أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - فلسفة القفزة القاتلة















المزيد.....

فلسفة القفزة القاتلة


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 8320 - 2025 / 4 / 22 - 14:06
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


278- أركيولوجيا العدم
العدمية الثورية
26 - جاكوبي والقفزة القاتلة

منذ سنة ١٧٨٧، كان جاكوبي قد توصل إلى إكتشافه المروع وموضوعه الذي يعتبر النواة الصلبة لتفكيره، والذي أنتج، بعد إثنتى عشرة سنة من النضوج، عمله النهائي وهو رسالته إلى فيخته. إن شر الحداثة هو العدمية، هذا هو إكتشاف جاكوبي بعد قرائته لسبينوزا، والآلة الجهنمية المسؤولة عن هذه الخطيئة المدانة تم تحديدها، منذ البداية بوضوح : إنها العقل، هذا الصنم الزائف للإنسانية التي انفصلت عن جذورها وجعلها هائمة في فراغ الخيال والأوهام. ينطلق جاكوبي في حملة صليبية ضد عقلانية التنوير، ولكن من دون الوقوع في معاداة العقلانية المتطرفة، لأن العقل، هذا العجل الذهبي الذي يكرس له المعاصرون عبادة لا حدود لها، يظل بالنسبة له الأداة المفضلة لفك رموز العالم المشبع بالعقلانية، وفك رموز الحداثة. فهو شديد الحذر والدقة في هجومه، يطلب فقط أن يكون العقل محصورا ضمن حدود استخدامه العادل، أي أنه يطالب بتقليم العقل وتدجينه ولا يطالب بإعدامه. تشكل رسالة جاكوبي حول العدمية عام 1799، الموجهة إلى فيخته، وثيقة أساسية لنشأة العدمية الأوروبية، في ذروة الصراع حول الإلحاد، وهو عمل حربي هجومي عنيف ضد الفلسفة الغربية بأكملها، التي اتهمها بالعدمية من ناحية وباللا أخلاقية من ناحية أخرى. وفقا لجاكوبي، فإن "الفلاسفة" حرموا العالم من كثافته وزخمه الوجودي وأفرغوا الحياة من محتواها وحرارتها المباشرة من خلال التجريد والتأمل والتصورات الفارغة، وقدموا لنا منتصرين بقايا جامدة من الحياة الجافة ليست سوى انعكاس أجوف لأناهم المتضخمة.
إن تهمة العدمية التي وجهها جاكوبي إلى فيشته على هامش الصراع حول الإلحاد لم تكن موجهة في البداية ضد فيشته، بل كان لها في الأصل هدف مختلف تماما، وهو فلسفة التنوير، الذي وضع تحت علامة التحول المتعالي الذي أحدثه ديكارت والذي ستكون نتيجته الدور الطاغي الممنوح للعقل البشري، والذي خلق صنما جديدا من شأنه أن يؤدي عبادته إلى قمع كل تجاوز وحل كل القيم.
ولكن على من يبدأ الهجوم؟ ومن الغريب أن جاكوبي لم يبدأ الحرب على ممثلي التنوير بشكل مباشر، بل كان الهدف الأول الذي اختاره ووجه هجماته ضده هو فلسفة سبينوزا. ذلك أن أخطر المشكلات التي أثارها هذا الفيلسوف على وجه التحديد هو قضاءه على فكرة التعالي أو التسامي transcendance. إن وحدة الوجود Le panthéisme عند سبينوزا ليست في نهاية المطاف سوى إلحاد. لا يوجد إله تشرف شخصيته المقدسة على العالم وتدير أموره وتعطيه معنى. لم تعد هناك حرية، بل مصيرية وقدرية fatalisme مؤلمة تحصر البشر في دور الدمى. كل شيء عند سبينوزا هو طبيعة، طبيعة تخضع بشكل صارم لقوانين الضرورة. ويقارن حرية الإنسان بحرية الحجر في السقوط: إذا قذفت حجرا في السماء، فإنه سيرتفع ويرتفع ثم يقرر في النهاية التوقف عن الإستمرار في الإرتفاع ويقرر السقوط والعودة إلى الأرض. إن فكرة الحرية بمعنى حرية الإرادة libero arbitrio، التي قال بها القديس أوغسطين Augustin d Hippone، ردا على مشكلة الشر في العالم : "أليس الله هو خالق الشر؟" إذا كانت الخطيئة من عمل النفوس، وهذه النفوس خلقها الله، فكيف لا يكون الله في نهاية المطاف هو المسؤول عنها؟ فيجيب القديس أوغسطين: "لقد منح الله مخلوقه، إلى جانب الإرادة الحرة، القدرة على التصرف بشكل خاطئ، وبالتالي المسؤولية عن الخطيئة"، هذه الحرية التي لا تخلو من القوة المغرية لن تكون إلا وهماً في فلسفة سبينوزا الذي يسخر من هذه الحرية "حرية الحجر في السقوط". مصطلح العدمية لم يظهر بعد في الهجوم الأول على سبينوزا، ولكن الجدل الذي بدأه جاكوبي في عام 1785 من خلال النزاع حول وحدة الوجود هو في الواقع الفصل الأول من المحاكمة التي بدأها ضد العدمية. في مواجهة عقلانية سبينوزا الجذرية التي لا هوادة فيها، اختنق جاكوبي. الحيلة الوحيدة التي وجدها لمعارضة المنطق الهائل لنظام سبينوز هي "القفزة القاتلة - salto mortale " الشهيرة. لا ينبغي بالضرورة تفسير هذه القفزة الإيمانية، التي تتمثل وظيفتها في فتح ثغرة في النزعة الجوهرية الجذرية للطبيعية السبينوزية، على أنها حركة معادية للعقلانية، أنها الطريق الوحيد للهروب من فخ الطريق المسدود السبينوزي. إنها القفزة النهائية للعقل ذاته للهروب من حكم العقلانية الضيقة التي لا تقبل الجدل.
في رسالته لفيختة، ولإجتناب النتيجتين المترتبتين على العقلانية الصرفة، "العدمية" على المستوى الوجودي، و"اللاأخلاقية" على المستوى العملي، جاكوبي، يقفز قفزته المميتة، يقترح بانه يجب الاعتراف بوجود "إله" متفوق على الإنسان وغير قابل للفهم بالنسبة لعقله - وهذا يعني أن الإنسان غير قابل للفهم بالنسبة لنفسه أيضاً - يجب الإيمان بإله خالق منحنا هدية أو هبة الإرادة الحرة. إن مفهوم الإيمان هنا يتضمن التخلي عن المعرفة، لأن معرفة الله تعادل إخضاعه لعقلنا وبالتالي حرمانه من جوهره الإلهي: ولذلك يؤكد أن الإنسان يجد الله لأنه لا يستطيع أن يجد نفسه إلا في الله؛ وإلا، فلا بد أن توجد قوة إلهية خارقة في الإنسان، أو أن يكون الإنسان قادرًا على اختراع الله. وفي هذه الحالة الأخيرة، إن الله لن يكون إلا فكرة محدودة، كائنًا خياليًا، وليس بأي حال من الأحوال الكائن الحقيقي الأسمى، قائمًا بذاته وحده، المبدع الحر لجميع الكائنات الأخرى، البداية والنهاية. ولهذا السبب يفقد الإنسان نفسه بمجرد أن يريد أن يجد نفسه في ذاته وحدها، كل شيء بعد ذلك يذوب تدريجيا بالنسبة له في العدم. فلا يوجد أمام الإنسان خيار آخر: العدم أو الله. إذا اختار العدم، فإنه يجعل من نفسه إلهًا، وهو نفس الشيء مثل جعل الله شبحًا؛ لأنه من المستحيل، إذا لم يكن هناك إله، أن لا يكون الإنسان وكل ما حوله مجرد أشباح. إما أن يكون الله، وهو خارجي، كائنًا حيًا قائمًا بذاته أو أن يكون الإنسان هو الله. لا يوجد احتمال ثالث بالنسبة لجاكوبي، الذي يعتبر هذا الموقف الأخير هو موقف فيخته وهو النتيجة المنطقية للعقلانية وهو ما يسميه "تأليه للذات".
لقد تظاهر جاكوبي، الذي طلب منه فيشته علناً أن يتخذ موقفاً في المناقشة وأن يقدم له الدعم، بتبرئتة من تهمة الإلحاد، ولكنه استغل الفرصة لاستئناف المعركة التي خاضها لسنوات عديدة ضد أنصار الفلسفة بشكل جديد، والتي كانت رسائله حول عقيدة سبينوزا المنشورة في عام 1785 بمثابة الحلقة المهمة الأولى منها. إن جاكوبي، لم ينتظر ظهور كتابات فيختة لكي يصدر حكمه على الفلسفة، فقبل وقت طويل من أن يتردد اسم فيشته في أذنيه، كان قد شخص الآفة وحدد ما سماه بالـ "العدمية" كمرض الحداثة المزمن.

