طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 8290 - 2025 / 3 / 23 - 00:38
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كوهوت والحقيقة: العائلة الصارمة!
ذكرت في الحلقة السابقة, انه حسب المحلل النفسي كوهوت
"يُنظر إلى فشل الوالدين في توفير التعاطف المناسب باعتباره مصدرًا لمعظم الأمراض النفسية"
وايضا ذكرت في الحلقة 80
"لقد دافع الفلاسفة عن نظريتين مختلفتين للحقيقة: المطابقة والتماسك.
تنص نظرية المطابقة على أن الحقيقة تتكون من درجة المطابقة بين الشيء ووصفه."
فاذا اتفق البعض مع المحلل النفسي كوهوت, فان انعدام الرعاية "السوية" للطفل من قبل الوالدين او من يقوم مقامهما وضعف التعاطف والقسوة في التعامل مع الطفل من قبلهما قد تسبب في حدوث اضطرابات نفسية او تخلق شخصا ضعيفا و مهزوزا وينهار بسرعة عندما يصطدم بجدار الواقع الصلد ويجابه شدائد الزمن؟ فهل هذا صحيح من وجهة نظرية المطابقة مع الواقع لتعريف الحقيقة؟
كثير من الوقائع والبحوث الحديثة في علم النفس تؤكد ان العكس هو الصحيح ,او على الأقل ليس صحيحا دوما.
هذا يعني ان لا مدرسة من مدارس التحليل النفسي ولا حتى التحليل النفسي بمجمله يستطيع الزعم بامتلاكه الحقيقة المطلقة بخصوص خفايا ودوافع النفس البشرية او التكهن مسبقا بمسار تطورها. وحسب علمي ليس هنالك من هكذا زعم.
(أيضا, ان القاء اللوم على الوالدين في حدوث الاضطرابات النفسية لاطفالهما قبل او بعد البلوغ هو امر غير مبرر ويولد مشاعر الذنب عند الوالدين. والعلاقة هي ليست سببية كما شرحت مفهوم السبب من قبل في الحلقة 80)
فعدما ينتقدك أحدهم باستمرار، فأنت تعلم أنه قاسٍ. عندما تُقيّم عائلتك كل حركة تقوم بها، تشعر بالضغط. هذه هي أساسيات النشأة في أسرة صارمة.
لكن الأمور ليست بهذه البساطة. النفس البشرية شبكة معقدة، تتأثر بشدة بالتجارب المبكرة. وبالقراءة بين السطور، نرى أنماطًا معينة تظهر لدى من واجهوا أحكامًا وقسوة عائلية.
يبدو أن بعض الأفراد يمتلكون موهبة فهم هذا الأمر، لأنهم عادةً ما يمتلكون هذه السمات الثماني المحددة التي ورثوها من تربية قاسية.
1) مرونة عالية بشكل غير عادي
يمكن أن تكون الحياة غير متوقعة مثل لعبة الأفعوانية.
في لحظة، تبدو الأمور مشرقة وألوان قوس قزح، وفي اللحظة التالية، تجد نفسك وسط عاصفة، تكافح جاهدًا للنجاة. لكن المشكلة تكمن في أن من نشأوا في بيئة عائلية حرجة او صارمة تعلموا الصمود في وجه هذه العواصف بمرونة خارقة .
7
habits of resilient people who bounce back stronger after setbacks, according to psychology
https://geediting.com/dan-habits-of-resilient-people-who-bounce-back-stronger-after-setbacks-according-to-psychology/
لماذا؟ لأنهم عانوا من عواصف عاطفية لا تُحصى مع عوائلهم. لقد خضعوا لاختبارات صعبة في قسوة العائلة وحكمها، مما ضاعف من صمودهم العاطفي.
لكن هذا لا يعني أنهم محصنون ضد الألم العاطفي. بل على العكس تمامًا. يشعرون بالأشياء بعمق، ربما أكثر من غيرهم، لكنهم تعلموا تجاوز العاصفة بدلًا من أن يتركونها تعصف بهم.
