عودة الى خلفيات تغيّر موقف الإتحاد السوفييتي من المشروع الصهيوني في أواخر الأربعينيات الماضية
داود تلحمي
الحوار المتمدن
-
العدد: 3708 - 2012 / 4 / 25 - 04:10
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
التحول المفاجئ في ربيع العام 1947 في الموقف الرسمي لحكومة الإتحاد السوفييتي تجاه المشروع الصهيوني في فلسطين، أثار في حينه الكثير من التساؤلات والجدل في منطقتنا وخارجها حول خلفيات ومبررات هذا التحول، الذي أدهش كل المعنيين في ذلك الزمن، بما في ذلك الزعامات الصهيونية نفسها.
وهو موضوع ما زال مثار اهتمام المؤرخين والمهتمين المتابعين لتاريخ الإتحاد السوفييتي وتاريخ المنطقة الشرق متوسطية ومسار وتحولات القوى الشيوعية واليسارية العربية وغير العربية في هذه المنطقة في سنوات ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ولا شك أن من مصلحة القوى اليسارية العربية، وغير العربية، التي تسعى الآن، بعد مرور أكثر من عقدين من الزمن على انهيار التجربة السوفييتية في التحول الإشتراكي وتفكك الإتحاد السوفييتي وتخلي بلدان الجوار الحليفة له عن مشروع التحول هذا، أن تتلمس بوضوح خلفيات وحقائق تلك الحقبة، نظراً لما تركته من تأثيرات لاحقة ما زالت تترك بصماتها على مسار التيارات اليسارية العربية وغير العربية، المشرقية خاصةً، وعلى النظرة الى دورها التاريخي .
إدانات واضحة للمشروع الصهيوني من قبل قادة الفكر الماركسي، بمن فيهم لينين
وهنا ينبغي التذكير بأن التيارات التي تبنت الفكر الماركسي والخيار الإشتراكي، كما والحركة الشيوعية التي تطورت بشكل واسع في أنحاء العالم بعد انتصار الثورة السوفييتية في أواخر العام 1917 في روسيا، هذه التيارات كانت قد اتخذت، منذ وقت مبكر، موقفاً سلبياً ونقدياً واضحاً من المشروع الصهيوني، ومن الفكر الصهيوني نفسه، الذي اعتبرته متناقضاً مع الفكر الماركسي الأممي. وهناك كتابات وتصريحات واضحة لكبار الثوريين الماركسيين قبل الثورة السوفييتية وبعدها تفصح عن هذا الموقف النقدي السلبي تجاه الحركة الصهيونية. وهي كتابات ومواقف تشمل العديد من القادة الثوريين والمفكرين الماركسيين، بمن فيهم ذوو الجذور الدينية أو الثقافية اليهودية.
ولقائد الثورة السوفييتية ومؤسس الإتحاد السوفييتي فلاديمير لينين مواقف عديدة ومعروفة ضد السياسات والأفكار الصهيونية وتلك الداعية الى تمييز المواطنين اليهود وفصلهم عن المواطنين الآخرين، وفصل عمالهم عن عمال البلدان الأخرى التي يعيشون فيها، بحجة وجود "أمة يهودية" أو "شعب يهودي"، وهي أفكار وآراء كان لينين يعتبرها رجعية وشوفينية. ولذلك خاض معركة فكرية وسياسية حادة ضد التنظيم الذي كان معروفاً في الحركة العمالية واليسارية في روسيا القيصرية منذ أواخر القرن التاسع عشر باسم "بوند"، وهو الإسم المختصر لـ"الإتحاد العام للعمال اليهود في ليثوانيا وبولندا وروسيا"، الذي عقد مؤتمره التأسيسي في العام 1896، أي قبل عام من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في سويسرا، بمبادرة من مؤسس الحركة الصهيونية السياسية المعاصرة تيودور هيرتسل.
