عشب استوائي يزهر بين الرماد - روح هيروشيما

يقول هابرماز في نقده لهيدغر:
" هل يمكننا أن نفسّر القتل المنظم لملايين الناس, كما لو أنه خطأ من وجهة نظر تأريخ(الوجود), أي أنّه مصير هؤلاء الناس؟"

في متحف هيروشيما التذكاري للسلام, يصف الدليل تلك المفاجأة. يصف الذهول وحده, والشمعة البيضاء الصغيرة التي اقتلعت مدينة بكاملها,( تلك هي القنبلة الذرية).فيفاجئك صوته, أو تفاجئك اللغة , تصدمك بقوة الحقيقة. يسكت لحظة .. ويقول:
- " قنبلة غبيّة".
فيُختصر الكلام...
هبت عاصفة النار, مدّت أذرعها .. ملايين الأذرع في فضاء مفاجأ.. يا للطريق البعيد. لماذا مرّت يدك, وأطفأت سراج أمانينا؟
لرياح الحكايات , نكهة الدماء. للألم هبوب الحياة , وصخب اللهب. غفلة في لحظة الأغبياء , في نقيع الغرور, تزرع الخديعة والموت, تستنبت دماراً بحجم الشرور جميعها...
رحل الأطفال. المسنون ماتوا, رحلوا يتأوّهون, أو تأوهوا للمرة الأخيرة. رحلوا مفجوعين بالذهول الذي لن تستوقفه "اللحظة" بعد ذلك, لأنهم راحلون, أياديهم الملوّحة ما حملت السلاح.عزّل في الفراغ. مضوا قبل أن يفطنوا إلى أن سؤالاً, مثل جمرة في راحة اليد, يلّح على هلام الذكريات, سيبقى شاخصاً, دون أن تقدر قوة الغرور على زحزحته عن القاعدة التي سيظل يحتلها, حتى الساعة الأخيرة لهذا الكوكب المريع... "نصب السلام"..
قال لنا مدير استقبال الفندق في هيروشيما:
- "هل انتم ضيوف سلام؟"
قلنا :- "نعم".
سحب سجلاً وأعطانا بطاقات جديدة للمبيت , وأعتذر , ثم قال:
- "لضيوف السلام تخفيض قدره(70%) "

لمّا تزل سفن الشرق, يغلّف ذاكرتها الضباب. والعقل يتعثر هناك. ما أبحرت السفن. والشمس تتمطى عند جنبها الدامي. تزيح (الكيمونو) عن كسل أمس , فتأتلق خيوطها. تتثاءب دونما ملل. هل تدع الحريق يوقف دوران العجلة؟
في تلك اللحظة, في (عندما...), كان وقود القنبلة يتحدث, إذن , ماذا سيقول أطفال القنبلة؟
- "هكذا, سنكون معاً عندما نموت". قالت أمي . كنا نجلس "ياسو" وأنا في انتظار أن تنهي الأم غسيلها, عندما...
-" خرجت فرحاً, أتقافز مليئاً بالسعادة, بعد أن منحتني أمي مبلغاً لشراء الـ(آيس كاندي), عندما...
- " كانت أمي تكوي قمصان أبي, وأنا قربها, حين مرّت طائرة منخفضة, فوق دارنا, فقالت:- " ما هذا؟ إنها منخفضة جداً, وتثير الأعصاب", عندما...
- " كنت أركب دراجتي , ثلاثية العجلات. وكان جدّي يضع الشتلات في التربة. التفت إليّ, عندما...

في الباحة الخلفية لمنزلها , دفنت أم "شينيكي", دراجة ابنها "شينيكي" ,ابن الرابعة, في قبر, حين لم تعثر إلاّ على دراجته. وطيلة أربعين عاماً, ظلّت خلالها, تمسد شعر الذكريات, فوق القبر, وتصنع حكايات, وتقصها له. تدغدغ راحة يده, وتلقنه السلام. تزرع براعم السماوات, وتغفو.. سنحلم جميعنا تلك الليلة.. نحلم بالأغطية الحجرية, رياح النار , صدمة النهاية على بساط العصف الناري, مثل ملائكة بلا أجنحة.. نحن الأطفال, أدوات المحبة اللينة, المخلوقات الهشّة, كائنات الأماني , أضاحي الكراهية الفجّة.
ترى الأمهات المثكولات, صباحات الأطفال بيضاء.. صباح الندى.. ماتوا لأنهم بقوا في أحضان المحبة, يستمعون إلى حكايات الجدّات...

