركي- الإسرائيلي، وأنتج ما أنتج من تدخلات واجتياحات ومجازر واتفاقات حدثت في ظل هذا الإختلال المريع في الموازين.
عودة مصر الى المنطقة وعودة دورها المركزي فيها... ولو بشكل متدرج
وما يمكن أن نتوقعه الآن بعد ثورة 25 يناير الشعبية المصرية هو أن تعود مصر، ولو بشكل متدرج وعلى أمد زمني يمتد لسنوات، الى دورها العربي الفاعل، المستند هذه المرة الى قاعدة الشرعية الشعبية وليس فقط الى ميزات القائد التاريخي الفرد، الذي يتلخص الإنقلاب على نهجه بالتخلص من شخصه.
ومن الواضح ان التخلص من الشعب وإرادته وحرصه الشديد على مصالحه وحقوقه ليس بالإطلاق بهذه السهولة كالتخلص من الفرد أو القلة المتنفذة. وهكذا من المنطقي توقع عودة تدريجية لدور مصر على صعيد التمسك بالحقوق العربية والفلسطينية، ليس استناداً الى اعتبارات أيديولوجية وشحن عاطفي فحسب، وإنما على أساس المصالح والمصير المشترك بين شعوب المنطقة، المتداخلة جغرافياً، وعلى أساس التطلع لتحرر مصر نفسها من قيود مرحلة الإنكفاء والإستسلام للواقع المعادي. ووتيرة هذه العودة مرتبطة بمدى تطور وضع مصر الإقتصادي والمجتمعي وتحررها من قيود التبعية، مما سينعكس على دورها السياسي الإقليمي والدولي، ويجعلها عنصراً مؤثراً رئيسياً في المنطقة وفي موازين القوى فيها.
وعلى هذا الصعيد، كُتب الكثير في الآونة الأخيرة عن درجة النفور الشعبي المصري من سياسات الدولة الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني كما تجاه مصر نفسها... وكذلك عن النفور والمواقف السلبية تجاه الولايات المتحدة ومساعيها لإخضاع مصر وفرض دور تابع لها في سياق استراتيجيتها العامة لإدامة سيطرتها على المنطقة وثرواتها الطبيعية.
ونكتفي هنا بإيراد نتائج استطلاع نقلته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية في 24/5/2012 جاء فيه: ان 85 بالمئة من المصريين المستطلعين ينظرون سلباً الى إسرائيل، و97 بالمئة يعتبرونها كأحد أكبر التهديدات للبلد، و61 بالمئة يرغبون في إلغاء "معاهدة السلام" مع إسرائيل بالكامل. ولفت الإنتباه تطور هذه النسب خلال العام الذي سبق إجراء الإستطلاع، أي عملياً منذ الإطاحة برأس النظام السابق: فمثلاً، ارتفعت نسبة الذين يرغبون في إلغاء المعاهدة خلال السنة الماضية بمقدار 18 بالمئة في أوساط خريجي الجامعات لتصل الى 58 بالمئة. كما ارتفعت بين الشبان الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً 14 بالمئة لتصل الى 64 بالمئة من هذا الوسط. ولا تخفى على المراقب أهمية هذين القطاعين بالنسبة لمستقبل مصر القريب والأبعد.
وليس مستغرباً أن تكون ردات الفعل في إسرائيل، حتى وإن لم يجرِ التعبير عنها رسمياً بشكل واسع لحسابات مفهومة، سلبية تجاه ما جرى ويجري في مصر، وأن يبلغ القلق تجاه المستقبل حداً جعل وزير خارجيتها أفيغدور ليبرمان، المعروف بفلتان لسانه وتعبيره العلني عن جوهر تفكير زملائه في الحكم الإسرائيلي، يعتبر أن ما يجري في مصر هو أخطر بالنسبة لإسرائيل مما يجري في إيران. كما نقلت المجلة الأميركية ذاتها عن سفير إسرائيلي سابق في القاهرة، هو تسفي مازيل، قوله عشية الإنتخابات الرئاسية الأخيرة في مصر:"مهما كان الرئيس الذي سيُنتخب، فإن الشعور ان ما سيأتي بعد ذلك لن يكون جيداً"، يقصد طبعاً لإسرائيل.
