أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد عبد القادر الفار - أكملي الدور (خارج النص، داخل الصورة)















المزيد.....



أكملي الدور (خارج النص، داخل الصورة)


محمد عبد القادر الفار
كاتب

(Mohammad Abdel Qader Alfar)


الحوار المتمدن-العدد: 8339 - 2025 / 5 / 11 - 02:27
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يبدو أن ما نفعله كل صباح لا يختلف كثيرا عمّا يفعله الممثل على المسرح قبل أن يُفتح الستار: نرتدي وجوهنا، نتمرّن على نبراتنا، نراجع ما يُفترض أن نقوله، ثم نخرج إلى الشارع كما لو كنا نعرف أنفسنا.

لكن هناك لحظاتٍ معينة، نادرة، خجولة، متوحشة، تخلخل هذا الاستقرار:

– لحظة ننكشف فيها لأنفسنا، أو تُفضَح فيها لعبتنا أمام أحد.

– لحظة نتذكر فيها فجأة أن الشخصية التي نلعبها… لم تكن يوما حقيقتنا.

في فيلم بيرسونا Persona لإنغمار بيرغمان، لا تُقدَّم هذه اللحظة كمشهد، بل كزلزالٍ صامت:

امرأتان في بيت منعزل، واحدة صامتة، والأخرى تتكلم، إلى أن يبدأ الفرق بين الاثنتين بالتبخر. لكن الأهم هنا هو أن الكاميرا لا تلتقط هذا التبخر فقط، بل تشترك فيه وتتواطأ معه.


وفي واحد من أكثر الحوارات تقشّفا وصرامة في تاريخ السينما، تجلس الدكتورة شارون أمام إليزابيث، الممثلة التي سكتت فجأة على خشبة المسرحة واختارت الصمت وأصرت أن لا تعود. ولا يبدو على شارون أي اضطراب، بل تتحدث بنبرة من يعرف تماما ماذا يرى، قائلةً لها، وببساطة قاطعة: “أفهمك ويعجبني ما تفعلينه. أظن أن عليك أن تكملي هذا الدور الذي تلعبينه الآن حتى النهاية.”


هنا لا تُقدَّم النصيحة من طبيب، بل يُلقى الحكم من داخل المسرح نفسه.

وكأن الدكتورة، التي لا نعرف عنها الكثير، تتحدث نيابة عن جهة أعلى: فهي ليست النظام الطبي، بل النظام الوجودي.

وهنا صمت إليزابيث لم يعد يُرى كمرض… بل كتمرّد، كقرار انسحاب من اللعبة.

وشارون؟ لا تعارض، لا تناقش، لا تواسي، بل تُعيد ترتيب موقع الممثلة داخل المسرحية، وتتركها تكمل.

السطور القليلة التي تلفظها شارون تشبه خطابا هيدغريا مُقطّرا:

أنت موجود، إذا أنت مؤطَّر. وما دمت تؤدي، فأنت حيّ. وما دام الجمهور يراك، فثمة دور لم ينتهِ بعد.


إنّ ما يُربك هنا ليس موقف إليزابيث… بل موقف الطبيبة شارون، فهي لم تُحاول علاج الصمت، بل احترمته.

كأنها رأت فيه قرارا نادرا لا ينبغي كسره بل مرافقته. رأته لا كعارض نفسي، بل كقرارٍ وجودي، وكأنها عرفت أن المرأة التي أمامها بدأت تعبُر. وبدلا من أن تمسكها، أعطتها القارب.

وهنا يتغير معنى اسمها:

لم تعد “شارون” الطبيبة… بل “شارون” العبّار في الأسطورة الإغريقية، ذاك الذي ينقل الأرواح عبر النهر دون أن يسأل من أين جاءت أو إلى أين تمضي. لا تعارض، لا تناقش، لا تواسي. بل تُمسك بالمجداف، وتترك الرحلة تبدأ.


فهي بدلا من أن تنتزعها من الدور أعادت تموضعها داخله، كما لو أنها تقول: “إن كنتِ ستؤدين الصمت، فأدّيه للآخر.”

وحين تنهار إليزابيث أثناء مشاهدتها للتلفاز، لا نراها تنهار بسبب تقرير إخباري، بل بسبب مشهد واحد:

راهب بوذي يشعل النار في جسده كنوع من الاحتجاج على حرب فيتنام، ثم يجلس بثبات مطلق، لا يتحرك، لا يصرخ، لا يستعجل الموت.

إنها لحظة من ذاك النوع الذي لا تصنعه السينما بل تعجز عن تقليده.

الصورة تهتز، واللون ينزف، والنار تعمل ببطء صبور، لكن الجسد لا يستسلم.


والصمت هنا؟

أكثر إيلاما من أي عويل.

إليزابيث لا تبكي بسهولة طوال الفيلم. لكنها تبكي هنا. ليس فقط لأنها ترى الألم، بل لأنها ترى من يؤدي الدور للنهاية، دون قناع، دون تمثيل، دون أن يطلب تصفيقا. فهو لا ينسحب من المسرحية، بل يقدّم ذروةً لا يمكن إعادة تمثيلها.

في تلك اللحظة، يبدو أن إليزابيث، المرأة التي أغلقت فمها احتجاجا على لعبة التمثيل، قد شاهدت للتو من يؤدي صمتها بشكل أفصح منها.

وفي أفلام كثيرة، تأتي الموسيقى لتؤطر المشهد، لتدلّنا على ما ينبغي أن نشعر به، لكن في Persona تبدو الموسيقى كما لو أنها نُزعت من تحت الجلد مباشرة. لا تُرافق، بل تُهاجم، لا تهدئ بل تفتح جراحا بطيئة.

في لحظات كثيرة في الفيلم لا نسمع موسيقى بالمعنى التقليدي بل نسمع أصواتا تئنّ من خلف الجدار:

نبضات، تشويش، نفس متقطع، آلات لا نعرفها تحتضر في الخلفية.

هنا الصمت لا يعني غياب الصوت، بل خروجه عن السيطرة. كأن الكاميرا تسكت، لكن الميكروفون ما يزال مفتوحا على داخل الشخصية.


