فرات المحسن
مدينة هي تأريخي في الأمس واليوم
ولدت عام 1949 في مدينة قلعة سكر لأب جوال يهوى التنقل بين المدن.مدير مالية قضاء الكرخ. ذلك كان آخر موقع وظيفي له قبل أن يتقاعد.ذلك الرجل البديع الساخر الودود والحاد المزاج .اللبرالي في الزمن المتخم بالرجعيين ،القارئ النهم والمتذوق لكل ما هو جديد .ذلك الرجل الرائع هو من زرع في روحي غواية القراءة وهوى السياسة، وأثر خطاه سار جميع أخوتي وأخواتي الذين يكبروني جميعا وأنا أخر عنقودهم.
في مدينة تعد من الحواشي الشعبية لبغداد الجميلة .مدينة تجمع صخب المتناقضات .بسعتها تستوعب أكوانا عديدة ،ثقافات عديدة ،أثنيات عديدة ،طوائف عديدة ،مفاهيم عديدة ، أيدلوجيات مختلفة متنافرة .بتلاوين بشرها وتعرجات أزقتها الضاجة وزحمة حياتها الصاخبة الملونة، بمفردات الريف والمدينة ،الثقافة والانغلاق ،الحداثة والتخلف.بسمات ومسميات مقاهيها والتجمعات السحرية وضجيج الرواد فوق تخوتها، بساحات لعبها الكثيرة ،بحشود الصبية وملتقياتهم عند رؤوس الشوارع ،دكات البيوت حيث تجلس النسوة موشحات بالسواد ،بحديقتها الواسعة المسماة (المشتل) حيث أيام الصيف والفتيات العاشقات ولهفة الشباب لذاك الجمال العذب،بأحاديث العجائز وحكمة الشيوخ .بكل ذلك النثار المتطاير والمشع، علق قلبي وشغفت روحي .مدينة الرب هذه كانت حية تعج نشاطا وكان الوئام فيها قد ربح الجولة وضم التنوع بين جناحيه.في تلك المدينة المجاورة لمدينة الكاظمية المقدسة .في تلك المدينة التي سميت بدأً مدينة الهادي وسماها الشهيد عبد الكريم قاسم مدينة الحرية أنهيت الابتدائية والمتوسطة وفي مدينتي الأثيرة الأخرى الكاظمية أكملت الثانوية وتخرجت من كلية الآداب عام 75ـ76 .وفيهما بدأت الكتابة أيضا..غمرتني السياسة منذ دراستي المتوسطة ولم أكمل بعد السادسة عشر ومنذ ذلك الوقت دخلت دورة طويلة لعوالم رائعة مبهجة خرجت منها بحصيلة ليست بالهينة ،لكنها رغم كبر النكسات ووجعها ،أكسبتني الكثير من الثقة والمعرفة والأمل الدائم بأن الغد سيكون أفضل وكذلك اليقين بأن الأرض التي وضعت قدمي فوقها لازالت تدر علي معرفة وخبرة وأنها كانت جد ضرورية لمسيرة العمر.
أحايين ،حين تكون السقوف واطئة وأسوار التعب اليومي تحيطني وغبار المرض يزج بي عنوة في سكون المدن الموحشة الباردة حيث يغفو كل شيء بكسل ثقيل رتيب عميق .أشعر برعب المكان ولكي لا ينهار الكون أمامي أو تتقوض روحي مع ذوبان ذاك الثلج المتساقط ، أجدني أبحث عن مدينتي تلك لأعيد حديث العشاق المجانين من صحبي .أصحاب طفولتي وصباي وشبابي .أجول ليل أزقة مدينتي الحرية والكاظمية أترصد صيحات مقاهيها ،أمخر عباب ساقية اندثرت كنت أقضي ساعاتي فيها معتقدا أنها البحر بسعته.أتذكر كل ما أكتنزته روحي من صور الرفاق العفاريت الذين ما بخلوا بشيء من أجل أن يقدموا للناس الحب والمساعدة والدليل .رفاقي الذين غابوا والذين بقوا ينتظرون .هؤلاء الذين علموني الكثير وقدموا لي الكثير الذي لا أستطيع غير أن أحمله حبا ومودة لهم .هم في ذاكرتي التي لا تمل البحث عن وجوههم وأصواتهم وهجيع الليل يترقب خطواتهم حين ينبثون لتنفيذ مهمة كلفوا بها.
لقد عفتها ورائي، تركتها وثمة شوارع برمتها كانت عاكفة على التبدل .تبُدل وجوهها وسماتها .يُنتزعٍُ منها زهو أزقتها ويحجر فيها على ذلك العشق المسفوح دون حساب .لقد غزاها التتار الجديد فعافها جسدا مهشما متيبسا ولكني على يقين بان روحها وألق حكاياتها مازالت جنيات الدباش ودور الشؤون وشارع المشتل والزهاوي والمختار والساقية والبستان والثانية تحملها لتدس ضوعها الفواح عند أعتاب البيوت وأسلاك الشبابيك وعند وسادات العشق الملتاع لحب تأجل موعده كل تلك السنيين العجاف.
بعد مدينتي تلك لم أعد أقدر على المسير في أماكن أخرى مثلما كنت اسبر فسيح أشبارها يملأني الحب وتغزوني الطمأنينة ويشبعني الفرح.
قيل لي أن المدينة بدأت تستعيد بعض صحتها ولكن أصحابك قد شاخوا، فوددت تقبيل شيب لحاهم.
ما عاد لي غير خزين احتفظت به طيلة تلك السنين العجاف ولا زلت أعيده كلما رغبت ولن تسلبه مني قسوة أو جفوة أو عمر ينفلت هاربا.
تلك حياتي بقيت راقدة في ذاك الزمن. أبعثره وألملمه كل يوم .أترقب قدومه بحلة جديدة كل الجدة وأظن أنه قادم حتما وأنا أترقبه فهل يا ترى ينتظرني وأصحابي أيضا .هل يا ترى أستطيع أن أعفر وجهي بتراب حيطان تلك المدينة التي وهبتني وعلمتني الكثير.ترى هل تحتفظ دكات البيوت بذات القبلات التي غمرتني بها عجائز تلك الأزقة فرحا برفيق أبنائهن.
أوقف تأريخي اليوم عند كل تلك الأسماء والأماكن الحبيبة الأثيرة .أوقفه في انتظار حشد أولئك الذين كانوا أبناء تلك المدينة عن أصالة وصدق.أوقفه لأن تلك المدينة هي تأريخي المدون.
السويد / ستكهولم
الموقع الفرعي في الحوار المتمدن: https://www.ahewar.org/m.asp?i=62
Author ID - معرف الكاتب-ة: 62
الكاتب-ة في موقع ويكيبيديا
#فرات_المحسن (هاشتاغ)