والمناخ نفسه عبّر عنه العسكري والوزير الإسرائيلي السابق بنيامين بن إليعيزر، العراقي المولد والذي كان على علاقة متينة بالرئيس المصري المطاح به ومن دائمي الزيارة له، حين قال، كما نقل كاتب المقال نفسه، ان خسارة مصر، على حد تعبيره، "ستكون ضربة كبيرة جداً لنا، وينبغي أن نستعد لاحتمال مواجهة". وليس غريباً أن يعطي كاتب هذه المادة، أورن كيسلر، عنواناً معبراً لها: "أرِق في أورشليم" Sleepless in Jerusalem.
حرية الشعوب وكرامتها... هي طريق "التحرير" و"الوحدة"
ومن الواضح بعد ما آلت إليه الأمور في الوضع الفلسطيني بعد مرور أكثر من ثلاثة عشر عاماً على انقضاء استحقاق انتهاء المرحلة الإنتقالية لاتفاق أوسلو، ومضي اليمين الإسرائيلي المهيمن والمتزايد النفوذ في التوسع الإستيطاني المحموم في القدس الشرقية ومعظم مناطق الضفة الغربية المحتلتين، ومع النزعة الواضحة للإدارات الأميركية المتلاحقة للإنحياز لهذه السياسات الإسرائيلية وحمايتها من أية إدانة في المحافل الدولية، ومع محدودية تأثير القوى الدولية الأخرى على الواقع المباشر في منطقتنا، بأن ميزان القوى المتعلق بالوضع الفلسطيني لا يسمح بالخروج من المأزق الراهن بالقوة الذاتية المحلية وحدها، أو بالدعم الدولي وحده. وهو ما يجعل التطورات في المنطقة المحيطة، وخاصة في مصر، ذات أهمية خاصة في مجال فتح آفاق الخلاص للشعب الفلسطيني على أمد يمكن أن يكون مرئياً.
وهو ما لا يعني إطلاقاً عودة الى مرحلة سابقة من الإنتظار والإعتماد على العامل العربي وحده، وإنما يعني الدمج ما بين مركزية الدور الذاتي الخاص، المتمثل أساساً في هذه المرحلة بأهمية الصمود على الأرض، من جهة، وإعادة توحيد الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، من جهة أخرى، وتوفير مقومات إنجاز هاتين المهمتين، وبين الدور العربي المحيط المتداخل مع قضايا الصراع مع المحتلين، والمعتمد هذه المرة ليس على إرادة أو رغبات أو نزوات الزعيم الفرد ومريديه، وإنما على إرادة وقناعات الشعب السيد في بلده.
***
وفي هذا السياق، يمكن أن نعود قليلاً الى الوراء لنستعيد بعض الشعارات التاريخية التي رُفعت في مسيرة الشعب الفلسطيني منذ نكبة العام 1948. فمنذ ذلك الحدث المأساوي وحتى معظم الستينيات الماضية، كان رهان الجسم الرئيسي النشط للشعب الفلسطيني ينطلق من توجه تم اختصاره في حينه بشعار "الوحدة طريق العودة"، وهو الشعار الذي ينطلق من اعتبار أن وحدة البلدان العربية ودور جيوشها الموحدة هما المنطلق لتحقيق إزالة آثار الظلم الذي لحق بالشعب الفلسطيني منذ نكبة 1948. وهو شعار سرعان ما اصطدم بواقع صعب جسّده، أولاً، انهيار تجربة الوحدة بين مصر وسوريا في العام 1961، وثانياً، تلك الهزيمة العربية الكبيرة في حرب العام 1967، وما تلاها ونتج عنها من أحداث رسّخت مفاعيلها، من الإنقلاب السياسي والإقتصادي والإستراتيجي الشامل الذي جرى في مصر بعد غياب جمال عبد الناصر، الى تكريس عزل مصر وإخراجها من حلبة المواجهة والصراع في أواخر السبعينيات الماضية.