يمكن أن نفهم هذا أكثر إن استدعينا كيركيغارد، الذي لم يكن يرى في الصمت مجرّد سكوت عن الكلام، بل اعتبره المستوى الأعمق من القلق.

بالنسبة له، الصمت الحقيقي لا يُسمع من الخارج، بل يُدوّي داخل الإنسان كنداء لم يُستجَب له قط.

فهو ليس راحة… بل اختبار، مكان يتوقف فيه الصوت لأن الكلام لم يعد كافيا، ولا ممكنا.

كيركيغارد كان يعرف أن الإنسان، حين يصمت بصدق، لا يُعلن السلام، بل يدخل في مواجهة مع ذاته، حيث لا توجد أسماء، ولا مفر، ولا دور جاهز للهرب إليه.

وفي Persona ، الصمت الذي يسكن المشهد ليس هدوءا، بل رجع صدى داخلي لأسئلة لم يُسمح لها أن تُطرح.

في Persona، الموسيقى تحمل ذلك الصمت، وهي ليست خلفية شعورية، بل أداة تشريح.


وفي مشهدٍ آخر، تتأمل إليزابيث صورة قديمة:

صورة الطفل اليهودي في غيتو وارسو يرفع يديه الصغيرة أمام بندقية جندي نازي. صورة يعرفها التاريخ، لكن السينما هنا لا تستدعيها لتؤرشف، بل لتُحاسب. فإليزابيث لا تنطق، لكنها تنظر طويلاً. ولا ندري إن كانت تبكي أو تتذكّر أو تتّهم نفسها على انسحابها هي من دور الأمومة. فهذا الطفل في الصورة لم يؤدِّ شيئا، لم يتكلم، لم يكتب رسالة، لم يتمرّد، بل رفع يديه فقط.
وكأن الجسد نفسه قرر أن ينحني قبل أن يطالبه أحد.

في هذه اللحظة، يبدو أن بيرغمان يضعنا في صلب سؤاله:

هل الصمت ضعف؟ أم أداءٌ أعمق من كل العبارات؟

في وجه الطفل، يتجلى “التمثيل القسري” وبأقسى أشكاله:

طفل تم دفعه لدور الضحية على مسرح لا جمهور فيه سوى الجنود.

وإليزابيث، المرأة التي اختارت أن تخرج من المسرح، تجد نفسها تشاهد طفلا لم يُمنح حتى خيار الدخول إليه.


وهذا يعيدنا إلى المشهد الافتتاحي الغريب، والذي يكاد لا يُفهم إلا بالحدس، حين يستيقظ ولد ما في بيئة تشبه مشرحة أو حجرة عرض. يمدّ يده نحو شاشة فيها وجه امرأة، وجهٌ يتبدل، يتشوّه، لا يستقر.

الولد لا يتكلم. ولا نعرف من هو.

لكننا نستطيع أن نشعر بما يشعر به:

رغبة محمومة في أن يلمس الوجه، أن يتأكد أنه حقيقي، أن يطمئن أنه ليس وحده.


الوجه قد يكون وجه إليزابيث أو وجه ألما، أو ربما وجه كليهما معا وقد اندمجا في قناع واحد.

في هذه اللقطة، يبدو أن الفيلم كله لا يُبنى من الخارج، بل يُستَخرج من عين هذا الطفل، وكأنه هو الذي “يرى الفيلم”.

أو بالأحرى: يرى ذاته من خلاله.

ربما هو ابن إليزابيث الذي تخلّت عنه، لكن الأكيد.. أنه ليس مجرد “ولد في لقطة افتتاحية”.

هو كائن يرى، يمدّ يده، ولا يعرف إن كان الوجه أمامه سيبتسم أم سيختفي.

وفي تلك اللمسة التي لا تصل، يصبح الطفل هو المُشاهد الأول، أو ربما الكاتب الصامت، الذي كان يراقب منذ البداية.


وعندما نسمع ألما تقرأ بصوت مرتجف رسالة كتبتها إليزابيث، أو فكّرت بها، تعترف فيها بأنها أنجبت طفلا، لكنها لم ترد أن تكون أما، وأنها تظاهرت ثم فشلت ثم انسحبت، فالكلمات، رغم بساطتها، تنفجر داخليا كإعلان حرب على صورة الأم النموذجية، أو كاعتراف مُرّ من أنثى رفضت أن تواصل “دورها” خارج المسرح.

وليس عبثا أن إليزابيث كانت تؤدي “إلكترا” تحديدا على المسرح عندما قررت أن تصمت، فإلكترا هي الابنة التي أرادت قتل أمها. وليس مصادفة أيضا أن الفيلم، في ما تضمنه من انفصال قاس عن الأمومة من قبل إليزابيث، يحمل ظل “ميديا” في الأسطورة، والتي قتلت أبناءها لا انتقاما منهم هم، بل مما فرض عليها أن تكونه، بعد أن وجدت أنها لا تريد بعد الآن أن تكونه، أو بعد أن أصبح عبئاً عليها حين كرهت أباهم.

لكن بيرسونا لا يصيح، لا يُنظّر، لا يشهّر، بل يضع هذا الجرح بهدوء وسط اللقطة، ثم ينتقل بالكاميرا إلى وجه لا يعرف إن كان يتذكّر أم ينهار.


وفي سينما تاركوفسكي أيضا تظهر الأم دوما ككيان غير مكتمل: صامتة، غائبة، مبهمة، أقرب إلى الأفق منها إلى الحاضن.

وهكذا تصبح الأم في Persona حين تخلّت أو ربما حين لم يُسمح لها أن تكون.

في فيلم The Mirror لتاركوفسكي هناك مشهد يتكرر بصور مختلفة: الأم، واقفة وسط الريح، تنظر إلى ابنها من بعيد. لا تقترب، لا تبتسم، لا تناديه، فقط تنظر.

والولد، في المقابل، لا يعرف إن كانت تنتظره أم تودّعه.



الكاميرا بطيئة، ثابتة، والصورة بالأسود والأبيض، لكن الألم فيها ملوّن، نابض، قديم.

هذه الأم ليست شريرة، ولا حتى باردة، بل فقط غير قادرة على الحضور الكامل.


وكأن الأم في سينما تاركوفسكي هي الحنين الذي لم يتحقق، هي الحنان الذي تَشكَّل في الخيال ولم يظهر يوما في العناق الحقيقي.