ولن نطيل في الإستشهاد بكتابات ومواقف لينين تجاه الـ"بوند" كما تجاه الحركة الصهيونية الناشئة آنذاك، ونكتفي بإيراد نص تم إقراره في المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية الذي انعقد في موسكو في الشهرين السابع والثامن من العام 1920 بإشراف لينين ومشاركة رفاقه في قيادة الحزب البلشفي، وعدد منهم، كما ذكرنا، من منشأ ديني يهودي. ففي المادة السادسة من "الأطروحات والإضافات حول القضايا القومية والإستعمارية" التي تم إقرارها في المؤتمر، ورد تركيز على الضرورة الملحة لفضح مساعي الإمبرياليين، خاصة "في قضية الصهيونيين في فلسطين، حيث، تحت حجة إقامة دولة يهودية- في هذا البلد الذي لا يبلغ فيه عدد اليهود سوى أرقام محدودة جداً-، تقوم الصهيونية بتعريض السكان المحليين من العمال العرب لاستغلال إنكلترا". وفي الشهر التاسع من العام ذاته، جرت إدانة الصهيونية وتحالفها مع القوى الإمبريالية بإجماع المشاركين في المؤتمر الأول لشعوب الشرق، الذي انعقد في باكو (العاصمة الحالية لجمهورية أذربيجان، التي كانت جزءً من الإتحاد السوفييتي قبل العام 1991).
واستمر موقف الإتحاد السوفييتي تجاه الحركة الصهيونية ومشروعها في فلسطين على هذا النحو في العشرينيات والثلاثينيات، بما في ذلك بعد رحيل لينين في العام 1924. ولم تكن هناك أية اتصالات لمسؤولين أو دبلوماسيين سوفييت مع رموز الحركة الصهيونية، التي كانت تنشط في اتصالاتها الكونية منذ بداياتها، إلا بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، ولأسباب براغماتية، كما يتضح من الدراسات الحديثة التي صدرت بعد الكشف عن عدد من وثائق الإتحاد السوفييتي الدبلوماسية والسياسية إثر انهياره وتفككه.
وفي إحدى هذه الدراسات الجادة، وهي لأستاذ وباحث جامعي فرنسي، يشار الى أن أول اتصال بين شخصية من الحركة الصهيونية ومسؤول سوفييتي كان في الشهر الثاني من العام 1940، أي بعد بدء الحرب، عندما التقى كبير حاخامات فلسطين إسحق هاليفي هيرتسوغ بسفير الإتحاد السوفييتي في لندن، إيفان مايسكي، لطلب تأشيرات عبور لطلاب المدارس الدينية اليهودية الذين هربوا من بولندا الى ليثوانيا ويريدون الهجرة الى فلسطين. وكانت فلسطين آنذاك تحت الإنتداب البريطاني، وكان البريطانيون قد اضطروا منذ ربيع العام 1939، وتحت الضغوط التي ولّدتها ثورة شعب فلسطين العربي منذ العام 1936 الى إصدار "كتاب أبيض" يتعهدون فيه بالحد من الهجرة اليهودية الى فلسطين، التي كان يعتبرها العرب الفلسطينيون تهديداً لمستقبلهم ولمصيرهم وسيادتهم على وطنهم وأراضيهم.
وفي الشهر الأول من العام 1941، أي بعد بدء الحرب وبعد صدور "الكتاب الأبيض" الذي عارضته الحركة الصهيونية، التقى رئيس المنظمة الصهيونية العالمية حاييم وايزمان بالسفير السوفييتي في لندن ذاته، مايسكي، لطرح قضية انتقال اليهود في أوروبا الوسطى والشرقية الى فلسطين. وفي 9/10/1941 التقى رئيس الوكالة اليهودية دافيد بن غوريون بالسفير مايسكي في لندن لمزيد من التفاعل والنقاش حول الحركة الصهيونية ومشروعها. وكانت المانيا النازية قد خرقت معاهدة عدم الإعتداء مع الإتحاد السوفييتي وبدأت إجتياحها للأراضي السوفييتية في الشهر السادس من العام ذاته، أي قبل موعد هذا اللقاء. وواضح من محضر هذا اللقاء أن هاجس السفير السوفييتي كان حث اليهود الأميركيين ذوي النفوذ الكبير في بلدهم على الضغط على إدارتهم لتوفير السلاح بمختلف أنواعه وبأقصى سرعة للإتحاد السوفييتي للتصدي للهجوم النازي، الذي كان آنذاك في أوج حدته، وكانت القوات النازية متجهة بقوة نحو العاصمة موسكو ونحو مهد الثورة لينينغراد، سانكت بيترسبورغ سابقاً ولاحقاً، ونحو جنوب شرق الإتحاد السوفييتي حيث منابع النفط. ولم تكن الولايات المتحدة قد دخلت بعد في الحرب في تاريخ هذا اللقاء، بالرغم من دعمها لكل من بريطانيا والإتحاد السوفييتي ضد المحور الألماني – الإيطالي. ولن تتأخر واشنطن في الإنخراط الكامل في الحرب بعد ذلك بفترة وجيزة، عندما قام اليابانيون بهجوم مباغت على الأسطول الأميركي في ميناء بيرل هاربر في جزر هاواي في الشهر الأخير من العام ذاته 1941.
