السيد نجم
الحوار المتمدن-العدد: 6062 - 2018 / 11 / 23 - 18:59
المحور:
الادب والفن
-1-
منذ سنوات طويلة والدكتور علام يطلب من أستاذه أن يقضيا نزهة طويلة على شاطئ البحر الأحمر فى مدينة الغردقة. فيوافق العالم الكبير وفى اللحظة الأخيرة يجد جديدا يمنعهما من الرحلة المنتظرة!
مرة تأجلت الرحلة بسبب عطل فى جهاز من أجهزة البحث.. ومرة بسبب ضرورة متابعة دراجات الحرارة والرطوبة للجهاز الخاص بزراعة ورعاية أنواع معينة من البكتيريا..ومرة بسبب اكتشاف ظاهرة علمية جديدة لم تكن متوقعة...وهكذا حتى توالت السنوات.
هذه المرة خطت د.علام لكل تفاصيل الرحلة وهو على يقين بالقيام بها فى اليوم التالي من المؤتمر الصحفي , حيث انتهت الأبحاث المعملية, وسجلت النتائج , ولا يبقى سوى إعلان ما انتهيا اليه فى مؤتمر صحفي عالمي.
نجح د.مختار عالم الهندسة الوراثية مع تلميذه د.علام فى إنتاج سلالات جديدة من البكتيريا يمكنها زيادة إنتاج "البروتين" الذي هو أهم ما تبحث عنه البلدان الفقيرة والغنية.
-2-
بعد تلك السنوات الطويلة فى العمل والبحث, جاء وقت التأمل. جلس د.مختار على المقعد المقابل لنافذة المعمل الكبير, وهو يحتسى الشاي ..رشفة , رشفة , ببطء وسكينة. كان يتأمل الأشجار المرتفعة البعيدة هناك, ولون الحديقة الأخضر الجميل. وكأنه لم يره من قبل, فضل أن يبقى هكذا أكثر من نصف ساعة , حتى بعد أن انتهى من شرب الشاي. وهو ما لم يعتده منه تلميذه..فقال له:
"وكأنك ترى الحديقة تلك للمرة الأولى يا أستاذي؟"
فانتبه د.مختار, أومأ برأسه , ثم طلب منه أن يجلس أمامه, وهو ما أقلق تلميذه مجددا:
" أراك تجهز لفكرة جديدة..ليس قبل أن نسافر رحلتنا المؤجلة..أرجوك"
ابتسم العالم, ثم عاد الى نظرته العميقة الى هناك فى شرود, وهو ما أقلق د.علام أكثر. فضل التلميذ أن يفتح جهاز التسجيل معه, كما اعتاد مع أستاذه, ربما هناك فكرة جديدة سيناقشه العالم ومازالت تحت البحث. فابتسم العالم وطلب من تلميذه أن ينتبه اليه بأذنيه أفضل.
أخيرا نطق قائلا:
"الحقيقة يا ولدى المخلص أنا قلق...
تراودني أفكار غريبة..لكنها محتملة الحدوث فعلا..!!"
لم يستطع د.علام صبرا, قاطعه يرجوه أن يخبره بسرعة عما يشغله. فتابع د.مختار:
"ماذا يحدث وتمكنت عصابة الأشرار من سرقة سلالات البكتيريا التى نجحنا
فى إنتاجها , واستخدمتها بطريقة خاطئة.. سوف تضر الناس أكبر الضرر!"
علق د.علام قائلا:
" معك كل الحق..فقد أنتجنا سلالات جديدة من البكتيريا, لو أضيفت على عليقه
الحيوان ..زاد وزنه, فذا أضيفت على التربة الزراعية..جعلت النباتات أكثر
غنا بالبروتين ..."
قاطعه د. مختار قائلا:
" وإذا أسئ استخدامها عمدا يمكن أن تتحول البكتيريا الى كائنات شرسة, يعلم
الله وحده ماذا ستفعل فى الحيوان والنبات وحتى الإنسان..وهنا المشكلة"
تابع د.علام:
"وهنا المشكلة التى تشغلك..أليس كذلك؟"
هز العالم رأسه موافقا.. ومع ذلك نجح التلميذ فى إقناع أستاذه العالم بضرورة إتمام المؤتمر الصحفي العالمي فى الغد, وتابع ضاحكا:
"ننتهي من خطوة المؤتمر, وننفذ النزهة التى نرجوها من سنيين!!"
وضحكا معا.