وإليزابيث، في Persona، لا تختلف كثيرا، فهي، وقبل أن تهجر ابنها فعلياً، فعلت ذلك بنوع أعمق من الغياب: غياب يقظ، متعمّد، يذهب للنهاية دون أن يلتفت.

إرفنغ غوفمان، في كتابه الشهير: تقديم الذات في الحياة اليومية The Presentation of Self in Everyday Life، لم يتحدث عن التمثيل كمهنة، بل كغريزة يومية. فكل واحد منا، كما يرى، يؤدي دورا في الحياة:

يختار ما يقول، متى يبتسم، كيف يجلس، ومتى يصمت.


هذه الفكرة تتردد كثيرا في ثقافتنا المعاصرة، خاصة في العبارات المنتشرة على الإنترنت، مثل: “كلما تقدمت في العمر، أدركت أكثر أن لا أحد يعرف حقًا ما الذي يفعله، والجميع فقط يتظاهر بذلك.”

هذه العبارة، التي لا يُعرف مصدرها بدقة، تعكس شعورا عاما بأن الحياة ليست سوى مسرح كبير، والجميع فيه ممثلون يحاولون أداء أدوارهم بأفضل ما يمكن، حتى وإن لم يكونوا متأكدين من النص أو النهاية. حتى لو لم تكن هناك قصة تبدو لنا محكمة الملامح، تبقى هذه الحالة العامة من التمثيل اليومي، حيث يُطلب من الجميع أداء أدوارهم، حتى وإن لم يكن هناك جمهور واضح، أو نص محدد، أو حتى مخرج يوجه المشهد.


ومن أصدق من عميد المسرح العربي يوسف بك وهبي، الذي ظل يذكّرنا في كل عمل، بنبرة مهيبة وبريق عين لا يُنسى: “ما الدنيا إلا مسرح كبير.”

يوسف وهبي نفسه ظهر في دور ثانوي في فيلم غزل البنات، دور خلاب بدا فيه كشاهد يراقب المسرحية من مقعد جانبي.

وفي نفس الفيلم، يظهر محمد عبد الوهاب بشخصيته الحقيقية، ويغني “عاشق الروح” أمام شخصية نجيب الريحاني (الأستاذ حمام) وهنا ينهار حمام لأنه يشعر أن الأغنية تراه أكثره من اللازم، ولا نعود نعرف هنا إن كانت الأغنية تُقال داخل الفيلم أم خارجه أم هي التي صنعت نهايته.

وفي تلك اللحظة لا يهم من يؤدي ولا من يشاهد بل فقط أن المشهد الأخير، حين يُؤدى بصدق، يختصر كل الحياة.


وأحيانا، يحدث في الحياة، كما في Persona أن تنهار الأدوار والأقنعة واحدة تلو الأخرى، لا لأن الشخصية تعبت من الأداء، بل لأنها بدأت تشكّ إن كانت موجودة خارج الدور أصلاً.

ألما، الممرضة مثلا تؤدي دور العطوفة المطيعة لكنها في لحظة ما تصرخ وتكسر قناعها:
تتهم، تغضب، تشتهي، تحسد، ثم تُصدم حين تكتشف أنها لم تكن تُحب إليزابيث، بل كانت تُمثّل الحبّ كما يجب أن يُؤدّى.

وإليزابيث، في صمتها، ليست غائبة، بل تمارس أعلى درجات الأداء السلبي:

أن تشاهد الآخرين يؤدّون، وأن تُمسك المرآة أمامهم دون أن تبتسم.


غوفمان يقول أن الإنسان يؤدي أمام جمهور. لكن في Persona، الجمهور هو الكاميرا.

والمشهد الأقصى؟

حين تلتفت الكاميرا إلى نفسها، وتكسر الجدار.

نعم، هناك لحظة في Persona لا تُشبِه أي لحظة أخرى. حين تظهر الشاشة محترقة فجأة، والصورة تختفي، والشريط ينقطع، ثم نرى الكاميرا، فريق التصوير، الضوء، الميكروفون. وكأن الفيلم توقف عن السرد، وبدأ يفضح نفسه.


لكن ما يُقال هنا ليس عن الفيلم نفسه، بل عنا نحن، الذين نشاهد.

ففي لحظة كسر الجدار الرابع في المسرح، لا تُخاطَب الشخصيات، بل يخاطَب المتفرّج:

“أنت هنا لتتفرّج؟
إذًا خذ هذه المرآة.
انظر جيدًا: كل ما رأيته فيهم… كان أنت”.

الزمن هنا ينكسر والحبكة تتعطل، والسينما نفسها تسحب القناع، وتقول لك:

لقد كنتَ دائما في الداخل، لكننا جعلناك تظن أنك خارج اللعبة.

في تلك اللحظة، لا يعود Persona فيلماً، بل أداة جراحية لفصل الذات عن الشخصية.


في البداية تبدو العلاقة بسيطة:

إليزابيث صامتة… وألما تتكلم.

الصمت يخلق فراغا، وألما تملؤه بالحديث، بالحكايات، بالاعترافات.

لكن مع الوقت، يحدث شيء أخطر من التبادل:

الصمت نفسه ينتقل.

لا لأن ألما قررت أن تسكت، بل لأنها بدأت تتآكل داخليا من شدة الفراغ.

الصمت هنا لا يعمل كحاجز، بل كفايروس. فما يُقال لا يُرد عليه، وما لا يُقال يبدأ بالتكوّن داخل الطرف الآخر، كأن الأداء ينتشر دون إذن ودون وعي.


هيدغر تحدث عن “الوجود المُلقى” Thrownness: الكائن الذي وُضع في العالم دون أن يُستشار، لكن ما يحدث في Persona هو شيء أدق: فالذات المتكلّمة تُلقى داخل ذات صامتة، فتبدأ بالتحول إلى صدى.

في لحظة ما، ربما عند الذروة، لا نعود نعرف من المتحدث، ولا إن كانت الكلمات التي تُقال هي للرد، أو للتمثيل، أو فقط لمنع الانهيار. وهنا، يُصبح التمثيل ذاته عدوى تنتقل بالعين، بالصمت، بالجلوس طويلا بجانب من لا يتكلم.