وفي الشهر الأول من العام 1942، التقى ممثل الوكالة اليهودية في القاهرة إلياهو إبشتاين بسفير الإتحاد السوفييتي في تركيا سيرغي فينوغرادوف بوساطة من السفير البريطاني هناك. وفي الشهر الثامن من العام ذاته، وصل الى فلسطين دبلوماسيان سوفييتيان من سفارة موسكو في أنقرة للمشاركة في تأسيس عصبة "في" التي تشكلت هناك على أيدي عناصر يسارية بهدف دعم المجهود الحربي السوفييتي، وانتهزا الفرصة للإطلاع المباشر على الأوضاع في البلد وقدما تقريرهما عن اتصالاتهما ومشاهداتهما.
ومع إنتهاء مهمة السفير السوفييتي مايسكي في لندن، وفي طريق عودته الى موسكو، عرّج على مصر وفلسطين، حيث أجرى لقاءات مع المسؤولين البريطانيين وأطراف محلية، بما في ذلك مسؤولين في الحركة الصهيونية، وخاصة دافيد بن غوريون. وكان أحد هواجسه معرفة قدرة فلسطين على الإستيعاب السكاني. وقبل مغادرته لندن، كان قد التقى بحاييم وايزمان مرة أخرى، حيث تساءل تحديداً عن قدرة فلسطين على الإستيعاب، خاصةً مع "صغر حجمها"، كما أشار في تقريره المرسل الى موسكو عن اللقاء.
وكانت الأوساط القيادية المقررة في موسكو تناقش في تلك الفترة سياساتها الدولية بعد الحرب، وخاصة بعد انكسار الهجمة النازية إثر الإنتصار السوفييتي الكبير في معركة ستالينغراد في مطلع العام 1943 وبدء الهجوم السوفييتي المضاد لطرد القوات النازية من البلاد، وهو ما بدأ يؤشر الى قرب نهاية الحرب. وفي سياق مناقشة أوضاع المنطقة الشرق متوسطية، كان المسؤولون السوفييت يستعرضون جوانب الخيارين المفتوحين أمامهم في تلك المنطقة: ما سُمي بـ"الخيار العربي"، أو "الخيار اليهودي". وكانت المشكلة بالنسبة لهؤلاء المسؤولين في الخيار الأول تكمن في كونها كانت ترى في حكام الدول العربية القائمة آنذاك "عملاء للبريطانيين"، مما جعلهم يتشككون في كل المشاريع التي كانت تُطرح آنذاك بشأن مصير المنطقة العربية المشرقية، بما في ذلك مشروع جامعة الدول العربية الذي بدأ التداول فيه في العام 1944 وتم الإعلان عن قيام الجامعة في العام التالي. وكان الموقف السوفييتي متحفظاً تجاه هذا المشروع بسبب رؤيتهم لعلاقة بريطانيا به، مع ان السفير السوفييتي في القاهرة أوصى، في إحدى رسائله، القيادة السوفييتية بتخفيف اللهجة النقدية لمشروع الجامعة العربية، نظراً لكونه يحظى بشعبية على صعيد الشارع، حسب التقرير الذي أرسله.
عداء سوفييتي قديم لبريطانيا، الإمبريالية الأولى قبل الحرب العالمية الثانية
وجدير بالذكر ان التحالف الذي كان قائماً أثناء الحرب ضد التحالف الألماني- الإيطالي- الياباني بين كل من الإتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا، كان تحالفاً قائماً على المصلحة المشتركة في هزيمة الحلف المضاد، دول المركز، ولكن الكثير من الشك وانعدام الثقة بقي قائماً بين الإتحاد السوفييتي، من جهة، والحليفين الأميركي والبريطاني. لا بل كان العداء السوفييتي لبريطانيا أكبر منه للولايات المتحدة لأسباب لها علاقة بكون بريطانيا كانت الدولة الإمبريالية الرئيسية المنافسة قبل الحرب، بما في ذلك في المناطق القريبة من الإتحاد السوفييتي، وخاصة المنطقة الشرق متوسطية، التي تشمل الى جانب المنطقة العربية بلداناً مثل إيران وتركيا واليونان، وكلها كان النفوذ الخارجي الأول فيها هو النفوذ البريطاني، حتى في السنوات الأولى التي تلت نهاية الحرب. كما ان العداء لبريطانيا له بعدُ تاريخي، حيث دخلت روسيا ما قبل السوفييتية في القرن التاسع عشر في مواجهات مع بريطانيا في المنطقة المشرقية وفي مناطق السلطنة العثمانية، وتمثلت إحدى هذه المواجهات في حرب القرم الشهيرة في أواسط القرن التاسع عشر (1853-1856) والتي خسرتها روسيا لصالح بريطانيا وحلفائها. ولم تكن الولايات المتحدة قد دخلت بعد بقوة الى هذه المنطقة، ولكن بوادر اهتمامها بها بدأت تظهر بعد الحرب العالمية الأولى مع السعي الأميركي لتوطيد النفوذ الخاص، وبشكل خاص في المملكة العربية السعودية، التي ظهر فيها احتياطي نفطي هام حتى قبل بداية الحرب العالمية. ولاحقاً، اتسع الإهتمام الأميركي ليشمل عموم المنطقة الشرق متوسطية، وهو ما سيظهر بوضوح خلال العقد الأول بعد انتهاء الحرب وبشكل حاد خلال، وبعد، العدوان البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي على مصر في العام 1956.