يتبع



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الله والذكاء الإصطناعي
- رسالة جاكوبي ضد العدمية
- المثالية الألمانية
- بيكيت بين العبث والعدمية
- الجنون
- محنة هاملت
- النفي والإثبات وما بينهما
- العنصرية والكزينوفوبيا
- مسؤولية العدسة
- الفن من أجل الفن .. !
- ألهة الدمار
- داغرمان ودكتاتورية الكآبة
- حدود العقل
- العلم والجهل والذكاء
- اليوم العالمي للدفاع عن حقوق النساء
- عن الشعر والملل
- إشكالية الإيمان عند كانط
- الشوكولاطة وجنية البحر
- عن الغربة والإستلاب
- عن الثورة والندم


المزيد.....




- رؤساء أكثر من 100 جامعة أمريكية يوقعون بيانا مشتركا يرفض ضغو ...
- تُستخدم في الهواتف والسيارات الكهربائية.. لماذا يُعد احتكار ...
- وزير خارجية إيران يُقدم عرضا للشركات الأمريكية بـ-عشرات مليا ...
- الخارجية اللبنانية تستدعي السفير الإيراني
- -ديلي تلغراف-: أوكرانيا تحولت إلى مختبر عسكري
- لبنان.. أهالي بلدة حوش السيد علي الحدودية مع سوريا يطالبون ا ...
- مصر.. فيديو مخل لفتاتين داخل عربة مترو والداخلية تكشف التفاص ...
- سويسرا تفرض عقوبات على 8 وسائل إعلام روسية
- بوتين يدعو سلطان عمان للمشاركة في -قمة روسيا والدول العربية- ...
- الجيش الإسرائيلي: عطوي كان يتعاون مع حماس ويخطط لهجمات ضد إس ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - فلسفة القفزة القاتلة