وهناك مشهد في منتصف الفيلم تقريباً يُعاد مرتين.

ألما تتكلم، تروي مشهدا جنسيا مؤلما، غامضا، مختلطا بالذنب والمتعة. وفي المرة الأولى، نرى وجهها تتكلم، تتنفس، تتراجع ثم تندفع.

ثم يُعاد المشهد: نفس الكلمات، نفس النَفَس، نفس اللحظة.

لكن هذه المرة، نرى وجه إليزابيث.

وجه لا يرد، لكنه يسمع بحدة قاتلة، فيها مزيج بين الافتراس والرأفة، بين التأثر والانفصال.

لكن الفخ ليس في التكرار، بل في ما بعده. لأن المشهد المُعاد لا يُعيد الحدث، بل يُعيد تأويله.


اللقطة الأخيرة من التكرار تكشف شيئا مخيفا: أننا لم نكن نتابع نفس الحدث من زاويتين، بل كنا نُسحب إلى زمن دائري لا ينتهي. نيتشه سمّى هذا العود الأبدي. أن تعيش لحظتك ثم تُعاد إلى بدايتها، مرارا، إلى أن تتقبّلها.

في Persona التكرار لا يعني العودة، بل يعني أنّ اللحظة لم تُغلق بعد. وأن الأداء، ما دام لم يصل إلى حد الانهيار، سيُعاد من جديد.


والغريب في Persona أن المرآة لا تظهر إلا نادراً، لكن الفيلم كله يُبنى كمرآة. فكل لقطة، كل زاوية، كل صمت يوهمك أنك ترى شخصا ثم تكتشف أنك كنت تنظر إلى صورة شخص آخر داخله.


لكن ماذا يحدث حين تتوقف المرآة عن العكس؟

حين لا تعيد الصورة، بل تبدأ تخلقها؟

هنا لا يعود “التمثيل” مجرد أداء أمام عيون الآخرين، بل يصبح تكوّنا داخليا للصورة عبر حضور الآخر.

وكلما طال جلوس إليزابيث وألما معا بدأت كل منهما تتشكل في داخل الثانية، كأن المرآة لم تعد بينهما، بل صارت تُصنع منهما.

هيدغر تحدث أيضاً عن “الوجود نحو الآخر” كجوهر للكينونة. لكن في Persona، الآخر لا يظل خارجك، بل يبدأ بنسخك، قطعة قطعة، بصمت.

والمخيف؟

أنك لا تلاحظ ذلك إلا حين ترى وجهك في مشهد لا تذكر أنك عشته.


في Persona الجسد لا يتكلم كثيرا، لكنه يقول كل شيء: يد توضع على كتف، وجه يُمسَك من ذقنه، قرب شديد بين جسدين، ودون حاجة للمس الفعلي أحيانا. وكأن الجسد، وقد نُزع منه الدور، بدأ يصرخ بلغته الخاصة.

كارل يونغ رأى أن “البرسونا” هي القناع الاجتماعي الذي نرتديه لنتعامل مع العالم، وكلما طال ارتداؤنا له يبدأ يلتصق بالجلد. وإذا لم ننتبه، صرنا نظن أن القناع هو الوجه.

في Persona لا يعود القناع مجرد رمز، بل جلدا ثانيا:

فإليزابيث تصمت، لكن جسدها حاضر، وألما تتكلم، لكن جسدها يبدأ بالانكماش، كأن شيئا في الداخل بدأ يتيبّس تحت وطأة التمثيل المتراكم.


غوردجييف أيضاً تحدث عن الإنسان ككائن نائم يؤدي أدوارا مبرمجة لا يعيها، ويظن أنها “هو” بينما هي فقط ردّ فعل لنسخة محفوظة.

وفي لحظة ما من الفيلم، تختلط الهوية لدرجة أننا لا نعرف من التي تتكلم، ولا إن كان الجسد الذي نراه يُستخدم أم هو الذي يستخدم صاحبه.

هنا، تلوح ظلال الزن البوذي:

الصمت ليس هروبا، بل توقّف الفعل. والذات لا تتكشّف بالتحليل، بل بإيقاف الحركة. وحين تفنى كل الكلمات… يبقى ما يشبه اللا-أنا، أو كما يسميها البعض: موت الإيغو.


وهنا يعود كيركيغارد مرة أخرى، لا كفيلسوف، بل كمن عرف أن الخوف الأكبر ليس من أن لا نعرف أنفسنا، بل من أن نكون قد عرفناها بما يكفي، لكنها لم تكن نحن.


وحين يصل، فجأة، رجل إلى الشاليه الذي تمكث فيه المرأتان ينظر إلى ألما ويتحدث إليها باعتبارها إليزابيث!


لا يتلعثم. لا يشك.


هو “يعرف” أنها زوجته… فيُصبح كل ما يفعله بعدها تأكيدا لهذا اليقين.

والمذهل؟ أن ألما تتردّد، ثم تتابع الدور.

هكذا ببساطة تصبح إليزابيث، بسلطة نظرة الرجل.

هنا يتكثّف المفهوم الذي حذّر منه يونغ وغورجييف وكيركيغارد جميعا:

أنك قد لا تكون أنت، بل فقط ما قرره الآخر عنك.

الهوية، إذا، ليست اكتشافا ذاتيا، بل تصديقا خارجيا.

فوكو تكلم عن “الخطاب الذي يخلق الواقع”، لكن بيرغمان يذهب أعمق:

نظرة واحدة من “الآخر” تكفي أحياناً لتحويلك إلى نسخة أخرى منك، نسخة ليست لك.

وهذا يُعيدنا إلى الأداء، ليس كمسرحية نمارسها بوعي، بل كدور يُفرض علينا حين لا نعرف كيف نقول “أنا لست هذا”.


في موقف الرجل مع ألما وبحضور إليزابيث، واحدة منهما سُلِب منها وجهها بمجرد أن وصل الرجل وقال لألما: “أنتِ إليزابيث”!

أيهما؟

لعلها ألما، وربما لم تكن هذه أول مرة تُصادَر فيها هوية ألما، فهناك ذروة في الفيلم تكتشف فيها ألما رسالة كتبتها إليزابيث (لأحد ما، ربما شارون؟) وفيها توصف ألما بدقة باردة، كأنها حالة تُفحص، تُفكّك، تُدرس.

