حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8259 - 2025 / 2 / 20 - 08:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في عوالم الفكر السياسي والفلسفي، تبرز أسماء قليلة بجرأة تجعلها قادرة على هدم مسلمات عصرها وإعادة بناء مفاهيم جديدة قادرة على استيعاب تعقيدات السلطة والسيادة والدين. أحد هذه الأسماء هو كارل شميت، الذي ترك بصمته العميقة على الفكر الحديث من خلال عمله الشهير "اللاهوت السياسي"، وهو نص ليس فقط مؤطرًا لأفكار فلسفية وقانونية حول السلطة، بل يعيد صياغة العلاقة بين الدولة والدين والسيادة والطوارئ.
يأتي هذا الكتاب في سياق اضطرابي، حيث كانت أوروبا في أوائل القرن العشرين تعيش تداعيات الحرب العالمية الأولى، وصعود الأنظمة الشمولية، وانهيار النظام القديم. كان هذا العصر لحظة اختبار قاسية للأنظمة السياسية الحديثة التي زعمت قدرتها على تحقيق الاستقرار والسيادة بعيدًا عن الإرث اللاهوتي. في خضم هذا الاضطراب، انبرى شميت ليقدم أطروحته الجريئة التي تربط بين "السيادة" السياسية و"اللاهوت" الديني، مؤكدًا أن العديد من مفاهيم السياسة الحديثة ليست سوى نسخ علمانية لمفاهيم لاهوتية قديمة.
من قلب هذا الكتاب ينبع مفهوم "حالة الاستثناء"، التي يرى شميت أنها اللحظة التي يكشف فيها النظام السياسي عن طبيعته الحقيقية. ففي الأوقات العادية، تبدو القوانين والإجراءات البيروقراطية وكأنها تحكم كل شيء، لكن في لحظات الأزمات، تظهر القوة السيادية باعتبارها السلطة العليا القادرة على تعليق القوانين وفرض إرادتها لضمان استمرار النظام. هنا، يكشف شميت عن ارتباط عميق بين الدين والسياسة: تمامًا كما أن الإله في الفكر اللاهوتي يظهر في "المعجزات"، تظهر السيادة السياسية في حالة الاستثناء.
لكن "اللاهوت السياسي" ليس مجرد عمل حول مفهوم السيادة؛ إنه أيضًا عمل يتحدى التصورات العلمانية الحديثة عن الدولة باعتبارها كيانًا مستقلًا تمامًا عن الدين. شميت يبين ببراعة كيف أن الدولة الحديثة، رغم ادعائها الحياد الديني، تستمد شرعيتها من مفاهيم دينية مغلفة بغطاء علماني. في هذه النقطة تحديدًا، يثير الكتاب أسئلة وجودية: هل يمكن فصل الدين عن السياسة بالكامل؟ وهل يمكن للدولة أن تحكم بلا "قداسة" أو "شرعية عليا"؟
هذا النص الفريد يتجاوز مجرد كونه عملًا فلسفيًا أو قانونيًا؛ إنه دعوة للتأمل في طبيعة السلطة والعلاقة الجدلية بين القانون والسياسة والدين. وبينما أثارت أفكار شميت جدلًا واسعًا وواجهت انتقادات تتعلق بتبريره للأنظمة السلطوية، فإن كتابه يبقى نقطة انطلاق لا غنى عنها لفهم طبيعة السلطة في الأوقات الحرجة.
إن "اللاهوت السياسي" ليس فقط عملًا أكاديميًا بل هو تحدٍ فكري يواجه القارئ بأسئلة عميقة حول جوهر النظام السياسي، الشرعية، والسيادة. إنه كتاب يضعنا أمام مرآة الفكر السياسي الحديث، ليكشف لنا أوجهًا خفية عن علاقتنا بالدولة، والدين، والقانون. إنه عمل يستدعي منا التأمل بعمق في اللحظات التي تتعرض فيها الأنظمة السياسية لاختبار وجودها، وحينها فقط تظهر السلطة على حقيقتها.