وفي هذا السياق، لم يكن مستغرباً أن ينتقل الرئيس الأميركي فرانكلين روزفيلت مباشرةً من قمة يالطا، التي جرت في منطقة القرم السوفييتية في الشهر الثاني من العام 1945، قبل أسابيع قليلة من هزيمة المانيا النازية النهائية في مطلع الشهر الخامس من العام ذاته، الى إحدى بحيرات قناة السويس، غير البعيدة كثيراً عن يالطا، ليلتقي على ظهر إحدى السفن الأميركية بمؤسس المملكة السعودية الملك عبد العزيز آل سعود، ليناقش معه تحديداً إمتيازات الشركات النفطية الأميركية في الحقول السعودية، من جهة، وليطرح، من جهة أخرى، على الملك السعودي فكرة دعم قيام الدولة اليهودية في فلسطين. وكان الملك السعودي مستجيباً في الشق الأول، بشأن الحضور الأميركي النفطي والعسكري في السعودية، وسلبياً في مسألة الدولة اليهودية في فلسطين. وكان رئيس الحكومة البريطانية وينستون تشيرتشل المشارك في قمة يالطا قد سعى بدوره بعد القمة الى التقاء الملك السعودي طمعاً بالحصول على "الكنز" النفطي السعودي لصالح الشركات البريطانية، وهو لقاء حصل بعد لقاء روزفيلت بالملك عبد العزيز، الذي ارتاح أكثر لسلوك الرئيس الأميركي وانزعج من عجرفة رئيس الوزراء البريطاني، مما حسم مسألة الإمتيازات النفطية لصالح الأميركيين. وكانت هذه الحادثة تؤشر، حتى قبل نهاية الحرب، الى التنافس اللاحق الذي سيجري بين الدولتين الغربيتين على النفوذ في مجمل المنطقة الشرق متوسطية، وفي العالم، تنافس بين دولة إمبريالية هرمة أنهكتها الحرب واستنزفت مواردها، ودولة إمبريالية فتية خرجت من الحرب أكثر قوة وبدأت بتوسيع مناطق نفوذها لاحقاً لتتجاوز مناطق النفوذ التقليدية لها في جوارها الأميركي الشمالي والجنوبي، كما وبعض المناطق الآسيوية منذ أواخر القرن التاسع عشر، الى مجمل الخارطة الكونية بعد الحرب. وهنا برز أيضاً بعد الحرب ذلك التنافس الجديد الهام مع الخصم الأيديولوجي الذي صعد بدوره خلال الحرب العالمية بعد تحقيقه لإنجازات عسكرية باهرة، وهو الإتحاد السوفييتي.
وكان من الواضح بالنسبة لصناع القرار في موسكو أن التحالف الذي نشأ أثناء الحرب مع بريطانيا والولايات المتحدة لن يستمر طويلاً. ولكنهم لم يكن يسعون لمواجهة ساخنة وسريعة، خاصةً وأن الإتحاد السوفييتي كان يسعى الى تضميد جراح الحرب الهائلة، وهو الذي تكبّد الحجم الأكبر من الخسائر البشرية والمادية أثناء الحرب.