كل شيء اعترفت به ألما من جنون وغيرة وشهوة، وذنب، وكل ما ظنّت أنه جرحٌ مشترك بين امرأتين. كل ذلك تكتشف أنه تم تسجيله، لا مشاركته.

الانفجار الذي يلي لحظة القراءة ليس فقط غضبا من إليزابيث، بل هو صرخة من الممثلة التي أدّت كل مشهد بإخلاص، ثم اكتشفت أن جمهورها كان يكتب عنها، لا يشعر بها.

تصرخ ألما وتشتم وتقترب من إليزابيث بعنف ثم تعود وتسترضيها وتبكي وتطلب منها ألّا تكرهها.

وفي ذلك الموقف نرى إعادة تمثيل لخيانة أولى: خيانة الأم، خيانة الكاميرا، خيانة العالم الذي يشاهد ولا يتورط. ومنذ تلك اللحظة، نفهم أن إليزابيث لم تكن مجرد إنسانة صامتة بل أصبحت شيئا آخر: مراقبا صامتا لا يرحم.


كأن شيئا ما في Persona لا يحدث إلا لأن هناك من يشاهد: كل انهيار، كل صمت، كل نظر، كل ذلك يتشكل فقط حين تكون هناك عين ترى.

وفي ميكانيكا الكم، تُقال جملة تُربك كل يقين:

“الجسيم لا يختار موقعه حتى يتم رصده”

أي أن الواقع نفسه يظل محتملا، مُعلّقًا، حتى يقرر المراقب أن ينظر.

في الفيلم، كل شخصية تشبه قطة شرودنغر: هي حية وميتة في آن، موجودة وغير موجودة، إلى أن يصل شخص آخر فيقول: “أنتِ هي.”

وحين يقولها، تتجسد، تُجبَر، تتكوّن.

لكن من هو المراقب؟ أهو الزوج؟ الكاميرا؟ أم نحن، الذين نشاهد، ونؤدي دور “من لا علاقة له بما يحدث”؟

كل لحظة في الفيلم تبدو كأنها نتيجة لانهيار دالة هوية. فألما لم تكن إليزابيث إلى أن قرر ذلك أحدهم. والصمت لم يكن بطولة، إلا لأننا تأملناه.

وهنا، كما في التجربة الكمومية، المراقب لا يسجّل ما يراه، بل يصنعه.


في السنوات الأخيرة، لم تعد بعض ألعاب الفيديو مجرّد وسيلة لهروب قصير أو ترفيه عنيف، بل تحوّلت إلى مختبر سردي، تُختبر فيه أسئلة لا تختلف كثيرا عن تلك التي طُرحت في مسرحيات بيكيت أو أفلام بيرغمان.

لعبة Red Dead Redemption 2 هي إحدى هذه اللحظات النادرة في الصناعة: فهي لعبة بُنيت على مدى سنوات بمشاركة كتاب ومخرجين ومصممين عاملين على نمو شخصية تنفجر داخليا، لا فقط تطلق النار.

فيها، لا تسير القصة باتجاه البطولة، بل باتجاه الاضمحلال. وهي تُجبرك على أن ترى رجلاً يموت ببطء، لا من رصاصة، بل من اعترافات مؤجلة.

هي لعبة عن نهاية حقبة، عن عالم يتفكك، وعن شخصيات تشتبه في أنها كانت تنفّذ ما كُتب لها، لا ما اختارته.

تمامًا كما في Persona: يبدأ اللاعب، أو المتفرّج، بالشعور أن الحرية التي ظنّها ملكه، كانت دوما مُدارة من مكان لا يراه.

وفي لحظة هادئة من اللعبة، يجلس آرثر مورغان في محطة قطار ريفية، بجانب راهبة تُدعى الأخت كالديرون. السماء رمادية، الإيقاع بطيء، وكل شيء في جسده ينطق بالتعب.

وفي هذا المشهد، يتوقف آرثر عن إطلاق النار، عن المطاردة، عن كل ما صنع صورته كبطل خارق أو خارج عن القانون، ويقول، بصوت يكاد لا يُسمع:

“أعتقد أنني… خائف.”

هنا، تتوقف اللعبة عن أن تكون لعبة.

تصمت الموسيقى، وتتحول الشخصية من كود برمجي إلى إنسان يتكشّف، ليس أمام الآخر، بل أمام نفسه.

ما يقوله آرثر لا يبدو قادما من اللاعب ولا من السيناريو، بل من مكان أعمق. كأن الشخصية أدركت للحظة أنها لم تكن تُقرر شيئا بل كانت تنفّذ ما كُتب لها، دون أن تعرف أنها مكتوبة.

تمامًا كما في Persona، حين تبدأ الشخصية بالاشتباه أن النص الذي تؤديه ليس اختيارا، بل سطرٌ كان في الانتظار منذ البداية.

وفي تلك اللحظة، لا يعود العالم مسرحا، بل يصبح الشخص نفسه هو النص. والمشهد كله لا يُمثّل ولا يؤدى ولا يُلعب، بل يُتلى علينا.


وفي مسلسل Westworld، تقف Maeve أمام شاشة تُظهِر كل ما ستقوله قبل أن تقوله.

وهناك، في أكثر لحظاتها “صدقا”، تكتشف أنها لم تكن تتحدث يوما بنفسها، بل كانت تقرأ دون وعي نصا كتبه آخر.

والمؤلم في هذه اللحظة ليس فقط أنها مسلوبة القرار بل أنها كانت مؤمنة بأنها حرة.

كأن الشخصية حين تنتبه إلى نصها لا تتحرر بل تدخل في نوبة ذعر هادئة:

“إن لم يكن صوتي لي… فمن أكون؟”

هذه اللحظة، التي تبدو كأنها وعي، هي أيضا فقدان.

فالذي يرى النص قبل أن يُقال يفقد القدرة على تصديقه. كما في أسطورة أورفيوس، الذي نزل إلى العالم السفلي ليستعيد حبيبته يوريديس، فقيل له: “خذها، لكن لا تلتفت.”

لكنه التفت. وكان ثمن تلك الالتفاتة أن أُعيدت يوريديس إلى العتمة، وإلى الأبد.