-3-
......"أعطيك جينا جديدا, تنتج بروتينا كثيرا"
بتلك الكلمات بدأ د.مختار حديثه فى المؤتمر الصحفي, وأعلن عن إنجازه العلمي العالمي الهام, وسط حفاوة وتقدير الجميع.
فقد امتلأت قاعة المؤتمر بالصحفيين, وبكاميرا التصوير العادية والتليفزيونية, والسينمائية أيضا. كما كان من بين الحضور مندوبين من كل المنظمات العلمية العالمية, وقد عرض العالم الأفلام السينمائية لكل خطوات بحثه ونتائجه.
وفى إيجاز شرح لهم جميعا ملخصا لفكرة أبحاثه قائلا:
" نعم..نعم.. لقد نجحنا فى بناء "جين" جديد ,اسمه "م.ر.ن." داخل البكتيريا
واستخدمنا فى ذلك أنزيمات القطع والوصل التى أمكننا تحضيرها فى المعمل,
فى الأصل توجد داخل البكتيريا والخلايا .."
وبدأ الصحفيون فى أسئلتهم المتتابعة لكل التفاصيل:
.."ما فائدة هذا الإنجاز عمليا؟"
.."متى سيتم تطبيقه عمليا فى الإنتاج؟"
وقبل أن تكثر الأسئلة, تابع د.علام إجاباته موضحا أن هذا الكشف العلمي سوف يحل مشكلة الفقر فى العالم, ولن تكون هناك مجاعة بسبب قلة البروتين الحيواني أو النباتي ..ثم ابتسم وتابع:
"يكفى أن أخبركم أن الأرنب سوف يصل الى حجم الخروف, والخروف سوف
يصل الى حجم البقرة..وهكذا, كما رأيتم فى الفيلم السينمائي الذي عرض منذ
قليل."
صفق الجميع, وهلل العلماء وقد تنازلوا عن وقار وهيبة العلماء تقديرا للكشف الجديد. لولا أن وقف صحفي شاب وطلب الكلمة, لكان هذا اللقاء من أسعد أيام حياة د.مختار.
فقد ألح الصحفي الشاب فى طلب الكلمة وعرض سؤاله الذي لا يحتمل التأجيل. وما أن وافقه العالم, تحدث الصحفي بما دار برأس العالم منذ يوم سابق..!
سأل الصحفي قائلا:
"سيدي العالم د.علام..هل تتذكر المؤتمر العلمي العالمي عام 1975, وقد حضرته
أنت نفسك, مع مائة وأربعة وثلاثين عالما؟"
وافقه د.علام, وأشار بيده لأن يتابع , فقال الصحفي:
"كانت من توصيات المؤتمر..ضرورة توفير كل إجراءات الأمن والتأمين مع
الحراسة المشددة على مراكز البحوث, وبالخصوص أبحاث الهندسة الوراثية"
فهم العالم مغزى السؤال , فنظر الى تلميذه, كأنه يذكره بما دار بينهما بالأمس..!
-4-
قضى د.علام ليلته يفكر, وقد سرقته كلمات الصحفي الذي ختم بها المؤتمر الصحفي, سرقته من فرحته, خصوصا أن تلك الفكرة راودته من قبل. حتى دخلت عليه زوجته قلقا عليه , وطلبت منه أن يستريح تلك الليلة وربما من الأفضل أن يتابع عمله فى الصباح, ثم تابعت وهى تبتسم فى مودة:
"والصباح رباح يا زوجي العزيز.. أما أنا فقد تنازلت عن الرحلة المؤجلة
منذ سنوات!"
احترم العالم رغبة زوجته, ونهض من حجرة مكتبه وهو يتمنى أن ينام نوما هادئا.
إلا أنه استيقظ مبكرا على صوت جرس التليفون, فى السادسة صباحا . ما أن رفع سماعة التليفون حتى جاء صوت المتحدث قلقا ومضطربا:
"أنت نائم يا أستاذنا.. كمية كبيرة من السلالات الجديدة سرقت"
فلم يسمع العالم تفاصيل أكثر. القى بالسماعة, وأسرع الى ملابسه وذهب الى المعمل. وكان فى استقباله تلميذه د.علام الذي عاجله قائلا:
" حدث ما كنت تخشاه يا أستاذي"
وصلت قوة الشرطة, وبدأت التحقيقات فورا, مع معاينة مكان السرقة. لم يكن يردد سوى بضع جمل يكررها بآلية وغيظ:
"لو سرقت كل أموالي ما كنت أحزن هذا الحزن...
