أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - خالد علي سليفاني - وسائل التواصل الاجتماعي: مرآة القلق الجمعي وتجليات الذات المعاصرة















المزيد.....

وسائل التواصل الاجتماعي: مرآة القلق الجمعي وتجليات الذات المعاصرة


خالد علي سليفاني
شاعر وكاتب ومترجم

(Khaled Ali Silevani)


الحوار المتمدن-العدد: 8323 - 2025 / 4 / 25 - 19:35
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في عصرنا الرقمي، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من مجرد منصات لنقل المعلومات أو للترفيه. لقد تحولت إلى جزء أساسي من حياتنا اليومية، حيث تتداخل فيها التحولات النفسية والاجتماعية والثقافية بشكل عميق. أصبح هذا الفضاء الرقمي بمثابة مرآة تعكس التغيرات التي تطرأ على كيفية تفاعلنا مع العالم ومع أنفسنا، وأصبح يعكس بشكل يومي صور الذوات الفردية والجماعية، كأنها مرايا متعددة تكشف عن اضطراب النفس، وتقلّب الفكر، وتفاوت الوعي داخل المجتمعات.
إننا أمام ظاهرة جديرة بالتأمل: إنّ السوشيال ميديا ليست فقط وسيلة، بل حالة فكرية ونفسية قائمة بحدّ ذاتها. وسنحاول في هذا المقال مقاربة هذه الظاهرة من ثلاث زوايا مترابطة: البعد النفسي، البعد الثقافي والاجتماعي، وأخيرًا البعد اللغوي والدلالي.

أولًا: البعد النفسي والسلوكي: مرآة النفس القلقة
عند نتأمل المحتوى المنتشر على منصات التواصل، تتجلّى أمامنا مظاهر نفسية متكررة، تُظهر أن الذات الفردية لم تعد تجد ملاذًا حقيقيًا في العالم الواقعي، فتلجأ إلى المساحة الرقمية كمتنفّس داخلي. ويمكن تمييز بعض التجليات:
نبرة الحزن والخذلان: تكاد لا تخلو منصات التواصل من اقتباسات حزينة، أو صور رمزية تعبّر عن الانكسار، مما يعكس حالات اكتئاب مقنّع أو إحساس بالفقد. إن هذه اللغة الرمزية تعبّر عن حاجة دفينة للاحتواء، حتى وإن بدت على شكل منشورات "جمالية". قد تكون هذه الظاهرة مرتبطة بـالميل نحو "القلق الاجتماعي" وخوف المواجهة، حيث يعبّر الأفراد عن اضطراباتهم النفسية بشكل غير مباشر، محاولين إيجاد مأوى في الفضاء الرقمي.

المبالغة في إظهار النجاح أو السعادة: يلجأ العديد من الأفراد إلى إظهار حياتهم على أنها مثالية، مليئة بالإنجازات واللحظات السعيدة، وكأنهم يعوّضون افتقارهم إلى الاستقرار النفسي الداخلي. إنها محاولات لخلق "ذات بديلة" مثالية، تتجاوز خيبات الأمل التي يتعرضون لها في الواقع. ربّما يكون هذا الأمر انعكاسًا لما يُسمى بــ "الإجهاد النفسي الاجتماعي"، حيث يشعر الأفراد بضغط مستمر للظهور بمظهر النجاح في عالم يُسّوق له هذا النموذج المثالي.

الانسحاب الرقمي أو الصمت: الغياب غير المفسَّر عن النشر أو التفاعل غالبًا ما يكون أبلغ من الكلام، إذ يدلّ على حالة نفسية متعبة، أو رغبة في الانعزال عن الضجيج الرقمي الذي لم يعد يوفر دعمًا حقيقيًا. في هذا السياق، يمثل الانسحاب الرقمي نوعًا من التفريغ النفسي أو الهروب من ضغط التواصل المستمر. هذه عملية معاكسة؛ فالأصل هو الهروب من الواقع إلى التواصل، وعندما لم يجد الفرد ضالته في الفضاء الرقمي، عاد إلى الواقع وهرب من التواصل.