الالتفات إلى النص قد يكون أجمل لحظة وعي، لكنه أيضا اللحظة التي يتصدع فيها الإيمان بالدور.

في Persona، لا أحد يقول لإليزابيث “لا تلتفتي”، لكنها تختار ألّا تتكلم، وكأنها تقول للعالم:

“لن أقرأ نصكم بصوتي بعد الآن.”


وفي فيلم Bandersnatch التفاعلي، ينهار الجدار الرابع تماما: فالشخصية تدرك أنها في لعبة، وأن كل “خياراتها” تمت ضمن سيناريو مسبق كتبته جهة مجهولة تراقب وتتحكم وتضحك في الخلفية.

الصدمة في الفيلم لا تأتي من القرار الخاطئ، بل من إدراك أن الخطأ كان مكتوبا سلفا، وأن فكرة “الاختيار الحاسم” كانت مجرد وهم إجرائي يعطيك شعورا بالسلطة، فيما الكلمة الأخيرة كانت مكتوبة منذ البداية.


في هذه اللحظة، تصير الحرية نفسها أداة خداع.

كما قال سارتر: “الإنسان محكوم أن يكون حرا.”

لكن Bandersnatch يضيف: “حتى حريتك… أُخرجت في غرفة مونتاج.”

هنا، لا تعود الأسئلة عن “ماذا أختار”، بل عن:

هل أنا فعلاً الكائن الذي يختار؟ أم أنني فقط أنفّذ،، بتأخير بسيط؟

وتحت هذا السكون الغريب، يسري شعور مألوف، كأن الجسد يتحرك، والمشهد يتبدل، لكن الروح؟

صارت مُخدّرة، مرتاحة بطريقة مريبة.

تمامًا كما في أغنية Comfortably Numb لبينك فلويد:

“I can’t explain, you would not understand… I have become comfortably numb.”

وفي Persona لا نرى ابطالا يتخذون اختيارات حاسمة، لكننا نرى العيون التي لا تغمض، والكلمات التي تتكرر، والمشاهد التي تُعاد، كأن أحدا، خارج الكادر، يجرّب نهايةً مختلفة في كل مرة، ثم يعود، ويفضّل أن نبدأ من جديد.

وفي أفلام أخرى، حين لا تكفي القصة لتقول كل شيء، يتدخّل السرد نفسه، يتلوّى، ينقلب، يصرخ مباشرة في وجه المشاهد. ففي Fight Club، لا نعرف مَن المتكلم، حتى يبدأ الصوت الداخلي بكشف القناع، ويُقال لنا فجأة أن الشخصية التي كنا نتابعها لم تكن واحدة.

وفي Funny Games، يلتفت القاتل إلى الكاميرا، يبتسم، ويطلب منّا أن نستمتع، لا لأن ما نشاهده ممتع، بل لأنه يعرف جيداً أننا جئنا لنتفرج، لا لننجو.

في Deadpool، السينما تسخر من نفسها بلا خجل. فالشخصية تخرج من الشاشة، تصفع الكاتب، تهاجم المنتج، ثم تعود إلينا بابتسامة تقول:
“كنت معكم من البداية… لكنكم نسيتم أنني أعلم.”

وهكذا، حين يتصدّع الجدار، لا يعود الفيلم حكاية نرويها لأنفسنا، بل مرآة نُفاجأ بأنها كانت تنظر إلينا طوال الوقت.

المؤلف يعود ويعدل النص أحياناً، أملاً في نهاية مختلفة، وهذا بالذات حدث مراراً، ومنذ افلام مثل آلة الزمن ومستر نوبودي وأثر الفراشة وحتى الفيلم المصري: الفرح. ثمة كاتب يجرب نهايات مختلفة. وثمة فارق أن يكون الممثل الذي يعاد استدعاؤه إلى المشهد في كل مرة وكأنه غائب تماما وكأنه شخصية غير قابلة للعب non-player character (NPC) أو أن ينتبه إلى أنه يعيد الدور مراراً بنصوص مختلفة.


وهنا نعود إلى Persona، وإلى الدكتورة شارون تحديدا حين قالت لإليزابيث:

“أكملي الدور.”

لم تقل: اختاري.
لم تقل: تراجعي.
بل قالت: كمّلي

كأن كل شيء مكتوب، والصمت نفسه هو جزء من النص.

فهل إليزابيث اتخذت القرار بالسكوت من تلقاء نفسها؟

أم أنها فقط استجابت لنص لم يُقرأ بصوت عال، ظانة أنها حرة؟


في كون يُعاد فيه المشهد الأول كما هو في النهاية، وفي فيلم يُفتَح ويُغلق على صورة طفل يمدّ يده نحو شاشة، لا يعود العالم مكانا جامداً، بل وصف كلامي. وكل ما نظنه “حياة” قد يكون فقط نصا يُعاد علينا بصيغ مختلفة، إلى أن نفهمه.

في Cinema Paradiso قال ألفريدو لتوتو:
“Don’t come back. Don’t give in to nostalgia. Forget us all”

كانت الوصية واضحة: أن يغادر، أن ينسى الماضي، أن لا يفتح الأدراج القديمة.



لكن حين عاد توتو رجلا كبيرا وشاهد في السينما تلك اللقطات المحذوفة، وكل القُبَل الممنوعة التي خُزنت سرًا لسنوات: انهار !


ليس لأن الصور جميلة، بل لأنها كانت الجزء المقطوع من روحه.


تمامًا كما في Persona:. فهناك شيء يُقال لك ألّا تتذكره، ألّا تعود إليه، وأن تؤدي دورا جديدا دون أن تراجع اللقطات القديمة.

لكن المشهد الأخير هو دائما مشهد العودة. مشهد الطفل الذي يمدّ يده نحو صورة مشوشة، أو الرجل الذي يرى ما قُصّ من حياته ويذرف دمعة لا تخص اللحظة، بل كل اللحظات التي لم تُعرض يوما.

إن بعض الأدوار تُؤدى بإتقان لا يمكن رفضه. حيث يُقال شيء ما بطريقة مصقولة، تُرفع اليد في الوقت المناسب، يُقال “أنا بخير” بشكل يبدو حقيقيا أكثر من الحقيقة نفسها.

