أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامى لبيب - من فلسفة الجمال ندرك ماهية الحياة والوجود والإنسان .















المزيد.....



من فلسفة الجمال ندرك ماهية الحياة والوجود والإنسان .


سامى لبيب

الحوار المتمدن-العدد: 4545 - 2014 / 8 / 16 - 16:16
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


- نحو فهم للوجود والحياة والإنسان (17) .

مقدمة : من جماليات الطبيعة آمنت وألحدت .
إذا كان لى سرد تأملاتى و مشاكساتى مع فكرة الإيمان فقد بدأت من مراحل الطفولة بتسلل فكر لادينى ربوبى جنينى عفوى سبق الإلحاد وبصورة غير ممنهجة بالطبع جاءت من توقفات وتأملات تطرح إشكاليات وأسئلة عن عدل الله وحكمته فى الشر والألم والمرض والتشوه ومغزى معاقبة بشر شاءت حظوظهم البائسة من الجغرافيا والتاريخ الإنتساب لإيمان ليس النسخة المعتمدة لديه لتمتد تلك التأملات والمشاكسات إلى ما يعترى النصوص المقدسة من سذاجة وقصص بلا معنى غارقة حتى أذنيها فى العنف والوحشية لتصل لحد الهمجية فى التعامل مع الآخر المخالف بدون مبرر .
تبقى فكرة الله تتأرجح مع التأملات والأفكار الشاكة ولكن كان هناك شئ يجعلنى أؤمن بالرب لا ينساق وراء حجة خالق الوجود كفكرة مُسببة مطروحة تستأثر بميديا هائلة لا يتحمل عقل صغير أن يشاكسها حينها لتكون فكرة الله كصانع الجمال هى الفكرة التى جعلتنى أحب الله وأؤمن بوجوده وأقدر فعله فى إطار فهم ألوهى توصل له عقلى الصغير فالله صنع كل شئ جميل كونه فنان يعشق الجمال ولا يبحث ولا يعتنى أن نعبده كونه رسم لوحاته بإتقان ليستمتع و نستمتع نحن بها .

تفتنى منذ نعومة الأظافر وحتى اللحظة جماليات الطبيعة لأنبهر بهكذا لوحات رائعة الجمال جعلتنى أتأمل الزهور التى نزرعها فى حديقة المنزل لأدقق فى ألوانها الجميلة بل يدفعنى عشق الجمال إلى التردد على محل لبيع العصافير وأسماك الزينة الملونة لأحدق فيهم ملياً متأملاً جماليات الألوان على ظهورها مما لفت انتباه صاحب المحل ليرحب بحضورى ويسمح لى بإطعام العصافير فأمتن لكرمه .
لم تنقطع رحلتى فى الإستمتاع بجماليات الطبيعة من أيامى الأولى وحتى الآن لأحاول إقتناء كم هائل من صور للطبيعة الرائعة من أسماك وفراشات وطيور ووديان وشلالات وغيوم لتحظى البحار وأمواجها على نصيب وافر .

عندما نرى شئ جميل نردد " الله " إستحساناً على المشهد والصورة .. فماهو الجمال ولماذا نقول " الله " عند كل مشهد جميل لزهرة أو فراشة أو طبيعة خلابة فترديدنا لكلمة " الله " لا تزيد عن كونها عادة بدليل أن هناك شعوب لا تذكر كلمة الله عند إستحسانها للجمال ,ولكن أبى يقول لى : نحن نقول " الله" عند رؤيتنا للأشياء الرائعة لنمجد إسم الرب فهو خالق هذا الجمال ومبدعه لتجد هذه المقولة صداها فى نفسى فيزداد إعجابى بالله كفنان رائع وتزداد دهشتى فى كيفية صنعه لكل هذه الأشكال الجميلة بالطبيعة ولكن هناك أسئلة وتأملات تطفو على السطح , فليس كل شئ فى الطبيعة جميل فهل أنجز الله هذا ببراعة ولم يفلح فى ذاك ولماذا ما أراه رائعاً قد لا يراه الآخرين كذلك.