إنهم قادرون على التنبؤ بموعد هبوب رياح التغيير، والتكيف بسرعة مع التغيرات في الظروف، وهم خبراء في إظهار الشجاعة عندما تصبح الأمور صعبة.
2) الوعي المفرط بمشاعر الآخرين
الطفل الذي ينشأ في عائلة صارمة يستطيع أن يلاحظ أدنى تغير في مزاج أحدهم، حتى لو حاول جاهدًا إخفاءه. كأنه طور حاسة سادسة، رادارًا للعواطف، إن صح التعبير.
الطفل الذي ينشأ في عائلة قاسية ومنتقدة يضطر لتعلم قراءة ما يدور في الغرفة-الجو المحيط بسرعة. يكون أصغر تغيير في نبرة الوالديّن أو أدنى تحول في لغة جسدهما دليلاً له - إشارة إلى أنه بحاجة إلى تعديل سلوكي أو الاستعداد لعاصفة.
If someone is a natural at knowing how to read a room, they’ll demonstrate these 8 behaviors
https://geediting.com/if-someone-is-a-natural-at-knowing-how-to-read-a-room-theyll-demonstrate-these-behaviors/
يظل هذا الوعي المفرط يلازم الطفل حتى يكبر. قد يكون غامرًا أحيانًا، إذ يشعر بكل شيء بعمق. لكنه يسمح له أيضًا بالتواصل مع الناس على مستوى أعمق. يستطيع أن يشعر عندما يمر أحدهم بيوم عصيب أو عندما يشعر بفرح غامر ولكنه يحاول التظاهر بالهدوء.
هذا الوعي المتزايد بمشاعر الآخرين ليس مجرد نتيجة ثانوية لتربية قاسية، بل هو هبة لا تُقدر بثمن.
3) الكمال
تخيّل هذا: تعمل على مشروع، ولا يمكنك التوقف حتى تُنجز كل التفاصيل على أكمل وجه. يصفك أصدقاؤك بالدقة، لكنك تعلم الحقيقة. الأمر لا يتعلق فقط بالدقة، بل بالكمال.
غالبًا ما ينبع هذا السعي للكمال من النشأة في أسرة قاسية ومنتقدة. عندما يكون الحب والقبول مشروطين، قائمين على تحقيق معايير عالية، يتطور لديك بطبيعتك ميلٌ للسعي نحو الكمال.
ومن المثير للاهتمام أن علماء النفس وجدوا رابطًا قويًا بين الكمال والنشأة في بيئة يتم فيها اكتساب الموافقة بدلاً من منحها بحرية.
Predicting adolescent perfectionism: The role of socio-demographic traits, personal relationships, and media
https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC8727251/
في الواقع، وجدت إحدى الدراسات المنشورة في "مجلة الشخصية" أن الأشخاص الذين تعرضوا لتربية قاسية كانوا أكثر عرضة لتطوير ميول الكمال.
The Influence of Parental Perfectionism and Parenting Styles on Child Perfectionism
https://www.researchgate.net/publication/354390599_The_Influence_of_Parental_Perfectionism_and_Parenting_Styles_on_Child_Perfectionism
لذا، إذا وجدت نفسك عالقًا في دوامة السعي وراء الكمال، فقد يكون ذلك لأن ماضيك يؤثر على حاضرك. لكن تذكر، بينما يُعد السعي نحو التميز أمرًا محمودًا، فإن السعي وراء الكمال الذي يصعب بلوغه قد يكون مُرهقًا. لا بأس أحيانًا بالتخلي عن كل شيء والاكتفاء بالوجود.
4) الشك الذاتي المتجذر
هل شعرتَ يومًا بأنك لستَ جيدًا بما يكفي، مهما حاولتَ؟ وكأنك دائمًا ما تُخيب الآمال، حتى بعد بذل قصارى جهدك؟
غالبًا ما يتجذر هذا الشك الذاتي المتجذر لدى من نشأوا في عائلات قاسية ومنتقدة. فالتدقيق المستمر والنقد اللاذع قد يُضعفان ثقتك بنفسك، ويتركان وراءهما شكًا لا تستطيع التخلص منه.