ومن ناحية أخرى، أخذ، منذ السنوات الأولى للثورة الوطنية الجزائرية في الخمسينيات الماضية، يبرز بشكل متزايد القوة توجه آخر في الساحة الفلسطينية، أختُصر بشعار "التحرير طريق الوحدة"، الذي طُرح كشعار بديل من شعار المرحلة السابقة. وهو توجه تكرّس وتدعّم بقوة بعد هزيمة الجيوش العربية في عام 1967، ثم بعد معركة الكرامة في العام التالي والصعود التاريخي لحركة مقاومة الشعب الفلسطيني في أواخر الستينيات ومطالع السبعينيات.
وكانت بعض أدبيات تلك السنوات الأولى للمقاومة الفلسطينية المعاصرة تراهن على تحويل عمليات المقاومة و"حرب العصابات" الجارية آنذاك الى حرب تحرير شعبية، على غرار ما كان يجري في فييتنام في تلك الحقبة، يتم فيها استنهاض الشعوب العربية الأخرى للمشاركة في هذه الحرب التي لا يمكن أن تنتهي إلا بإزالة الظلم الواقع على شعب فلسطين وشعوب المنطقة المتضررة من الغزو الصهيوني، إن لم يكن بإزالة مصدر هذا الظلم بمجمله. وبالرغم من الإنجازات التي حققتها المقاومة الفلسطينية، والتي سبق وأشرنا لها، إلا انها سرعان ما اصطدمت بحسابات ومصالح الأنظمة والتشكيلات القائمة في بلدان اللجوء التي أقامت فيها المقاومة الفلسطينية قواعد ارتكاز لها، ناهيك عن حسابات ومصالح القوى الخارجية المؤثرة والطامعة في المنطقة. ليتم بعد ذلك التعامل فلسطينياً بواقعية أكبر مع المعطيات والأهداف، والتخلي عن الرهان على استنهاض الوضع العربي عبر الفعل الفلسطيني الذاتي وحده.
ويمكن أن نقول الآن، وبدون أوهام مبالغ بها، ان حركة تحرر الشعوب العربية الجارية حالياً، إبتداءً بتونس ومصر، ينبغي أن تدفع باتجاه تصحيح التوجهين السابقين في مسيرة الشعب الفلسطيني باتجاه ربط مصير الشعب الفلسطيني ومصير حركة تحرره وسعيه لاسترداد حقوقه الوطنية بمصير شعوب المنطقة، وخاصة شعوب المحيط المباشر، بحيث يمكن أن نتحدث عن شعار جديد من نمط: "حرية الشعوب وكرامتها هما طريق التحرير والوحدة". مع ضرورة التوضيح بأن التحرير المقصود هو بالأساس إزالة الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني بكل مكوناته، في الوطن المحتل وأقطار اللجوء والهجرة، وأن الوحدة المبتغاة هي، في المقام الأول، وحدة العمل والتطلعات والتكامل بين البلدان التي تحررت من أنظمة الإستبداد والفساد والتبعية.
فتجاوز الفقر والبطالة واستنهاض الوضع الإقتصادي والإجتماعي وإنهاء قيود التبعية العسكرية والإقتصادية والسياسية في مصر، وغيرها من بلدان المنطقة، كلها تجعل هذه البلدان قادرة على إسناد فعال لحركة تحرر الشعوب العربية، وخاصة في كفاحها لاسترداد سيادتها على أراضيها المحتلة واستعادة حقوقها المنتهكة، بما يشمل حقوق شعب فلسطين. أي ان عملية التحرر العربية لا يستهضها فعل الشعب الفلسطيني وحده، كما كانت توحي شعارات نهاية الستينيات. كما ان الأنظمة العربية التي لا تستمد مشروعيتها من شعبها غير قادرة على إنجاز مهمة مواجهة هجمات وتعديات التحالف الإسرائيلي – الأميركي وتحقيق أهداف التحرر الفلسطينية والعربية، بمعزل عن درجة الوطنية (الفعلية، أو المفترضة) لحكامها، ناهيك عن قدرة هذه الأنظمة على تحقيق الوحدة في ما بينها.