والغريب أن هذا الأداء، مهما كان بعيدا عن الشعور، غالبا ما يُصدّق أكثر من ذلك الذي يُقال بعفوية.

قد يكون المرء تائها لكنه صادق، وقد يكون الآخر مدرَّبًا على الإخلاص. لكن الناس لا ترى ما في الداخل، بل ما يُقدَّم على خشبة المشهد.

وفي هذا العالم، أحيانًا يكون من يُجيد ارتداء الإيمان، الحب، القوة، هو من يُصدَّق، حتى إن لم يؤمن أو يحب أو يصمد.


وفي Vanilla Sky، يختار ديفيد إيمز، حين يودع وعيه في التجميد، أن يتحول من حياته الحقيقية إلى حلم واعٍ lucid dream. ويكون عليه أن يختار لحظة cut تكون آخر لحظة فعليا عاشها سيتذكرها ومن بعدها يبدأ سرد وهمه الجميل.

كانت اللحظة التي اختارها هي حين يرمي قناعه على الأرض، كما لو كان آخر فعل حرّ في حياته هو خلع القناع.

كان قرارا بأن لا يعود إلى دور ما، سواء كان حقيقيا أو غير حقيقي، لكنه مفروض، وبالنسبة له مرفوض.

وهذا يشبه شيئا حدث في Persona حين يتوقّف التمثيل، لا لأنه انتهى، بل لأن الشخصية لم تعد قادرة على تصديقه.


وكما هو متوقع، لم يظل فيلم Persona حالة استثنائية بالكامل من ناحية طرق هذا الباب، ففي Mulholland Drive ينقلب الحلم على الحالم، وتصير الشخصية نفسها أثرا، فلا تدري من تحب، ولا من قتلت، ولا إن كانت تتذكر أو تتخيل.

الفيلم لا يكشف، بل يُضلّل. يفتح أبوابا، ثم ينكر أنه فتحها، ويترك المشهد الأخير كأنه أول مشهد. كأن الحكاية لم تكن لتُروى إلا إذا ضاعت.

تمامًا كما في Persona: الهوية مشكوك في أمرها، الزمن يتفكك، والكاميرا تستمر في التصوير، حتى عندما لا يعود هناك وجه واحد أمامها.


وفي Black Swan، لا يتفتّت الجسد فقط أمام الكمال، بل ينزف من شدة محاولته أن يصير نصا مكتملا.

نينا، الراقصة البريئة، يطلب منها أن تجسّد بجعة سوداء، شخصية شهوانية، خطِرة، منفلتة من النظام. لكن كل ما في جسدها يعرف الانضباط، ولا شيء في داخلها يسمح بالخروج عن النص.

وهنا، يبدأ التصدّع: حين يصبح الأداء أكبر من طاقة الجسد، وحين يُطلَب من النفس أن تؤدي شيئا لا تملكه.

في كل بروفة تتقن نينا الدور أكثر… لكنها تفقد جزءا من نفسها.

إلى أن يأتي المشهد الأخير، وترتفع الستارة، وتؤديه كاملا، بنشوة، بجنون، بجمال قاتل، ثم تهمس، وهي تنزف: “I was perfect.”

لكن من الذي قال تلك الجملة حقاً؟ هل كانت نينا؟ أم الشخصية التي امتلكت لسانها؟ أم الكاتبة التي كانت تكتبها من الداخل دون أن تدري؟

في تلك اللحظة، يصبح الكمال نفسه شكلا من أشكال التلاشي.

تمامًا كما في Persona، إذ ليس المهم أن تقول، بل أن تعرف من بالتحديد داخلك هو من يتكلم، ومن أي جهة يصدر الصوت.

لكن المثير في Persona أنه كان أقل صراخاً، فلا قتل ولا موت على المسرح، بل شخصية اكتفت بأن تخلع الصوت وتراقب من ينكسر مكانها.


هناك نوع من النظرات لا يمكن مواجهته. نظرات ليست مؤذية لكنها تعرف. يفزعك أنها تعرفك أكثر من اللازم، تدخلك كأنك كتاب مفتوح ثم تصمت، وتتركك تتخيل وتخمن كم صفحة قرأت منك.

هذه النظرة ليست فضولية، بل مجرّدة من الحاجة غالباً، تراك، وتقرر ألا تقول شيئا، وهنا تحديدا يبدأ الرعب.

لأنك تستطيع مجابهة من يصرّح، لكن لا حيلة لك مع من يرى كل شيء ويختار ألّا يتدخل.


في بعض لحظات كتابتي لهذا النص كنت أكتب وأنا أشعر بهذه العين عليّ: عين الشاهد التي لا تحكم، لا تُملي، لكنها تشهد.
وللحظة قصيرة، ظننت أنني تخلّصت من قناعي، ثم سمعت نفسي أُسرّب قناعا جديدا،فقط لكي لا أُرى عاريا تماما.

في المشهد الأخير من Persona، تُعاد الصورة الأولى: لكاميرا نفسها، الإضاءة نفسها، الطفل نفسه يمدّ يده من جديد نحو شاشة لا ترد.

لكن بعد كل هذا التكرار، هل نجرؤ على القول أن شيئا لم يتغير؟

الصورة التي بدأ بها الفيلم تبدو الآن كأنها بعث جديد، وكأن الطفل، الذي ظنناه مشاهدا، هو نفسه الكاتب الصامت.

كل ما قيل، كل صمت، كل انهيار، كان يُعاد فقط لأن هناك من قرر أن يشاهد، دون أن يتكلم.


في الأسطورة الهندية، فيشنو لا يظهر دائما كإله صريح، بل يتجسّد أحيانا في إنسان، أو قناع، أو حتى حلم.

ويستمر العالم لأنه يتخفّى، لا لأنه يهيمن.

وكأن ذلك الطفل هو أحد تجلياته، وكأنه فيشنو حين يراقب الصمت، ولا ينقذه.

أو لعلّه نحن، حين نكتشف أن المشهد الذي نبكي فيه كان قد كُتب قبلنا.


وفي لحظة ما، وأنا أكتب هذا النص، لم أعد متأكدا إن كنت أكتب عن الفيلم، أم أن الفيلم قرر أن يكتبني.