الصراع الحاد حول فلسطين وكل شرق المتوسط
وبشأن مصير فلسطين، تداول المسؤولون السوفييت احتمال طرح فكرة وصاية سوفييتية- أميركية- بريطانية على فلسطين بديلاً عن الإنتداب البريطاني المنهك والمربك هناك. لكن مثل هذه الفكرة لم يكن لها حظ بالقبول من الطرفين الآخرين، المتشككَيْن أساساً في نوايا السوفييت، حيث يعتقدان أن موسكو تطمح الى تأمين تواجد لها في منطقة غابت عنها منذ العام 1917.
كل ذلك وكل منطقة شرق المتوسط كانت مسرح نزاعات في تلك الفترة، بما في ذلك إيران وتركيا واليونان. فاليونان كانت على تشهد مواجهة داخلية واسعة بعد أن خرج الشيوعيون اليونانيون من الحرب العالمية بقوة متزايدة بفعل دورهم النشط في مقاومة الإحتلال النازي الألماني والفاشي الإيطالي. وكادت هذه القوة تجعلهم يسيطرون على البلد، حتى بالوسائل الديمقراطية، وهو ما سعى البريطانيون، بدعم أميركي ثم بحلول أميركي مكانهم، للحؤول دونه. وفي هذا السياق، اتخذ البريطانيون موقفاً سلبياً من عرض وزير الخارجية السوفييتي فياتشيسلاف مولوتوف في أواخر العام 1945 على نظيره البريطاني إرنست بيفن أثناء مؤتمر لوزراء الخارجية في لندن بمقايضة انسحاب الجيش السوفييتي من شمال إيران بإنسحاب بريطانيا من مصر وفلسطين.
وكانت الأشهر الأولى التي تلت إنتهاء الحرب العالمية الثانية قد أخرجت الى السطح بعض التباينات بين الإدارة الأميركية والحكومة البريطانية بشأن مستقبل فلسطين وقضية هجرة اليهود الأوروبيين اليها. ففيما كانت بريطانيا تسعى للحفاظ على ماء الوجه بشأن تعهدها في "الكتاب الأبيض" في العام 1939 بتقنين هجرة اليهود الى فلسطين، كانت واشنطن تسعى، بالمقابل، للضغط عليها للقبول بهجرة مئة الف أوروبي يهودي الى فلسطين، خاصة بعد انكشاف حجم الإضطهاد النازي للمواطنين الأوروبيين اليهود خلال الحرب. وكانت الولايات المتحدة تسعى للحد من هجرة الأوروبيين اليهود اليها، خاصةً وان معظم هؤلاء اليهود الراغبين بالهجرة من بلدانهم والمتجمعين في بعض المناطق الأوروبية كانوا يفضلون الولايات المتحدة كمكان استقرار على فلسطين لو كان الخيار متاحاً لهم، في حين كانت قيادات الحركة الصهيونية تسعى لتضييق الخيارات عليهم لدفعهم للتوجه الى فلسطين، وتضغط على مراكز القرار في واشنطن لهذا الهدف.
موسكو تسعى للإستفادة من التناقضات البريطانية- الأميركية آنذاك
ورداً على الضغط الأميركي عليها بشأن السماح بدخول المهاجرين اليهود الى فلسطين، بادرت لندن الى اقتراح تشكيل لجنة تحقيق إنكليزية- أميركية للبحث في مصير هؤلاء الأوروبيين اليهود. وهي اللجنة التي تشكلت فعلاً في الشهر الأول من العام 1946 وقامت، بضغط من الجانب الأميركي، بتوسيع مجال اهتمامها لتشمل الوضع في فلسطين. وقد انزعج الإتحاد السوفييتي من استبعاد مشاركته في هذه اللجنة، بعد أن كان السوفييت في حلف مشترك مع بريطانيا والولايات المتحدة أثناء الحرب. وكانت ردة الفعل السوفييتية على هذا الإستبعاد إتخاذ قرار حازم بالعمل على إنهاء الإنتداب البريطاني على فلسطين في أسرع وقت ممكن، وعلى تدويل قضية فلسطين. كما اتجهت موسكو للإستفادة من التباين في المواقف بين لندن وواشنطن، وهو تباين سيزداد وضوحاً في السنوات القادمة، مع سعي الولايات المتحدة للحلول مكان بريطانيا (وفرنسا أيضاً) كالقوة الكبرى ذات النفوذ الأوسع في منطقة شرق المتوسط، وهو السعي الذي شهد محطة هامة في تقدمه أبان حرب السويس والعدوان الإسرائيلي- البريطاني- الفرنسي على مصر في أواخر العام 1956، حين اتخذت الإدارة الأميركية آنذاك توجهاً يدعم سحب قوات الأطراف الثلاثة من مصر، لتكرس بذلك بداية انحسار النفوذ البريطاني (والفرنسي) على نطاق واسع في تلك المنطقة.