People who struggle with self-doubt often engage in these 8 self-sabotaging behaviors (without realizing it)
https://geediting.com/people-who-struggle-with-self-doubt-often-engage-in-these-self-sabotaging-behaviors-without-realizing-it/
للأسف، لا يختفي هذا الشك الذاتي بمجرد مغادرة منزل طفولتك، بل يلازمك حتى مرحلة البلوغ، مؤثرًا في قراراتك وشكلًا لتفاعلاتك مع الآخرين.
لكن هنا يكمن الجانب المشرق - إدراك هذا النمط هو الخطوة الأولى نحو كسره. تذكر أن قيمتك لا تُحدد بأحكام الآخرين أو انتقاداتهم. أنت كافٍ، كما أنت: طبعا هذا مغهوم يعود الى اعظم فلاسفة عصر الحداثة, عمانوئيل كانط بأن قيمة الانسان قيمة ثابتة ولا يمكن التقليل منها مهما كانت سمات او سلوكيات الشخص. ولائحة حقوق الانسان هي الأخرى مستمدة من هذه المفاهيم. فلتقريب هذه الفكرة, يمكن الاستعانة بهذا المثال: لو اخذنا عملة ورقية من فئة واحد دولار ووضعناها في صندوق ذهبي, فهل ان قيمة الدولار هنا مختلفة عن قيمته لو دسنا عليه باحذيتنا؟ الجواب بالطبع كلا. قيمة الدولار تبقى نفسها اينما وٌضع. وكذلك هي قيمة الانسان ثابتة لا يمكن الانتقاص منها باختلاف الظروف او الأحوال.
5) الخوف من المواجهة
قد يخشى الشخص المواجهة. مجرد التفكير في جدال حاد أو مواجهة حادة كفيلٌ بإثارة نبضات قلبه.
اذا كانت البيئة العائلبة قاسيةً وحكميةً judgemental خلال نشأة الطفل, وكلما نشأت خلافات فانها تتفاقم بسرعة إلى جدالاتٍ حادة. الانتقادات تتطاير كالرصاص في ساحة حرب، ويكون من الأفضل دائمًا الاختباء بدلًا من المواجهة.
نتيجةً لذلك، ينشأ لدي الطفل خوفٌ من المواجهة، وهو ما قد يظلّ يلازمه حتى سنّ البلوغ. يجد نفسه يتجنّب الصراعات مهما كلّف الأمر، حتى على حساب احتياجاته ومشاعره أحيانًا.
لكن, نحن نعلم, ليست كل المواجهات مدمرة. أحيانًا تكون ضرورية للتواصل والنمو. ومع أن التغلب على هذا الخوف ليس سهلًا، إلا أنه ممكن بالتأكيد ويستحق العناء.
6) الشعور القوي بالاستقلال
تخيل هذا: أنت في موقف تحتاج فيه إلى مساعدة، ولكن بدلًا من طلبها، تقرر مواجهتها بمفردك. قد يسميها البعض عنادًا، أما أنا فأسميها شعورًا قويًا بالاستقلالية.
من المثير للدهشة أن النشأة في أسرة قاسية ومنتقدة قد تُغذّي هذه السمة. فعندما لا تستطيع الاعتماد على عائلتك في الدعم العاطفي، تتعلم الاعتماد على نفسك. تصبح معتمدًا على نفسك وتكتسب مرونة يصعب كسرها.
مع ذلك، قد يكون هذا الاستقلال الراسخ سلاحًا ذا حدين. فمن جهة، يُمكّنك من مواجهة تحديات الحياة وجهًا لوجه. ومن جهة أخرى، قد يُصعّب عليك طلب المساعدة عند الحاجة.
7
habits of people who remain strong and independent in their 80s and beyond
https://geediting.com/dan-habits-of-people-who-remain-strong-and-independent-in-their-80s-and-beyond/
لذا، إذا وجدت نفسك تعتمد بشكل كبير على استقلاليتك، فتذكر أنه لا بأس من السماح للآخرين أحيانًا. الاستقلال قوة، وكذلك معرفة متى تطلب الدعم.