كتاب "اللاهوت السياسي" (Politische Theologie) لكارل شميت هو أحد الأعمال الفلسفية واللاهوتية البارزة التي تجمع بين السياسة والفكر اللاهوتي بطريقة فريدة. نشر الكتاب لأول مرة عام 1922، ويعد من الأعمال التي أرست مفهوم "السيادة" في الفكر السياسي الحديث. فيما يلي عرض شامل للكتاب ومحتواه:
1. الخلفية التاريخية والفكرية للكتاب
جاء الكتاب في سياق فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث كانت ألمانيا تعيش حالة من الاضطراب السياسي والاجتماعي. تأثر كارل شميت بتلك الأجواء، وسعى إلى تفسير العلاقة بين الدين والسياسة في ظل الأزمات التي عصفت بالدولة الحديثة.
شميت استوحى أفكاره من التراث المسيحي الأوروبي ومن الفكر القانوني والسياسي الحديث، محاولًا فهم جوهر السلطة السياسية وموقعها في سياق النظام الاجتماعي.
2. الأطروحة المركزية للكتاب
يرتكز كتاب "اللاهوت السياسي" على فكرة محورية: "السيادة هي من يقرر في حالة الاستثناء".
بحسب شميت، تتشابه الأنظمة السياسية مع الأنظمة الدينية من حيث حاجتها إلى "سلطة عليا" قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة في الظروف الطارئة والخارجة عن المألوف. هذه السلطة تمثل تجسيدًا للسيادة، وهي ما يعطي النظام السياسي شرعيته.
3. بنية الكتاب
الكتاب مقسم إلى أربعة فصول رئيسية، تركز على العلاقة بين اللاهوت والسياسة، مفهوم السيادة، ودور القانون في الدولة الحديثة.
الفصل الأول: تعريف اللاهوت السياسي
يوضح شميت أن العديد من المفاهيم السياسية الحديثة مستمدة من اللاهوت المسيحي، لكن تم علمنتها بمرور الزمن.
يعرض كيف أن فكرة "الإله المتدخل" في اللاهوت تعادل "السيادة السياسية" في الفكر السياسي.
الفصل الثاني: السيادة وحالة الاستثناء
يشرح مفهوم "حالة الاستثناء" باعتبارها اللحظة التي يكشف فيها النظام السياسي عن حقيقته.
السلطة السيادية هي من تحدد متى يتم تطبيق القانون أو تعليقه.
الفصل الثالث: القانون والشرعية
يناقش العلاقة بين القانون والسيادة.
يميز بين الشرعية القانونية التي تتعلق بالقواعد والقوانين، والشرعية السياسية التي تعتمد على السلطة السيادية.
الفصل الرابع: النظام السياسي والدين
يدرس دور الرمزية الدينية في تشكيل السلطة السياسية.
يبين كيف أن الدين والسياسة يتقاطعان في فكرة الطاعة والخضوع.
4. المفاهيم الرئيسية
السيادة: القدرة على اتخاذ القرار في حالة الاستثناء، وهي ما يميز السلطة الحاكمة.
حالة الاستثناء: وضع استثنائي يتطلب تعليق القوانين العادية واتخاذ قرارات حاسمة.
اللاهوت السياسي: العلاقة بين الرمزية الدينية والسلطة السياسية، وكيف تشكل المفاهيم الدينية بنية الدولة.
التشابه بين الدين والسياسة: يوضح شميت أن السياسة والدين يشتركان في الحاجة إلى شرعية عليا تُستمد من "إيمان" الأفراد.
5. التأثير الفكري للكتاب
ألهم الكتاب العديد من المفكرين والفلاسفة مثل جورجيو أغامبين، حنّه أرندت، وجاك دريدا.
أثر في النقاشات حول العلاقة بين الدين والدولة، خاصة في الأنظمة السلطوية.
أسهم في تطوير نظريات السيادة التي تُستخدم في الفلسفة السياسية والقانونية حتى اليوم.
6. النقد الموجه للكتاب
- التوجه السلطوي: اتُهم شميت بتمجيد السلطة المطلقة، مما جعله يُنتقد كأحد المدافعين عن الأنظمة السلطوية.
- علاقة الدين بالدولة: رأى البعض أن شميت يميل إلى إحياء مفاهيم دينية تقليدية على حساب الفكر العلماني الحديث.
- التطبيق العملي: واجه الكتاب تحديات في تبيان كيفية تحقيق توازن بين حالة الاستثناء والحفاظ على الحريات.