وهذا ما التقطه السفير السوفييتي في واشنطن، ن. نوفيكوف، وهو الذي افتتح السفارة السوفييتية في القاهرة في العام 1943 في برقية سرية مطولة أرسلها الى موسكو تتناول تردي أوضاع بريطانيا وسعي الولايات المتحدة لوراثة نفوذها. ومما جاء في هذه البرقية الهامة والمعبرة عن السياسات السوفييتية آنذاك أن بريطانيا "تواجه مصاعب إقتصادية وسياسية هائلة" بفعل الحرب. حيث إن "ركائز الإمبراطورية البريطانية اهتزت بقوة، ونشأت أزمات، في الهند وفلسطين ومصر، على سبيل المثال". ويضيف انه فيما توصلت الولايات المتحدة وبريطانيا الى اتفاق بشأن الشرق الأقصى، فقد فشل ذلك في الشرق الأدنى حيث "الولايات المتحدة غير مهتمة بتوفير المساعدة والدعم للإمبراطورية البريطانية في هذه المنطقة الهشة، وإنما مهتمة بدخولها هي بشكل أعمق الى حوض المتوسط والشرق الأدنى، حيث الولايات المتحدة تجتذبها الموارد الطبيعية لهذه المنطقة، وفي المقام الأول النفط". وفي هذا السياق، اعتبر نوفيكوف في برقيته أن فلسطين "نموذج للتناقضات الحادة جداً بين سياسات الولايات المتحدة وإنكلترا في الشرق الأدنى". واستطرد السفير السوفييتي محللاً بأن الطلب الأميركي لبريطانيا بالسماح لهجرة مئة ألف أوروبي يهودي الى فلسطين ليست نتيجة تعاطف مع القضية الصهيونية، بل "هي تعني أن رأس المال الأميركي يرغب في التدخل في الشؤون الفلسطينية والولوج الى الإقتصاد. وما اختيار مرفأ في فلسطين كإحدى نقاط وصول أنبوب النفط الأميركي يفسر جانباً كبيراً من السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشأن مسألة فلسطين". وانتهى السفير السوفييتي الى القول بأن "الشرق الأدنى سيصبح بؤرة للتناقضات الإنكليزية الأميركية التي ستفجّر الإتفاقات التي تم التوصل إليها بين الولايات المتحدة وإنكلترا".
ورغم إشارته الى الخطر الجديد الذي يشكله تدعيم المواقع الأميركية في الشرق الأدنى بالنسبة لأمن المناطق الجنوبية للإتحاد السوفييتي، إلا ان السفير نوفيكوف اعتبر ان التناقضات الأميركية- الإنكليزية، بما في ذلك بشأن السماح بدخول المهاجرين الأوروبيين اليهود الى فلسطين، يمكن الإستفادة منها لمحاصرة الموقف البريطاني.
وكان المسؤولون السوفييت يحرصون في تلك الفترة على عدم تورط أي دبلوماسي سوفييتي في هجرة الأوروبيين اليهود الى فلسطين، بما في ذلك هجرة مواطني الإتحاد السوفييتي ومواطني البلدان الجديدة التي باتت حكوماتها مرتبطة به بعد الحرب. حيث كان الموقف الرسمي السوفييتي يعارض هذه الهجرة ويدعو الى حل مشكلة التحول الديمقراطي في أوروبا نفسها بما يسمح بحل مشكلة اليهود في كل بلد ينتمون اليه. لكن، في واقع الحال، وصل فعلاً عدد من المواطنين اليهود من بلدان مثل بولندا ورومانيا الى فلسطين. وكانت لجنة التحقيق الأنكلو- أميركية التي تشكلت في مطلع العام 1946 ونشرت تقريرها في 13/4 من العام ذاته، قد أوصت في هذا التقرير بالسماح بهجرة مئة ألف أوروبي يهودي الى فلسطين وباستمرار الإنتداب البريطاني هناك الى أن يتم الإتفاق على وصاية منظمة الأمم المتحدة على البلد.