لو استخدمت تلك السلالات بالخطأ سوف تحدث كارثة محققة...
افعل أي شئ يا حضرة الضابط أرجوك..."
وانتهت كل إجراءات الشرطة, والتحقيقات مع كل العاملين بالمعمل, ولم تنته الشرطة الى توجيه التهمة الى أحد. كان آخر من تم التحقيق معهم هو د.علام نفسه.
سأله الضابط:
"فى النهاية..هل تشك فى أحد بالذات يكون السارق؟"
رد العالم بملل وضيق صدر:
"لا ..."
فتابع الضابط:
"إذن يقفل التحقيق"
وقبل أن ينتهى الضابط من إجراءات حقيقة, انتبه د.علام , صاح بصوت مرتفع: "الصحفي الشاب..نعم, أريد التحقيق مع الصحفي الشاب". وعندما سأله الضابط عن سبب فتح التحقيق لسؤال الصحفي الشاب, قال العالم :
"لقد رأيت فى عينيه أنه يعلم أمرا ما, وربما كان يحذرني بسؤاله هذا"
لوى الضابط شفتيه, وسأله:
"فقط نظرة عينيه..!!
لا تكفى نظرة العين للتحقيق مع إنسان, وهو صحفي ومن حقه أن يسأل وأن
يشارك بأى رأى, وإلا لماذا هو صحفي؟؟!"
فشعر العالم بخيبة أمل , وصمت .
-5-
انقضت الساعات والأيام ود.علام لا يفكر إلا فى خطورة جريمة سرعة نتائج أبحاثه, وعلاقة الصحفي بها. وكلما حاول الاتصال به فى الصحيفة التى يعمل بها, تهرب الصحفي منه, وهو ما جعله على يقين بوجود علاقة ما بين السرقة وهذا الرجل؟
وبعد ثلاثة شهور بالضبط , اقترب تلميذه منه, لعله ينجح فى إزاحة هذا الهم , وابعاد تلك المشكلة عن رأس أستاذه. وقال له:
"لقد مضت ثلاثة شهور, ولم نسمع أو نرى أو نقرأ أى جديد حول موضوع
السرقة..أقترح عليك الآن أن تترك الموضوع نهائيا..وننتظر"
صمت العالم , لم يكن يعنى الموافقة, كان يعنى مزيد من التفكير فى محاولة للبحث من جديد. إلا أنه ابتسم للمرة الأولى عندما طلب منه تلميذه, أن يلغيا قرار النزهة المؤجلة, وتابع:
"ربما تكون تلك الرحلة المنتظرة هي السبب !!"
ثم نجح د.علام فى إزاحة اهتمام العالم الى موضوع أهم, أنه لاحظ بشائر التجارب التطبيقية التى نفذت فى إحدى المزارع الكبيرة على حدود المدينة. فانتبه وسأله:
"ما الجديد , كيف الحال المزروعات والحيوانات؟"
بثقة وسعادة قال د.علام:
"إن ذهبت الآن الى هناك فلن تتعرف على الحيوانات التى زاد معدل نموها,
وفاقت كل توقع.. ما رأيك نذهب معا الآن ونرى؟"
لم يتوقع التلميذ موافقة أستاذه السريعة تلك. وخلال دقائق كانا معا فى السيارة, الى المزرعة .
ولم تكن المفاجأة فى تلك المشاهدات التى أكدت النجاح الكامل للسلالات الجديدة, وقد خلطها مع عريقة الحيوانات وفى التربة الزراعية.
كانت المفاجأة, وهما فى طريق عودتهم, وفور أن اجتازت السيارة بوابة المزرعة, لمحا الصحفي الشاب !!
كانت الظلمة بدأت تزحف على المكان فى تلك الساعة من بداية الليل الشتوى من شهر يناير.فما أن لمحهما الصحفى حاول الفرار بسيارته الصغيرة, ظنا منه أنهما لم يلمحانه. لكن د.علام يجيد قيادة السيارات, بل ومن هواياته إصلاح سيارته بنفسه, واندفع بها حتى حاصر الشاب بسيارته الصغيرة.
ما أن وقف الصحفي أمام العالم , حتى فاجأه قائلا:
"أرجوك أن تعذرني, لا تفهمني بالخطأ"
نالت الدهشة من العالم:
"ماذا تعنى؟ هل أنت على صلة بالأشرار اللصوص؟..إذن أخبرني بكل
التفاصيل التى عندك..والآن"
فما من الصحفي إلا أن طلب من العالم وتلميذه أو يتبعانه, ثم أخبرهما أن الأشرار داخل تلك المزرعة هاهنا, أمام تلك التى يطبق فيها العالم نتائج أبحاثه!!
-6-
ضوء القمر الهين لم يكشف لهم الطرقات الوعرة التى ساروا عليها, يتقدمهم الصحفي الشاب, وقد طلب منهما أن يتحركان بخفة وبحرص.
كاد د.مختار أن يسقط أكثر من مرة فى الحفر الترابية التى لا يراها و تعثر فيها. أخيرا وصلا بوابة خلفية للمزرعة.لم يستطع العالم أن يصمت, سأله:
"ماذا يحدث؟ أرى البوابة تفتح!! هل يعلمون بحضورنا؟!"
رد الصحفي هامسا:
"أنت الآن فى طريقك الى داخل مزرعة الأشرار...
لي صديقا داخلها هو الذي أبلغني بكل التفاصيل, وهو الذي يتسلل كي يفتح
تلك البوابة , ربما أحصل على تحقيق صحفي خطير وهام..."
ما أن اقترب العالم من المزروعات ومن الحيوانات داخل الحظائر حتى صرخ:
"مصيبة..مصيبة حقيقية..هل ترى ما أراه يا علام؟؟!"
وأكد علام أن معدلات النمو تلك لو استمرت لأيام قليلة, سوف تصبح الحيوانات مفترسة, والنباتات سامة ولا تصلح للحيوان أو الإنسان..تابع:
"والآن ماذا ترى يا أستاذ..ماذا سنفعل؟"
كل ما طلبه العالم, أن يخرجا فورا بعيدا عن تلك المزرعة.
-7-
لم أحدهم الى منزله, توجهوا جميعا الى المعمل. وما أن وصلوا حتى قرر العالم قررا علميا:"يجب أن نبدأ فورا فى إنتاج الأجسام المضادة لتلك البكتيريا المعدلة التى صنعناها فى المعمل".
فضحك د.علام وقال:"وضاعت النزهة المنتظرة لمدة لا يعلمها إلا الله" ..وابتسم العالم. بينما لم يكتفى الصحفي بالصمت , وشرح لهم كل التفاصيل التى يعرفها. دهش العالم من كل تلك التفاصيل الخطيرة حول هذه الجريمة, فسأله:
"لماذا لم تخبر الشرطة؟"
أجاب بأنه كان يعلم أن الأشرار أخفوا السلالات فى مكان لن يعرفه أحد, ففضل أن يصمت حتى يبدأون فى محاولة الاستفادة من جريمتهم, وهنا يكون الدليل المادي القوى.
أبدا كل من العالم وتلميذه عدم اقتناعهما برأي الصحفي, وان بررا سلوكه هذا بأنه سلوك مغامرة صحفية أكثر منه سلوك صحفي شريف, وهو ما أغضب الشاب, فخرج مهرولا الى خارج المعمل.
لم يدم انقطاع الصحفي طويلا, دخل عليهما ذات صباح وهو يلهث:
"مصيبة ..مصيبة يا دكتور مختار."
سأله عما يحمل من أخبار, فأخبره بأن داء الافتراس ألم بكل حيوانات المزرعة, وبدأت تتقاتل معا, بل ومع المربين. أما النباتات والثمار التى تعملقت هي الأخرى امتصت كل مياه الآبار التى حفرها الأشرار من قبل للزراعة..وجفت الآبار!!
شرد العالم من النافذة الجانبية للمعمل الكبير, ثم جلس على المقعد المجاور, وأخذ يفكر طويلا, ثم قال :
" هذه هي نهاية سوء استخدام السلالات, وقد استخدمها الأشرار عن طمع
وجهل...."
ولما تابع الصحفي وأخبره أن الأشرار يعانون من أمراض غريبة , لم يتعرف عليها الأطباء بعد !.. علق د.مختار وهو يحتسى كوب الشاي :
" وهذه أيضا النتيجة الطبيعية لسرقتهم أبحاثي.. كل ما يهمني الآن أن نتابع
من أجل إنتاج الأجسام المضادة"
وتابع التلميذ مبتسما:
"ولتذهب النزهة المؤجلة الى غير رجعة"
وضحكوا معا طويلا.
#السيد_نجم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