أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صفوت فوزى - الغريب














المزيد.....

الغريب


صفوت فوزى

الحوار المتمدن-العدد: 5436 - 2017 / 2 / 18 - 00:55
المحور: الادب والفن
    


من رأس الحارة يهل، بقامته الفارعة ورأسه الحليق، غامضًا كأنه يأتي من لا مكان. قدماه المفلطحتان تدبَّان على الأرض، باطن القدمين غليظٌ ناشفٌ ومتشقِّقٌ.
في البداية حسبناه واحدًا من المجاذيب الذين يعبرون قريتنا، يخبون في أسمالهم صامتين، أو يهذون بكلمات لا تبين. لكنه كان يختلف عنهم؛ يرتدي ثوبًا سمائي اللون، يحمل مِخلاته المُبقَّعة على ظهره العريض– كنت أموت رعبًا منها؛ إذ أظنُّ أنه يخبِّئ داخلها العيال الذين يخطفهم كما كانت أمي تخوِّفني، يجرُّ في يده عنزة ضامرة. بنيانه الضخم وكتفاه العريضتان كان يكسر هيبتهما ابتسامة عريضة ترتسم على خديه البارزين فيبدو كطفل مسالم. ننفلت من أسر الغرف الخانقة إلى براح الحارة. نغادر وشيش بواجير الجاز، روائح الطعام، وثرثرة النساء. يتوقف لا عبو "البلي" و"النحلة" عن اللعب. ينادي بعضنا بعضًا متوثبين فرحين. "علي"، مجروح الركبة دائمًا من أثر الوقوع أثناء لعب الكرة، يتقدمنا. لا يملك نقودًا، لكنه يقاسمنا ما نحصل عليه. البنت "سعدية" حافية القدمين بوجهها المعفر وضفيرتي شعرها بالشرائط الباهتة اللون، تنسحب من لعب "الأولى" وتنضم إلينا.
يضع مخلاته جانبا. يربط عنزته في حديد النافذة، يفترش الأرض الترابية مسندًا ظهره للحائط الخشن.
نتحلق حوله– نحن أطفال الحارة والحارات المجاورة– نمد له أيدينا بنقودنا القليلة. يزيحها جانبًا بإباءٍ وحنوٍّ، وعلى وجهه الطيب ترتسم ابتسامة غامضة. يمد لنا طبقًا معدنيًّا صغيرًا، مشيرًا لنا بأن يبصق كلٌّ منا في قعره. تتقلص ملامح الوجه، تعتصره هبة من شجن ، ينضح العرق من مسامه ويتسرب ببطء على صفحة وجهه المجهد. صمت عميق وترقب حذر يخيِّم علينا، ونحن نتابع بشغف ودهشة مكتومة تحولات الرجل. دمعتان توارتا فى بحر عينيه . يزدرد ريقه فتبرز تفاحة آدم المعلقة في رقبته. ينحني قليلا للأمام قبل أن يمد لسانه لاعقا قعر الطبق، وإذ يفعل، ترتخي عضلات وجهه المتوتر، وترتسم ملامح الرضا على الوجه المكتنز. غبار من صهد الظهيرة يتناثر في المكان. يستند بظهره على الحائط الخشن رافعًا عينين مسدلتين ممتنَّتين نحو السماء. ينزلق منهما الدمع فيمسحهما بكُمِّ جلبابه. يفتح عينيه مقدمًا لنا مربعات "البخت" بمبية اللون يلتصق بقعر كل منها نقطة من العسل الأسود. نبحث بداخلها عن "المليم" المُخبَّأ لسعيد الحظ الذي يجده. يتهلل فرحًا قابضًا على "المليم" الكنز.
يمضي النهارُ وينفرط عقدنا من حول الرجل عائدين إلى أحضان الأمهات والبيوت. يفك حبل العنزة، يحمل خرجه على ظهره، وبخطى متثاقلة يمضي، غامضًا كما جاء لا ندري إلى أين.
نحكي لأمهاتنا عن الرجل الغريب الذي لا يأخذ نقودًا ويكتفي بالبصقة.
ننتظر حضوره كثيرًا لكنه لا يأتي. نطيل النظر والتحديق في رأس الحارة عله يطل علينا من جديد لكنه لا يظهر. يتوارى الرجل حتى يكاد يُنسَى. لكنه يظل حيًّا على ألسنة الساهرين في جوف الليل، والقاعدات على أعتاب البيوت، والقابعين في قيعان الدور.
يتحول إلى سيرةٍ وحكاية تلوكها الألسن وتتناقلها الشفاه. فمن قائل إنه كان يوفي نذرًا قطعه على نفسه، وحين أعطاه الله سؤل قلبه اختفى. ومن يقول إن لعنةً حلَّت به لأنه تجرأ على المحرمات، ويستشهدون في ذلك بالقرد الذي كان إنسانًا ومسخه الله لأنه استحم باللبن الحليب ومسح مؤخرته برغيف ساخن. آخرون قالوا إنه جن وصار يضرب في الطرقات البعيدة على غير هدى.
يقولون ويقولون، يختلفون ويتفقون، تخفت أصواتهم حينًا وتعلو أحيانًا، ويظل هو واقفًا هناك على عتبات طفولتنا التي كانت.
-----------------------



#صفوت_فوزى (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عزف منفرد
- أول الفقد أول الوجع
- همس الحيطان
- فى حضرة الغياب
- امرأة
- عبور الممر الضيق
- رجع الصدى
- لو تصُدقى
- الصوت والصدى
- ليلة شتا
- الغنا
- يامه جوزينى
- الخروج
- الكلمة
- بعاد
- إختيار
- هاتف
- الموت جبان
- الاعتقاد فى الخرافة
- التهمة .. أنثى


المزيد.....




- -لإنكار الجرائم الأسدية-.. نقابة الفنانين تشطب سلاف فواخرجي ...
- شطب قيد سلاف فواخرجي من نقابة الفنانين في سوريا لـ-إصرارها ع ...
- بمناسبة مرور 50 عامًا على رحيلها.. بدء التحضيرات لمسرحية موس ...
- “بيان إلى سكان هذه الصحراء”جديد الكاتب الموريتاني المختار ال ...
- فيديو جديد من داخل منزل الممثل جين هاكمان بعد العثور على جثت ...
- نقابة الفنانين السورية تشطب قيد الفنانة سلاف فواخرجي
- قلعة القشلة.. معلم أثري يمني أصابته الغارات الأميركية
- سرقة -سينمائية- في لوس أنجلوس.. لصوص يحفرون نفقا ويستولون عل ...
- الممثلة الأميركية سينثيا نيكسون ترتدي العلم الفلسطيني في إعل ...
- -المعرض الدولي للنشر والكتاب- بالرباط ينطلق الخميس بمشاركة ع ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صفوت فوزى - الغريب