ولم يكن الإتحاد السوفييتي مرتاحاً لهذا التقرير، خاصة بعد استبعاده من المشاركة في لجنة التحقيق التي توصلت اليه، ولذلك اتخذ موقفاً سلبياً منه. ففي مذكرة أرسلها مسؤول دائرة الشرق الأوسط في الخارجية السوفييتية ديكانوزوف الى مفوض الشؤون الخارجية أندريه فيشينسكي اقترح موقفاً من أربع نقاط:
# رفض استخلاصات تقرير اللجنة الإنكليزية- الأميركية.
# معارضة الهجرة اليهودية الى فلسطين، حيث ان دمقرطة البلدان الأوروبية واجتثاث جذور الفاشية هما الكفيلان بتوفير ظروف حياتية طبيعية للمواطنين اليهود.
# إنهاء الإنتداب البريطاني وانسحاب القوات الأجنبية من فلسطين.
# إقامة نظام وصاية من قبل منظمة الأمم المتحدة على فلسطين حتى توفر شروط إقامة فلسطين مستقلة وديمقراطية.
وتستبعد المذكرة إقامة دولة يهودية في فلسطين، وهو المشروع الذي كانت الحركة الصهيونية قد باتت تدعو له بشكل واضح في تلك المرحلة.
وبقي هذا هو الموقف الرسمي السوفييتي تجاه مسألة فلسطين حتى الشهر الرابع من العام 1947، حيث تقدر الدراسة المشار إليها أعلاه بأن التحول في الموقف تجاه المشروع الصهيوني وتجاه تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها قد حدث في ذلك الشهر، ولم يظهر الى العلن إلا في خطاب أندريه غروميكو، نائب وزير الخارجية، الشهير في 14/5/1947 في الإجتماع الإستثنائي للجمعية العامة للأمم المتحدة المخصص لبحث مصير فلسطين، والذي دعت إليه بريطانيا بعد أن أُنهكت من الوضع المتردي في البلد والضغوط المتعددة الممارسة عليها.
فما الذي حصل في الشهر الرابع من العام 1947 حتى تغيّر موسكو موقفها بشكل درامي؟
إندلاع "الحرب الباردة" والتحول في الموقف السوفييتي من المشروع الصهيوني
تشير الدراسة المشار اليها أعلاه الى حدث كبير في ذلك الشهر تمثل في خطاب الرئيس الأميركي هاري ترومان في 12/3/1947 الذي تحدث فيه عن ضرورة "إحتواء" التمدد السوفييتي والشيوعي في العالم، وهو الخطاب الذي أُطلق ما عُرف باسم "مبدأ ترومان"، والذي يُعتبر عادةً بداية ما أُطلق عليه اسم "الحرب الباردة" بين الولايات المتحدة وحلفائها، من جهة، والإتحاد السوفييتي وحلفائه، من جهة أخرى. ويبدو انه، منذ ذلك الحين، أصبحت موسكو تنظر الى مختلف القضايا الدولية من منظار هذه المواجهة المستعرة بمبادرة أميركية، منسقة مع بريطانيا، التي تخلت عن دورها القيادي للولايات المتحدة.
ففيما كانت دائرة الشرق الأدنى في الوفد السوفييتي الى منظمة الأمم المتحدة قد أوضحت في الشهر الثالث من العام 1947 بأن الإتحاد السوفييتي لا يتصور إيجاد دولة يهودية في فلسطين وإنما ينظر الى "فلسطين واحدة مستقلة وديمقراطية تؤمن للسكان المقيمين هناك تمتعهم بحقوق قومية وديمقراطية متساوية"، فاجأ نائب وزير الخارجية السوفييتي أندريه غروميكو مستمعيه في 14/5 عندما أورد في خطابه أمام الجلسة الخاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة كلمات غير معهودة في الخطاب السوفييتي: "إن التجربة السابقة، وخاصة أثناء الحرب العالمية الثانية، تُظهر أن ليس هناك دولة أوروبية غربية تمكنت من توفير مساعدة ملائمة للشعب اليهودي في الدفاع عن حقوقه وعن وجوده تجاه عنف الهتلريين وحلفائهم. وهذا واقع غير مسرّ، ولكن ينبغي، لسوء الحظ، كما بالنسبة لوقائع أخرى، الإقرار به"..."وهو ما يفسر تطلعات اليهود لإقامة دولة خاصة بهم. وسيكون من غير العدل ألا نأخذ ذلك بعين الإعتبار وأن ننكر على الشعب اليهودي تحقيق تطلعه هذا".