السطور صارت أدوارا وكل الذي ذكرتهم أو أشرت إليهم في النص صاروا كأنهم يطلّون علي أنا من كواليس المسرح الذي أؤديه يوميا.

أين أنا في هذا كله؟
هل أنا محمد الذي يشاهد الفيلم ثم يكتب عنه؟
أم أنني الشخصية التي تمسح الغبار عن شاشة في خيال كاتب آخر وتتظاهر بأنها تفهم بينما الحقيقة تُعرض عليها من مكان أعمق منها؟

في Persona، ينتهي الفيلم كما بدأ، أو هكذا يبدو. وأنا أيضاً أخشى أنني، وبعد أن أنتهي من هذا النص، لن أعود كما بدأت.

لأن هناك لحظة في كل تأمل يبدأ فيها النص بالتحرّك وحده ويصير الكاتب فقط أداة استماع، لا أداة خلق.

وللحظة قصيرة أشعر كأنني ألما، أحكي كثيرا، وأن من يقرأني الآن هو إليزابيث: صامت، لكن يرى كل شيء.


في واحدة من أرقّ أغاني فرانك سيناترا يهمس في المايكروفون:

“In the wee small hours of the morning,
while the whole wide world is fast a---sleep---…”

هذا الوقت الذي لا هو ليل ولا هو نهار، هو نفسه الوقت الذي ينهار فيه القناع وتبدأ الروح تسمع نفسها للمرة الأولى.

الذين يتعاطون الحشيش أو غيره لا يبحثون عن لذّة أو راحة فقط، بل غالبا عن لحظة من ذلك النوع، عن إحداث شرخ في الحجاب، عن لحظة تذوب فيها الذات، ويتوقّف الإيغو عن الأمر والنهي.

وفي Persona، يحدث شيء يشبه ذلك الموت للإيغو، وليس لأن أحدا دخّن الخبّيزة، بل لأن الصمت طال، والتمثيل استُنزف، والكاميرا، للمرة الأولى، لم تجد من تمسك به.

لكن بدلاً من نغمة سيناترا الدافئة، نسمع صوتا آخر: نبضا شاحبا، طنينا بلا مقام، أنينا كهربائيا أشبه بتسريب من داخل المخ.

الموسيقى هنا لا تعزف… بل تكشف ما لا يمكن قوله.

وهذا هو الموت الصغير للأنا، حين لا تعرف من تكون، لكنك لا تخاف، لأنك لم تَعُد بحاجة لأن تثبت شيئا.

وكأن كل الفيلم لا يقود إلى حبكة، بل إلى لحظة ما: لحظة داخليّة تشبه ال wee small hour في وعي الإنسان، حيث لا أحد مستيقظ سواك، ومعك الشيء الذي تراه حين لا يكون هناك أحد آخر.


في فيلم الخطايا، يقف عبد الحليم حافظ على مسرح فارغ يغني لنادية لطفي التي تكتفي بالصمت:

“قوللي حاجة… أي حاجة…”

يرتفع صوته…

لا لأن الجمهور يطلب، بل لأن الصمت الذي أمامه أقوى من كل ما يمكن أن يُقال.

والمسرح؟

فارغ !

كما لو أن الغناء نفسه يُلقى في هاوية لا تعيد الصدى.


وفي اللحظات الأخيرة من Persona لا يحدث شيء جديد بل يُعاد ما ظننّاه بدأ منذ زمن، وكأن الفيلم نفسه نسي أنه عرض هذا من قبل. وحين يُعاد المشهد نفسه ولا يتغير فيه شيء تبدأ تشتبه أن النهاية ليست نهاية، بل تكرار يُراد له أن يبدو مألوفا.

لا أحد يخرج من الشاشة. فقط تنطفئ الكاميرا دون أن يُقال “اقطع.” لم يعد أحد هناك، لكن اليد ما زالت ممدودة نحو شيء لا يُرى. ربما انتهى الفيلم. ربما لم يبدأ بعد.

لكن في مكان ما، بين صورة ومرآة، بين صمتين متتابعين، كان هناك شخصٌ ما يرتدي وجهه كما لو كان آخر دور يُعرض في الكون.



#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)       Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجوكر في عين المخرج
- حين تعود الدببة: عن الانهيار الحضاري الوشيك
- لحم رقمي: وعي بلا دم
- في البدء كانت الموسيقى: رحلة في طقوس الغناء ومقدساته
- قبر اليراعات في غزة
- الإيمان عند كيركيغارد: بلا وسادة
- حين تهمس النجوم: من بيتكوين إلى مقياس كارداشيف
- الأناركية الفردية سوف تخفي الذهب تحت البلاطة، فوق الدولة
- ميم: رواية بضمير مستتر
- الإيقاع الحلال: ماذا لو جاز الجاز؟
- خطة الله في غزة
- سأم مع سبق الإصرار
- غزة: مشهد إضافي
- كاتب يطارد شبحه في أرشيف الإنترنت
- حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 8
- حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 7
- مذكرات تائب -٦
- مذكرات تائب - 5
- مذكرات تائب - ٤
- مذكرات تائب - ٣


المزيد.....




- لماذا يعارض مؤيدون بارزون لترامب قبول الطائرة القطرية؟
- -هذه ليست حقبة حرب-، مودي يوجّه أول خطاب للأمة منذ بدء الضرب ...
- رئيس حكومة الوحدة في ليبيا: وزارتا الداخلية والدفاع حققتا إن ...
- إسرائيل تغتال الصحفي حسن إصليح خلال تلقيه العلاج في مستشفى ن ...
- ليبيا: اشتباكات ليلية بين مجموعات مسلحة في طرابلس ووزارة الد ...
- هدية -القصر الطائر- لترامب.. ماذا يقول القانون الأميركي؟
- وكالات أنباء -ممنوعة- من مرافقة ترامب بجولة الشرق الأوسط
- بيان عاجل بشأن -أحداث طرابلس-.. والدبيبة يعلق
- ترامب في طريقه للشرق الأوسط.. ويصف زيارته بـ-التاريخية-
- ليبيا.. لقطات لاقتحام مقرات -الدعم والاستقرار- وتحرير محتجزي ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد عبد القادر الفار - أكملي الدور (خارج النص، داخل الصورة)