|
محمد عبد الوهاب طاووس الشرق
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 5461 - 2017 / 3 / 15 - 22:38
المحور:
الادب والفن
بالأمس، 13 مارس، كان عيد ميلاد الموسيقار العظيم محمد عبد الوهاب، فخر مصرَ وفخر العربِ وأحدِ أكبر أساطين الموسيقى في هذ الكوكب. ومنذ سنوات طوال، كتبَ أحدُهم هذه الكلمات: "محمد عبد الوهاب فنانٌ عبقريّ، لو أنَّ اللهَ خلقَه في أيِّ عصر، أو أيّ مكانٍ، لكان مخلوقًا فذًّا. يؤمنُ تمامًا بأن مكانَه الطبيعيّ بين صفوف العظماء والزعماء. درس الرأيَ العام دراسة عملية صحيحة فعرف رغباته وميوله، وساعدته هذه الدراسة على أن يقدم رسالته في التجديد الموسيقي في برشامة هضمها الشعبُ بسهولة، واستطاع أن يتزعم الجيل الجديد. استطاعَ بفضل فنّه أنْ يكتبَ اسمَه بحروفٍ كبيرة في التاريخ الفنيّ." تُرى مَن كاتب ذلك الرأي الموضوعيّ الصحيح تمامًا عن عبد الوهاب؟ مَن صاحب تلك الشهادة التاريخية المُنصفة التي لم تتجاوز الحقيقةَ مليمترًا ولم تشُبها شُبهةُ مزايدة أو مبالغة؟ الواقع أن صاحب تلك الكلمات هو آخر شخص في العالم يُمكن أن يتوقعه القارئ! إنه عبد الوهاب نفسُه، كتبها بنفسِه واصفًا نفسَه! هل ترون الأمرَ مُدهشًا؟! ربما، لكنني لا أراه كذلك، وسأذكر تعليلي وسرَّ عدم دهشتي في مدح الرجل نفسَه، في نهاية المقال. دعوني أولا أذكر لكم مناسبة تلك الشهادة التي كتبها الموسيقار عن نفسه. في عام 1950، طلبتْ مجلة "الكواكب" من الموسيقار الكبير أن يكتب شهادةً عن نفسه فكتبَ ما سبق. وحين اضطلعت الدكتورة رتيبة الحفني، أستاذة الموسيقى وعميد معهد الموسيقى العربية آنذاك، بتأليف كتاب عن حياة الموسيقار محمد عبد الوهاب، عنوانه: "عبد الوهاب، حياتُه وفنُّه"، طلب إليها الأستاذُ أن تضع شهادته تلك تصديرًا لذلك الكتاب، وهو ما كان. والحقُّ أنني قد أشارك القارئ دهشتَه من شهادة الأستاذ عن نفسه! لكن اندهاشي ليس من نرجسيته، فكلُّ مبدعٍ يحملُ قدرًا من النرجسية، هي التي تجعلُه يُبدع. إنما اندهاشي من إعلانها. فالمبدع، كلُّ مبدع، عادة ما "يتقنّع" بشيء من التواضع، لأنه طوال الوقت يستمع إلى كلماتِ التقدير والإطراء من ألسن الآخرين. فيكون الحقُّ ما شهدَ به الآخرون. لكنني أقدّم تبريري الخاص لطاووسية الموسيقار عبد الوهاب بالرجوع إلى معاجم اللغة العربية، كعادتي في الشغف بردّ الأشياء إلى مسمياتها الأولى لُغويًّا. ميّزتِ اللغةُ العربيةُ بين ألوان من "الإعجاب بالنفس" تمايزًا دقيقًا. فلدينا: النرجسيةُ، الغرورُ، التعالي، الاعتدادُ بالنفس، حبُّ الذات، الثقةُ بالنفس، الأنا المتضخمةُ، الأثرة، التكبّر، نفي الآخر، وغيرها من ألوان "رؤية الذات" في مقابل "إقصاء الآخر”. على أن ما نتحدث عنه في هذا المقال، لا ينتمي إلى تلك القائمة الشائكة التي يخرج معظمها من أرواح مصدوعة ونفوس مريضة. إنما هي "طاووسيةُ الفنّان". شيءٌ طفوليٌّ نبيل. شيءٌ ما داخل كلّ فنان حقيقي يجعله يرى نفسَه مختلفًا وجميلًا. وهي ضرورةٌ لكل مبدع، حتى يكون بوسعه أن يقوم بمهمته النبيلة فوق الأرض: “صناعة الجمال”. فلو أن الفنان قَبِلَ أن يرى نفسَه "عاديًّا"، لقَبِل، بالتالي، أن يُنتجَ شيئًا "عاديًّا”. وهذا، بظني، أحدُ أسبابِ انهيار الجمال في مصر الآن. لأن معظم فنانينا الحاليين يرون أنفسَهم عاديين، لأنهم بالفعل عاديون، فأنتجوا لنا "العاديَّ المعتاد"، فهبط الفنُّ. وحين هبط الفنُّ، هبطت معه الذائقةُ. لأن مستوى الفن المقدّم، ومستوى الذائقة المستقبِلة للفنون، صِنوان لا ينفصمان. فأصبحنا اليوم نقبلُ "العاديَّ" باعتباره "فنًّا” لأننا لا نجد البديل. وإن وُجد البديلُ الرفيع، لا يتمّ التخديم الإعلامي عليه لينتشر، لأن الذائقة العامة لم تعد تستسيغه، فيموتُ الرفيعُ ويعلو الهابط! الفنانُ الحقيقيّ يرى نفسَه جميلا ومختلفًا، فيعيش حالا دائمة من الرعب على هذا الجمال وعلى ذلك الاختلاف عن الآخرين؛ فيخشى زوال مكانته الفريدة خشيتَه الموتَ، فيأبى إلا أن يُقدّمَ المدهشَ والمختلف والجميل. ونحن نقبلُ ذلك "الاعتدادَ بالنفس" من المبدع، رهانًا منّا على أنها إحدى أدوات إبداعِه، ومن ثم سببُ مُتعتنا. والإنسان يدفعُ فاتورة متعته، بنفس راضية. لذلك أحببنا نرجسيةَ المُغادِر الجميل محمود درويش حينما كان يختالُ ويتدلّلُ ويفرّ من الصحافة والمعجبين، وفتنتنا طاووسيةُ أحمد عبد المعطي حجازي وهو يلقي قصائدَه مثل مايسترو؛ عصاهُ هي يدُه؛ تُطوّعُ الحرفَ نَبْرًا وقَطْعًا وحركةً وسُكونًا وإدغامًا وإشباعًا، فيخرجُ الحرفُ مشحونًا بالغناء. تماما مثلما ابتسمنا بمحبة لقول المتنبي، عن نفسه، لسيف الدولة: "سيعلمُ الجمعُ مِمَن ضمَّ مجلِسُنا/ بأنني خيرُ مَنْ تسعى به قدمُ/ أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبيْ/ وأسمعتْ كلماتيْ من به صَمَمُ/. كَمْ تطلبونَ لنا عيبًا فيُعجِزُكم/ ويكرهُ اللهُ ما تأتون والكرمُ/ ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ عن شرفي/ أنا الثريا وذان الشيبُ والهِرَمُ." لذلك نقبلُ ونثمّنُ ما قاله عبد الوهاب عن نفسه، مادام ملأ حياتَنا جمالا ورُقيًّا وبهجاتٍ ومتعًا، وطالما يظلُّ لنا أبدًا مُلهمًا لا يخبو ظِلُّه. فأنا، وكثيرون غيري، لا أقدر أن أكتب مقالي اليومي، إلا بعدما أستمع إلى عبد الوهاب. كل سنة وأنت طيب أيها الطاووس المايسترو. عِشْ في قلوبنا ألف عام، فالموتُ لا يقرب الخالدين.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحية احترام للبابا تواضروس
-
عزيزي ربنا …. ممكن أعرف عنوانك؟
-
أطرقُ باب بيتٍ لا يعرفُ الحَزَن
-
المعاصي سرُّ الغلاء .... يقول الإمام
-
إنهم يصنعون المستقبل في الإمارات
-
المرأةُ العفريت … المرأةُ الصقر
-
المعاصي سرُّ الغلاء
-
لستُ متسامحة دينيًّا
-
رسالة إلى شيخ الأزهر من مصري مسيحي (5)
-
الأقباط ليسوا بحاجة إلى بيوتنا بل إلى بلادهم
-
فيس بوك من دون زجاج
-
امنعوا بناتكم من التعلّم!
-
رسالة إلى شيخ الأزهر من مصري مسيحي (6/6)
-
إنهم يصنعون المستقبل
-
تكفير داعش مسألة أمن قومي
-
رسالة إلى شيخ الأزهر من مصري مسيحي (4)
-
طارق شوقي … نراهن عليك في رحلة -النكوص-
-
ابسطوا قلوبكم مرمى للسهام
-
احنا فقرا قوي!
-
كاميرا خفية لضبط المعلّم الطائفي
المزيد.....
-
“بيان إلى سكان هذه الصحراء”جديد الكاتب الموريتاني المختار ال
...
-
فيديو جديد من داخل منزل الممثل جين هاكمان بعد العثور على جثت
...
-
نقابة الفنانين السورية تشطب قيد الفنانة سلاف فواخرجي
-
قلعة القشلة.. معلم أثري يمني أصابته الغارات الأميركية
-
سرقة -سينمائية- في لوس أنجلوس.. لصوص يحفرون نفقا ويستولون عل
...
-
الممثلة الأميركية سينثيا نيكسون ترتدي العلم الفلسطيني في إعل
...
-
-المعرض الدولي للنشر والكتاب- بالرباط ينطلق الخميس بمشاركة ع
...
-
اللغة العربية في طريقها الى مدارس نيشوبينغ كلغة حديثة
-
بين الرواية الرسمية وإنكار الإخوان.. مغردون: ماذا يحدث بالأر
...
-
المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف: الصهيونية كانت خطأ منذ البداية
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|