عند نهايات العاصفة, الهموم كلها صارت بحثاً عن بقايا العائلة. رسائل كتبت على عجل .. على كل شيء, وفي كل مكان.. على قطعة قرميد, بلاطة, آجرة, بقايا جدار, رصيف.. الخ .. الخ..
" كونيكاميتا ماتت .
الأب وابنته مفقودان.
عثرنا على توروساتو"
تلك كانت رسالة عائلة( ساتوآمي) , مكتوبة بقطعة خشب متفحمّة على بلاطة سطح رمتها القنبلة مئات الأمتار عن مكانها.

ظن كل شخص, في هيروشيما, أن القنبلة ضربته وحده, عندما أضيء الكون, بنور الحريق النووي. وصفوها بحبة فطر بيضاء, لكن الدليل قال: " إنها شمعة صغيرة لونها أبيض ". فامتدت لحظة الانبهار, من الساعة الثامنة والربع صباح6 آب 1945 إلى العاشرة من صباح 5 شباط 2006, وأصابني دوار, أمام شاشة الحقيقة .. انفجار "القنبلة الغبية". يقول الدليل:
- " أية آمال سيحرزها أولئك المدججون بالسلاح في طول العالم وعرضه؟ "
ويردد قصيدة (سماوات هيروشيما) لـ "ساتشيكو هاياشي" :
" من هذا.. ذكر أم أنثى
مجرد وجه رمادي
طاف على وجه النهر..."
كان " ساتشيكو " ينقل صورة الحريق, الموت الفاجعة, اللحم البشري وهو مادة هلامية, تسيل من على الأجساد المندهشة , السائرة في الظلمة الأخيرة , حين خلّف الحريق وراءه, رماد المنازل , لحاء بلا لب, محفظة طعام, حاوية مياه, قفاز محترق, كاميرا, طاجن, قرص تطريز, أظافر , جلد آدمي, خصلات شعر , صندل أطفال... رماد , رماد ...
صار الرماد صمتاً . صار الصمت زقزقة أطفال / عصافير. صار الصمت أغنية, حين ترددها الحناجر الحييّة, يتدفق في الأجساد نهر من الحب لن يتوقف جريانه. تقويم الأخوّة العالمي.. قيثارة الحمائم البيضاء , فيها تنبعث موسيقى السلم والحرية...
- أيتها الشعوب المحبة للسلام.. كلمتنا, سلاحنا.
غنوا كما تشاءون ...
We shall overcome, we shall overcome, someday
Oh, deep in my heart, I do believe, we shall overcome, someday
We are not afraid, we are not afraid today,
Oh, deep in my heart, I do believe, we shall overcome, someday
We’ll walk hand in hand, someday
Oh, deep in my heart, I do believe, we shall overcome, someday.
كان لابد من أن تتزوّد بزاد المفازات, أن يكون لك إيحاءات نبي, لكي تعبر حتى المسار الأخير, وأنت تدوس البلاطات, على (طريق هيروشيما إلى السلام).
هناك ستجد طفلة, تحتل أعالي تلّ . طفلة من البرونز, تحمل بين يديها, إلى الأعلى, طائر الكركي الضخم, المصنوع من أسلاك ذهبية برّاقة. هذا النصب الذي يقع في حديقة جانبية, على (طريق هيروشيما إلى السلام), صنعته هدايا الأطفال في اليابان كلها, وهدايا أطفال آخرين, هدايا جاءت من وراء البحار. وفي الخامس من مارس(أيار) 1958, انبعث نصب المحبة..
في اليابان, ما زال الكثيرون يعتقدون, أن صنع آلاف الكراكي الورقية الصغيرة, ستجعل جميع الرغبات يسيرة التحقق. صنعت ( سادوكي ساساكي), ابنة السادسة, 1300 كركي, من الكراكي الورقية, من أجل تحقيق أمنيتها الوحيدة في الشفاء , لكنها ماتت بعد ثمانية أشهر, وبعد معاناة في كفاحها ضد السرطان, سرطان الدم, الذي وهبته لها القنبلة الغبية .. قنبلة الغرور. فماتت جميع مسرات طفولتها... نشرت حكاية (سادوكي) في بلدان كثيرة , وما زال الأطفال في تلك البلدان , يستمعون إليها, بحزن كبير. وفي الخامس من أيار من كل عام يتجمع الأطفال تحت ذلك التل/القبة, يضعون قوس قزح الشرائط, كرنفال الألوان السعيد..
جزيرة بحجم المسرات. كانت تحبو. بهجتها الصافية , نديّة, لم تستطع قاذفات القنابل أن تسكت كركراتها, وهي سادرة في المسرّة . كانت انسجاماً تاماً. فيه, أطّرت المعرفة.. العقل.. التأمل, حواشيه المزينة بالمحبة, والود.. منبسط الخضرة الذاهبة إلى البحر, بسلام وروية..
جزيرة بحجم الكارثة, وضعت بهجتها في السلام , ونامت مستريحة, إلى النهاية, لم تشغل الكراهية عنفوانها, وصبواتها, منحتنا الصراط. عندما أصابت القنبلة عنقها ,وتحولت إلى رماد, ارتفعت إلى السماء, شمعة من ذهول, ولم تكن محض ذكرى. صارت الضوء الذي أنار الظلمة نحو الحرية والسلام. لقد تحررت إلى الأبد وحررتنا...
احتل (متحف هيروشيما التذكاري للسلام), من تلك الجزيرة, قلبها. هنا جسر (ايوي) وهو يرسم حرف (T) , حيث سقطت القنبلة, التي أرادت تقطيع أوصال دلتا نهر (أوتا) الخالد. هنا جسر (هونكاوا), وجسر السلام, جسر قبة مبنى البلدية.. شاهدة القبر التاريخي/ الطبيعي لضحايا الغرور النووي.. مازالت الجزيرة تمد أذرعها خضراء, عبر مسالك لا تنتهي, مملكة الخضرة.