ثانيًا: البعد الثقافي والاجتماعي: ساحة صراع بين الترفيه والوعي

أصبحت المنصات الرقمية مشهدًا ثقافيًا أيضًا، حيث يُعبّر عن عمق التغيرات التي تمر بها المجتمعات، إذ تكشف عن طبيعة ما يشغل الناس، وتكتشف أنماط التفكير السائدة. ويمكن أن نميز هنا:
التكرار المفرط لمواضيع معينة: بدءًا من تصوير التفاصيل اليومية مثل: ضيافة لدى صديق، لقاء شخص، زيارة حديقة، وحتى سوق الحي، وصولاً إلى التعبير عن حالات مزاجية لحظية...، الحنين إلى الماضي، السخط السياسي، الشكوى من الواقع... وكلها مؤشرات على قلق جماعي مزمن، وشعور عام بالاغتراب وفقدان السيطرة. يتكرر هذا القلق في معظم المنشورات، مما يعكس صورة مجتمعية غير مستقرة، حيث يبحث الأفراد عن إجابات لأسئلة وجودية في ظل التحديات اليومية.

هيمنة المحتوى الترفيهي والسخرية: في مقابل المعاناة الواقعية، يلجأ العديد من الناس إلى نشر محتوى ساخر أو مفرط في الترفيه، كآلية نفسية للهروب أو التخدير، وهو ما يعكس حالة من الإنهاك الاجتماعي والاستنزاف النفسي وفقدان الأمل بالتغيير. يعبّر هذا النوع من المحتوى عن محاولة الهروب من قسوة الحياة والأزمات اليومية عبر "الترفيه" الذي لا يقدّم حلًا فعليًا لأي مشكلة.

استخدام الرموز الدينية أو الروحانية: لم تعد هذه الرموز تعبيرًا عن الإيمان بالمعنى التقليدي، بل أصبحت في بعض الأحيان وسيلة لإعادة تعريف الذات في ظل العجز واللاجدوى، ومحاولة لإيجاد بوصلة انتماء في غياب الهوية الفكرية المحددة، أو سعيًا للعثور على معنى في عالم سريع التغير. في هذا السياق، أصبحت الرموز الدينية تتخذ طابعًا متغيرًا، حيث تُستخدم كأدوات لتشكيل الهوية في ظل فقدان المعنى في الحياة اليومية.

ثالثًا: البعد اللغوي والدلالي: اللغة بوصفها مرآة العقل الجمعي
من أعمق مؤشرات التحولات الذهنية والثقافية في فضاء السوشيال ميديا، هي اللغة نفسها، بوصفها أداةً للتفكير والتعبير. وهنا نلاحظ:
تفكك الأسلوب وتراجع البنية اللغوية: يُلاحظ ميلٌ عام لاختزال التعبير، وتكثيف المعنى في صور أو جمل قصيرة، أحيانًا مشوّهة لغويًا. وهو ما يدلّ على استعجال ذهني، أو ضعف في التواصل المعرفي. قد تصبح اللغة في هذا الفضاء وسيلة سريعة، أحيانًا سطحية، لا تعكس التفكير العميق الذي يتطلبه التواصل المعرفي الحقيقي.

التضاد بين العمق والسطحية: في ذات المساحة، نجد من ينشر تحليلات فكرية راقية، وآخرون يكتفون بجملٍ ساخرة أو محتوى خالٍ من المعنى. يكشف هذا التناقض عن تفاوت شديد في مستويات الوعي داخل المجتمع الواحد، بل داخل الفرد الواحد أحيانًا. وهو ما يبرز الفجوة بين الرغبة في الوصول إلى عمق الفهم والتعبير، وبين الاستسهال السائد في التفاعل الرقمي.

استخدام اللغة كقناع اجتماعي: تُستخدم اللغة أيضًا كأداة للتجميل، للتأثير، أو لإخفاء ما لا يُراد كشفه من جوانب الشخصية، ما يدلّ على تشظّي الهوية الذاتية ومحاولات مستمرة لإعادة تشكيلها رقميًا؛ فقد باتت اللغة على وسائل التواصل الاجتماعي أداة للتخفي وراء قناع من الكلمات والصور، ما يعكس إصرارًا على إبراز صورة مثالية للذات.