وتسجل الدراسة المشار إليها أن اللغة المستخدمة في هذا الخطاب تضمنت مصطلحات غير معهودة في اللغة السياسية السوفييتية، ومنها تعبير "الشعب اليهودي"، الذي كانت أدبيات لينين ومن رافقوه وخلفوه خلال العقود الثلاثة السابقة منذ ثورة 1917، وقبلها كذلك، لا تستخدمه، لا بل تنتقده وتدينه بحدة، كما أوضحنا سابقاً.
أما ما جرى بعد ذلك فبات معروفاً. فالإتحاد السوفييتي أيّد قرار التقسيم في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29/11/1947، واعترف بدولة إسرائيل بعد إعلانها في الشهر الخامس من العام التالي.
أما كيف انعكس تغيّر الموقف السوفييتي في العام 1947 على الحركة الوطنية واليسارية في العالم العربي فهو ما يحتاج الى مجال آخر للتدقيق فيه ودراسته. ونكتفي هنا بإيراد ملاحظات القائم بأعمال السفارة السوفييتية في العراق، أ. سلطانوف، والتي بعثها في مذكرة داخلية الى موسكو عشية التصويت على قرار تقسيم فلسطين، حيث استعرض فيها ردود الفعل العربية على الموقف السوفييتي المستجد والإنعكاسات المحتملة في المنطقة. وخلص الى اعتبار ان النتائج السلبية المحتملة للدعم السوفييتي للدولة اليهودية تفوق النتائج الإيجابية، مشيراً الى احتمال نفور العالم العربي، وتدعيم التحالف بين الأنكلو ساكسونيين (والمقصود بريطانيا والولايات المتحدة) والحكام الرجعيين في الجامعة العربية، وتعزيز كتلة إسلامية معادية للسوفييت مكونة من الجامعة العربية وتركيا وباكستان، واضطهاد "الحركة الديمقراطية والثورية"، مشيراً هنا الى الأحزاب الشيوعية. كما أشار سلطانوف الى احتمال ان "تتحول الدولة الصهيونية الى قاعدة للتمدد الأميركي" في الشرق الأوسط.
وتبدو هنا بعض توقعات الدبلوماسي السوفييتي في العراق قريبة من واقع ما حدث. وفيما كان الإتحاد السوفييتي يسعى في العامين 1948 و1949 الى تحقيق درجة من التأثير على الدولة الإسرائيلية الوليدة، كان رئيس وزرائها الأول والرجل القوي فيها، دافيد بن غوريون، يبدي بشكل متزايد الوضوح ميله الى الإصطفاف مع الولايات المتحدة في "الحرب الباردة". وهو ما اتضح في العام 1950 عندما اتخذت إسرائيل موقفاً مؤيداً للتدخل العسكري الذي كانت تدعو اليه الولايات المتحدة في حرب كوريا، وهو التدخل الذي قادته واشنطن وأدى بعد ثلاث سنوات من الحرب الدامية الى ترسيم تقسيم البلد الآسيوي الى قسمين، شمالي، أقرب الى الإتحاد السوفييتي والصين الشعبية، وجنوبي أقرب الى المعسكر الأميركي. وهو التقسيم الذي ما زال قائماً بعد زهاء ستة عقود من الزمن.
وهكذا بدأت العلاقات بين الإتحاد السوفييتي وإسرائيل تفتر ببطء منذ أواخر العام 1949، الى أن وصلت الى ما يشبه القطيعة في أواخر العام 1952 وأوائل العام التالي. حيث تم قطع العلاقات الدبلوماسية بالفعل بين البلدين في الشهر الثالث من العام 1953، قبل فترة وجيزة من وفاة الزعيم السوفييتي يوسف ستالين. وتمت إعادة العلاقات بعد فترة قصيرة من وفاته. ولكنها ستزداد بروداً في الأعوام التالية، خاصة مع بدء تطور الأوضاع في المحيط العربي، وخاصةً في مصر التي شهدت في العام 1952 حركة الضباط الأحرار برئاسة اللواء محمد نجيب والقيادة الفعلية من ورائه لجمال عبد الناصر. وقد دفعت التطورات عبد الناصر الى البروز الى وجه المسرح في العام 1954 ليتولى المسؤولية الأول في البلد. ولم تلبث العلاقات بين الجانبين السوفييتي والمصري، اللذين كانا يتشاركان العداء لبريطانيا، الى ذروة أولى في النصف الثاني من العام 1955 مع إبرام صفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية مع مصر، في اختراق أول لاحتكار بريطانيا والدول الغربية الأخرى لتوريد السلاح الى البلد والمنطقة العربية.
أما جرى بعد ذلك، فهو معروف على نطاق أوسع.