فالشعوب الحرة التي يخضع مسؤولوها لرقابتها ومحاسبتها، ويسعون بالتالي الى التعبير عن مصالحها وإرادتها وتطلعاتها، هي القادرة على تحقيق المهمات التاريخية الكبرى، من حجم مهمة فرض الإنكفاء على المشروع الصهيوني- الإمبريالي التوسعي واستعادة الحقوق الفلسطينية، وتحقيق التكامل والتعاضد الفعلي بين الدول العربية، حتى لا نقول الوحدة، التي هي درجة أعلى من إنجاز هذا التكامل والتعاضد.
ومن هذا المنطلق بإمكاننا أن ننظر بالكثير من الثقة الى ما يمكن أن يتحقق في المنطقة ولشعوبها من مرحلة الإنعتاق الراهنة التي تجسدها الثورات الشعبية العربية. ومرة أخرى، فإن ما ستؤول إليه الأمور في مصر تحديداً، بعد سنوات تطول أو تقصر من المصاعب والعقبات، وربما حتى بعض الإنتكاسات ومحاولات الإعاقة الداخلية أو التخريب الخارجي، هذا المآل سينعكس على المناخ العام في كل المنطقة. وذلك مهما حصل في المرحلة الراهنة في البلدان العربية الأخرى، غير مصر وتونس، التي شهدت أو ما زالت تشهد حراكات وانتفاضات شعبية. فمهما طال الزمن وتنوعت سيناريوهات التغيير، فإن ما ينبغي أن تدركه كافة الأنظمة المستبدة والمستلبة لإرادة شعوبها في منطقتنا هو ان هذه المنطقة دخلت في مرحلة تاريخية جديدة لم يعد من الممكن فيها استمرار مصادرة حقوق الشعوب وحرياتها. وستكون مصر الجديدة، مصر شعبها، مرة أخرى كما كانت في الخمسينيات والستينيات، وكذلك في مراحل تاريخية سابقة، نموذجاً يحتذى به لبلدان المنطقة، يساهم في إنضاج عملية التغيير التاريخية هذه في أنحائها.
وبطبيعة الحال، ستواصل القوى الإستعمارية الخارجية، والدول والأطراف التابعة لها في المنطقة، من جانب آخر، العمل، في مصر وغير مصر، على عرقلة هذا التحول ومنع وصوله الى حالة متطورة ومستقرة لسيادة الشعوب على أوطانها. خاصة بعد أن كانت هذه القوى قد استفادت لعقود طويلة من وجود أفراد أو قلة صغيرة من أصحاب السطوة في بلدان المنطقة، يمكن التعامل معهم بسهولة أكبر وبمطواعية، سواء من خلال الترغيب والتوظيف أو من خلال الإبتزاز والترهيب، أو بمزيج منها كلها. وهذه القوى الإستعمارية تدرك تماماً ان التعامل مع شعوب حرة، تدافع أولاً وقبل كل شيء عن مصالحها العامة وعن مستقبل أوطانها، أصعب بكثير، وأن لا ضمان لمصالح هذه القوى الخارجية إلا بمقدار التجاوب المقابل مع مصالح شعوب المنطقة نفسها، على قاعدة ما عُرف في نهاية القرن المنصرم بـ"توازن المصالح". وفي النهاية، عندما ينضج التحول في بلدان المنطقة، ويترسخ المنحى العام له، لا مفر لهذه الأطراف الخارجية من التعامل مع هذا الواقع الجديد وفق قاعدة التوازن هذه.
هذه هي معركة شعب مصر خلال السنوات القادمة، ومعركة شعب فلسطين، وكل شعوب المنطقة، التي اختارت، أخيراً، أن تكسر الأطواق من حولها، بعد أن كانت، في حقبة التبعية والإستسلام، قد خرجت من التاريخ، وفق عنوان كتاب لأحد المثقفين العرب في أواخر القرن الماضي. وما نراه الآن من تطورات يشير الى أن هذا الخروج كان خروجاً ظرفياً، وأن الطريق بات الآن مفتوحاً أمام العرب للعودة من جديد الى التاريخ، الذي كانوا في الماضي، من صنّاعه.
(هذه المادة قُدمت كمداخلة في مؤتمر مؤسسة "مواطن" الذي عُقد في مدينة رام الله- البيرة في الضفة الغربية المحتلة قبل أيام، وتناول مآلات الثورات العربية بعد عامين على انطلاقها).