ختامًا، لا تعدّ وسائل التواصل الاجتماعي اليوم مرآة للأفراد فحسب، بل خريطة للعصر الذي نعيش فيه، مليئة بكل تقلباته واضطراباته. إنها ليست مجرد ساحة للتفاعل الاجتماعي، بل ساحة لفهم الذات المعاصرة في قلقها، في صراعها، وفي محاولتها الحثيثة لصناعة صورة متزنة داخل عالم مضطرب لا يرحم. إن قراءة هذه الوسائط بمنهج فلسفي تحليلي يمنحنا مفاتيح لفهم المجتمع من الداخل، ويُعيد الاعتبار لأهمية المحتوى البسيط كدليل على ما هو عميق وخفيّ في الإنسان المعاصر. قد يكون التوازن بين التفاعل الرقمي والاتصال الواقعي هو السبيل لاستعادة التواصل العميق مع الذات ومع العالم، في عصرٍ يزداد فيه التغيير سرعة وضغطًا.



#خالد_علي_سليفاني (هاشتاغ)       Khaled_Ali_Silevani#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرواية الخالدة: حين يصبح الأدب فخًا نفسيًا وتجربة وجودية
- من أجل واقع أقل وحشية
- العراق وكوردستان: تجليات الدولة المأزومة في فضاء الجغرافيا ا ...
- تغريد الإبداع أمام تهريج الجهلة
- إنتاج الغباء
- حين يشكر الكاتبُ الناشرَ: أزمة التقدير في عالم الكتب – تفكيك ...
- فساد بالتقسيط... حتى إشعار آخر!
- الشخصية الكوردية بين إرث الصراعات وغياب الرؤية الاستراتيجية
- وهم المجد ومجد الوهم
- التكوين الفلسفي للهوية الكوردية في كتاب -كوردستان القديمة-
- بين -حانة- الحداثة و-مانة- التراث
- سلاسل من حرير
- التاريخ بين السرديات المتباينة وإشكالية التزييف
- جدلية الحقيقة: بين الإدراك والواقع
- لا وجه له
- الاحتفال بين الهروب والتحدي: تساؤلات حول معنى الفرح في ظل ال ...
- دور المهرجانات السينمائية في دعم القضايا القومية والوطنية: د ...
- الأنظمة القمعية تسقط، لكن الفكر القمعي يبقى إرثًا متجذرًا
- سارع إلى تعلم السباكة قبل غيرك: متغيرات قادمة والمستقبل مجهو ...
- فلسفة السرد الروائي: الأخطاء التي تشوّه البنية الأدبية


المزيد.....




- زاخاروفا ترد على تصريحات زيلينسكي حول -استعادة- شبه جزيرة ال ...
- مراسل RT: تبادل لإطلاق النار في طرابلس إثر محاولة توقيف أحد ...
- أوكرانيا -قد تضطر- للتخلي عن أراضٍ لصالح روسيا وترامب يؤكد أ ...
- مجلة أمريكية تطلق عدًا تنازليًا لانتهاء ولاية ترامب.. ما الق ...
- -دون شروط- - واشنطن تفرج عن 1.3 مليار دولار مساعدات عسكرية ل ...
- مناورات جوية واستثمارات ضخمة .. رسائل من مصر والصين لترامب؟ ...
- ترامب: ويتكوف عقد -اجتماعا جيدا- في الكرملين
- ترامب: تحدثت مع نتنياهو وطلبت منه -الترفق- بقطاع غزة
- مستشار الخارجية الأمريكية الأسبق: زيلينسكي لن يغتنم فرصة الس ...
- -جيش- من البعوض يغزو طائرة بأكملها! (فيديوهات)


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - خالد علي سليفاني - وسائل التواصل الاجتماعي: مرآة القلق الجمعي وتجليات الذات المعاصرة