- "نتمنى لكم جولة نافعة!".
لم يقل الدليل (جولة ممتعة)!!
كأنما قال: (شينو بوزي) , أي: " لا تطلق النار في الخشب".
هناك 56 مادة, يمكن التعرف على همسات ألمها القديم. كل مادة تقف لتستمع إلى الدليل. والدليل يملأك بالمعرفة الحزينة. تدفع إليك همساته, رائحة لاحتراق, خلال ستّين ثانية, لا أكثر ولا أقل, ولكل مادة, حتى وأنت تستمع إلى أغنية (شجرة العنقاء), التي وضعها, ولحّنها ( موريميتسو). أغنية التحطيم المريع للكائن,وصعوده الأبدي, نحو سماء الألق. تسحرك النغمات المبهمة للألم, تنفذ في المسامات الآدمية, بدائية مذهلة. ترفعك عن البلاطات الصلدة, للممرات التي لا تنتهي, وترى أن أقدامك لا تلامس الأرض, خفيف, مثل نسمة البحر, هو استبشار بشروق جديد سيأتي على الرغم من كل شيء.
في مقبرة (أتامي), على الطريق الخارجة من هيروشيما والداخلة إليها, بقطار الكون الصاروخي , مشهد مؤجل من حاضرة أخرى. حاضرة تنفتح على أفق من النار, مبهر, شعاع دامي, كأنما الشمس , وقد قادتها أرجلها التي لا تحصى , نحو أفق الشروق الفجائي.. الانفجار .. شروق القنبلة "الغبية" ..
مقابر مزينة للأعراس, لم يكبر الصغار بعد,مدارسهم تتفتح كل صباح , مثل زهرة الأكاسيا, ندية, مفعمة بالضوء, أرجوان من دماء القنبلة.. أية قنبلة أيها الغرور؟
شواهد القبور رمادية , أحجارها تفضح الصمت, الذي خفق جناحه المدمّر, مرّة واحدة, وأخيرة .. واستقر, سكن إلى الأبد, منذ صباح الصمت في 6 آب 1945 . ما زال الصمت هناك , يده الملوحة على المشهد الأخير... أم هو يلوّح مرّة أخرى؟ هذا الذي يمزق القلب شاخص هنا, لا تطعموه لحومنا . لا تسقوه دماءنا. لا تدعوه إلى الوليمة.
في مقبرة (أتامي) كان الموتى في الانتظار ..كانوا ينتظرون أن ينهوا واجباتهم في ذلك الصباح, لكي يملأوا ساحة المقبرة, بالمسرة والفرح, والصياح.. ألا يليق ذلك المرح بالأضاحي, التي صنعها التدريب على الإمبريالية؟
جدار أبيض لطّخه مطر أسود.
أزياء مدرسية , وجدول مدرسي.
ظلال بشرية مطبوعة على حجر,
(أي لهيب يصنع تلك الأحجية؟)
هذه المحطات, مواد, حكى الدليل فيها أساه...
* * *