7) زيادة القدرة على التكيف
هل وجدت نفسك يومًا في موقف جديد ولاحظت سرعة تكيفك؟ تندمج في أي بيئة، وتتكيف مع أي ظرف.
غالبًا ما تكون هذه القدرة المتزايدة على التكيف نتيجةً للنشأة في أسرة قاسية ومنتقدة. عندما تكون البيئة المنزلية غير متوقعة ولابمكن التكهن بما قد يحصل في اية لحظة، يتعلم الطفل التكيف بسرعة مع المتغيرات. ويصبح مرنًا، وقادرًا على تغيير مساره في أي لحظة.
القدرة على التكيف ميزة في عالمنا المتغير باستمرار. فهي تتيح للشخص النجاح في مختلف المواقف والتعامل مع تقلبات الحياة بسهولة نسبية.
مع ذلك، مع أن القدرة على التكيف أمر جيد، إلا أنه من المهم أيضًا أن تبقى وفيًا لنفسك. تذكر أن التكيف لا يعني فقدان هويتك الفريدة، بل يعني التطور مع الحفاظ على قيمك الأساسية.
8) التعاطف مع الآخرين
إذا كان هناك شيء واحد يجب أن تعرفه عن النشأة في عائلة قاسية وحكمية، فهو أنها غالبًا ما تنمي شعورًا عميقًا بالتعاطف مع الآخرين.
لقد مشيت مسافة طويلة بأحذية غير مريحة، لذا فأنت تُدرك انزعاج الآخرين. واجهتَ انتقاداتٍ وأحكامًا قاسية، لذا من غير المرجح أن تُفرط في توجيهها.
بدلاً من ذلك، عليك أن تفهم، وتتعاطف، وتقدم اللطف - لأنك تعلم كم يمكن أن يعني ذلك لشخص يمر بوقت عصيب.
7
subtle signs you have a high degree of empathy
according to psychology
https://geediting.com/subtle-signs-you-have-a-high-degree-of-empathy-according-to-psychology/
هذا التعاطف ليس مجرد سمة، بل هو هبة. فهو يسمح لك بالتواصل مع الناس على مستوى أعمق، وإحداث تأثير إيجابي في حياتهم.
إذا نشأتَ في بيئة عائلية قاسية وطوّرتَ هذا التعاطف، فتذكّر أنه قوتك الخارقة. استغلّها جيدًا!
احتضان الرحلة
لو كنتَ قد وصلتَ معي إلى هذه المرحلة، لَأدركتَ أنَّ النشأةَ في أسرةٍ قاسيةٍ مُنتقدةٍ لا تُحدِّدُ هويتكَ، بل تُشكِّلُكَ وتُصوغُكَ وتُزوِّدُكَ بصفاتٍ فريدةٍ يُمكنكَ تسخيرُها لنموِّكَ.
نعم، قد تكون هذه التجارب قاسية وتترك آثارًا دائمة على شخصيتك. لكن تذكر أن ماضيك ليس حكمًا مدى الحياة. إنه جزء من قصتك، فصل من كتابك، ولكنه ليس القصة الكاملة.
كل هذه السمات - المرونة، والوعي المفرط، والسعي للكمال، والشك الذاتي، والخوف من المواجهة، والاستقلالية، والقدرة على التكيف، والتعاطف - ليست مجرد بقايا تربية صعبة، بل هي شهادة على قوتك، وقدرتك على البقاء، وانتصارك على الشدائد.
كما قال عالم النفس والمعالج النفسي الشهير كارل روجرز ذات مرة :
"الحياة الطيبة عملية مستمرة، وليست حالة وجودية. إنها اتجاه وليست غاية". لذا، استغل هذه الصفات، وتعلم منها، وانمُ معها."
Carl R. Rogers > Quotes > Quotable Quote
https://www.goodreads.com/quotes/7609891-the-good-life-is-a-process-not-a-state-of
أنتِ لستِ مجرد نتاج بيئة عائلية قاسية. أنتِ ناجي، منتصر. وهذا ليس أمرًا جديرًا بالثناء فحسب، بل مُلهمٌ للغاية أيضا.
يتبع
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