7. أهمية الكتاب في السياق المعاصر
يناقش الكتاب قضايا لا تزال مهمة اليوم، مثل دور الدولة في الأزمات (مثل الأوبئة أو الإرهاب).
يُعد مرجعًا مهمًا لفهم كيفية تعامل الأنظمة السياسية مع القوانين أثناء حالات الطوارئ.
يلقي الضوء على العلاقة الجدلية بين القانون والسياسة، والدور الذي يلعبه الدين في شرعنة السلطة.
وفي المجمل، فإن "اللاهوت السياسي" هو عمل فلسفي بارز يحاول فهم جوهر السيادة والسلطة في سياق الأزمات. يقدم كارل شميت رؤية ثاقبة حول علاقة الدين بالسياسة، ودور السيادة في تأسيس النظام السياسي. رغم الانتقادات التي وُجهت للكتاب، فإنه يظل نصًا أساسيًا لأي باحث مهتم بالفلسفة السياسية أو النظريات السيادية.
في خضم الجدل الفكري الذي أثاره كتاب "اللاهوت السياسي" لكارل شميت، تظل أفكاره شاهدًا على عبقرية نادرة في مواجهة الأسئلة الوجودية المرتبطة بالسلطة والسيادة والدين. هذا العمل ليس مجرد تحليل أكاديمي للعلاقة بين اللاهوت والسياسة، بل هو صرخة في وجه الاضطراب الذي يكتنف الأنظمة السياسية، ودعوة لفهم أعمق لطبيعة السلطة وحدودها، خاصة في أوقات الأزمات التي تقلب موازين القانون والنظام.
يمثل الكتاب مرآة تكشف ازدواجية الحداثة السياسية التي تدعي الحياد عن الدين بينما تستند في جوهرها إلى مفاهيم لاهوتية معقدة، تم تهذيبها لتتناسب مع لغة العلمانية. يضعنا شميت أمام حقيقة مزعجة: أن الشرعية السياسية، مهما حاولت الابتعاد عن الميتافيزيقا، تظل بحاجة إلى "قداسة" تمنحها القوة والطاعة. ومن هنا، فإن فهم السيادة لا يقتصر على مجرد تحديد من يملك السلطة، بل يتجاوز ذلك إلى إدراك كيف تُبنى هذه السلطة وتُشرعن في لحظات تتعطل فيها القوانين وتبرز حالة الاستثناء.
إن إسهامات شميت لم تقتصر على إعادة التفكير في السيادة، بل أثارت أيضًا أسئلة عميقة حول حدود العلاقة بين الدولة والدين. في زمن تتسارع فيه الأزمات العالمية – من حروب ونزاعات إلى أوبئة وكوارث طبيعية – يصبح الحديث عن "حالة الاستثناء" أمرًا أكثر من مجرد نقاش أكاديمي؛ إنه محور النقاش حول كيفية بقاء الأنظمة السياسية واستمراريتها أمام التهديدات الوجودية.
لكن، وبينما يثير الكتاب إعجابنا بقدرته على التحليل الدقيق، فإنه يدفعنا أيضًا إلى مواجهة مخاطره. فإذا كانت السلطة السيادية قادرة على تعليق القوانين بحجة حماية النظام، فمتى تصبح حالة الاستثناء قاعدة؟ وهل يُمكن تجنب تحول السيادة إلى استبداد؟ هذه الأسئلة، التي تركها شميت دون إجابات واضحة، تفتح الباب لتأملات أوسع حول مستقبل الديمقراطية والعلاقة بين الحرية والنظام.
ختامًا، يظل "اللاهوت السياسي" عملًا خالدًا يجمع بين عبقرية الفكرة وجرأة الطرح. إنه دعوة للتفكير في حدود السلطة السياسية وجدلية القانون والسيادة، وعلاقة الدولة بالدين كجزء من نسيجها التكويني. وفي عالم اليوم، حيث تتشابك التحديات وتتصاعد التهديدات، تبقى أفكار شميت حاضرة، تلهمنا وتحذرنا، وتدعونا إلى إعادة النظر في ما يعنيه أن تكون لدينا سلطة وأن نعيش تحت سيادتها. إنه كتاب لا ينتمي للماضي فقط، بل يتحدث بلغة الحاضر، ويدعونا إلى رؤية المستقبل بعين ناقدة وفكر متأمل.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