على دلتا نهر "أوتاكاوا" , قبل 4000 عام, انبثقت هيروشيما. جسدها, الذي يمور بالحركة, مثل نبتة استوائية. منحها البرق والرعد , السر السرمدي , لتتجدد كل ربيع . أربعة آلاف ربيع, تورق وتمتلئ بالحياة..
"In fact, the Harmony is the life, and real meaning in a true community or an organization"
هذا من تعليم " بوذا"..
وليس من تعليمه, أن يزهر العشب الاستوائي, بين الرماد.
مدينة, تخترقها من الشمال إلى الجنوب, أنهار ستة , تخضر , وتمتلئ بالظلال, تعلو أبنيتها بسلام , كما غزالة تحت أنامل الأنهار التي تمضي نحو البحر ...
على البعد, في جزيرة " مياجيما", أعيدت الحياة إلى ضريح " أتوكوشيما" المقدس, الذي يعد من أجمل ثلاث أماكن, في اليابان إطلاقا... صار الرماد حجراً, والطين جداراً, والقرميد سقفاً, دمعة الأم نهراً, تخضرّ على جنباته الحياة كاملة. وتتفتح براعم...


ملامح...
- كانت هيروشيما ثاني أكبر مدينة صناعية في اليابان قبل إلقاء القنبلة الذرية.
- ما يزال ميناء (أوجينا) في هيروشيما هو الميناء البحري الأكبر في اليابان.
- عام 1935 سيّرت اليابان أول مترو شوارع وكان في هيروشيما.
- في الحرب الكونية الثانية ,نقلت الحكومة اليابانية أطفال المدارس في هيروشيما من المرحلة الثالثة إلى المرحلة السادسة , إلى الريف خوفاً من الابادة , ولقد وجد 85% من هؤلاء الأطفال أنفسهم أيتام بعد إلقاء القنبلة.

معلومات عن القنبلة ...
- تسمى القنبلة التي ألقيت على هيروشيما " القنبلة الذرية الانشطارية" وتعمل على وفق مبدأ الإنشطار النووي لذرات اليورانيوم.
- طولها ثلاثة أمتار .
- تزن أربعة أطنان.
- تحتوي على 50 كغم من اليورانيوم.
- كيلوغرام واحد فقط من اليورانيوم من أصل 50 كغم هو ما يتعرض للانفجار.
- في الساعة الثامنة والربع من صباح السادس من آب عام 1945 ضغط طيار الـ(B29) المسماة (أنولا غاي) على الزر الذي اسقط القنبلة فوق هيروشيما.
- ارتفعت سحابة الانفجار إلى 1200 م في السماء.
- في دائرة نصف قطرها 300 م , كانت درجة الحرارة (1000000 )مليون درجة مئوية.
- في دائرة نصف قطرها 4 كلم , اقتلع العصف جميع المنازل .
- على بعد 500 م من مركز الانفجار ولدت القنبلة ضغطاً بلغ 900 طناً على المتر المربع الواحد.
- يسكن هيروشيما ذلك اليوم 350000 شخصاً , مات في ساعة الانفجار 140000 منهم.
- لم يكن العالم يعرف الأضرار التي تولدها الأشعة, وبعد ثلاثة أشهر ظهرت الأعراض المدمرة, فقد ظهر مرض الجدري, والمياه الزرقاء, والسرطان, وسرطان الدم....الخ ... الخ.

* * *