من جمال الطبيعة آمنت فى البدء بوجود إله فنان ذو لمسات رائعة فهذا الجمال وتلك الألوان الرائعة تستحق الإشادة بمن صنعها وتقدير فعله لأقتل بها أسئلتى الشاكة عن الله بل أطور فكرة الإله لتصل بفكر ذاتى عفوى إلى مفهوم الألوهيين والربوبيين بوجود إله صنع الجمال والحياة كفنان يستمتع بأعماله الفنية ولا يطالب البشر أن يعبدوه فهو إله نزيه فنان متسامى يعشق فنه وما يصنعه من جمال ولكن تلك الأفكار لم تصمد أمام صور الطبيعة التى تدعو للتفكير وليس الإفتنان فقط وهذا ما كان يحيرنى لأصل لفهم الجمال والفن ولأخلق فلسفتى فى مرحلة متقدمة من العمر لأصل بأن ما توهمته إله خالق الجمال هو وهم يشوبه حالة من الإفتان والإنبهار بالطبيعة أضاع فهمى للوجود , فجماليات الطبيعة لن تسمح بوجود إله فأنا من خلقت الجمال والحسن بعيونى ,فلا وجود لجمال ذات كينونة مستقلة ولا صانع عاقل بل هو تقديرى وإحساسى الذى أسقطته على الأشياء ليكون هكذا الجمال .. فمن الجمال آمنت بإله وكان إيمانى جميلاً ومن الجمال ألحدت وكان إلحادى كبيراً .

سبب إيمانى بفكرة الله فى البدء هو إعجابى الشديد به وإمتنانى العظيم لصنعه كرسام ماهر مع تصورى الخاطئ حينها أن الجمال شئ مستقل بذاته ومن ذات فاعلة عاقلة وان الخلق شبيه بعمل رسام لتتمحور أفكارى فى هذا الإطار فهاهو إله ينتج أعمال جميلة من الزهور والأسماك الملونة والعصافير والفراشات الرائعة وأمواج البحر الخلابة بل تلك الغيوم فى السماء التى تزداد جمالها عند الشروق والغروب .
كان يفتنى بالفعل هذا الجمال الخلاب لأكحل عيونى بجمالها ولأندهش كيف يُنتج الله هذا الجمال المبدع ,ولكن سكرة الجمال والإستمتاع به لم تحول عن فكر ما يتطرق ليُنتج علامات إستفهام كبيرة بدأت من تحديقى فى السحاب ليفتنى مشهدها وأتذكر اننى تعلمت فى المدرسة أن الغيوم هى جزيئات من بخار الماء ويضيف مدرس التربية الفنية أن الظلال هى إنعكاس الضوء على الأشياء لأبدأ التفكير فى معقولية فكرة الإله الذى يرص جزيئات بخار الماء فى السحاب ويسقط عليها ضوءا لتراه عيونى مشهدا جميلا .لتبدأ الملاحظات والتدقيقات تتسرب لتنتج ألغاز ودهشة لتسأل هل الله رص الجزيئات على ظهر جناح فراشة بتلك الروعة ولكن الفراشات هذه كانت بيضات ويرقات قبل ان تكون جميلة فهل الله رسم ولون أجنحتها وهى فى اليرقة وتتوالى المشاهد عن الزهور وكل شئ جميل لتتولد الحيرة عن كيفية قيام الله برسم هذا الجمال .
كانت النقطة الحاسمة لبداية الوعى بماهية الجمال هو البحر فأنا اعشق البحر بشكل جنونى بالرغم اننى لست من بيئة ساحلية ولكن أحس أن البحر أجمل شئ فى الوجود ليمكنى أن أحدق فيه ليوم كامل مستمتعاً بجماله فلا يصيبنى لحظة ملل فلا أعلم سر هذه الفتنة بالبحر فقد يكون الحنين الرومانسى للبدء ولكن هناك جمال فى البحر لا يستطيع أحد أن ينكره أعزيه لفعل الحركة والحراك الرائع الدائم فسر الحياة وجمالها فى الحركة ولكن ما معنى هذه الحركة الدائبة التى لا تنتهى بوجودنا او بغير وجودنا .

كنت أندهش من هذا الجمال الرائع فى البحر وأرى الامواج تسحرنى بجمالها لتتحرك على الدوام وبصورة عشوائية لتنتج مشاهد رائعة من حركتها لنضيف ضوء الشمس أو القمر عندما ينعكس على الأمواج ليعطى مشهد ساحر وفى خضم هذه الروعة بدأت أفهم ماهية الجمال , فالأشياء ليست جميلة فى ذاتها بل عيونى هى التى تراها جميلة أو قل أحاسيسى ومشاعرى وإنطباعاتى تسقط على الأشياء لتمنحها الجمال من خلفيات نفسية إرتبطت بالحاجة وشكلت الوعى والإحساس , فالطبيعة هى التى ترسمنا وتشكلنا وتمنحنا مفردات الوعى بالجمال وما نحن إلا إنعكاسات لما تهبه لنا وحظوظ من فيض إنتاجها وما نستقبله من صور وما نسقطه عليها من أحاسيس وانطباعات .
إكتشف فى رؤيتى وتأملاتى للطبيعة مع إزدياد الوعى ومحاولاتى أن أقلدها فى رسوماتى أن هناك أمور نغفل عنها ونتوهمها خطأ أو بالأحرى لم نتعمق فى مشهدها لأجد أننا كلما حدقنا فى الطبيعة سنتعلم أشياء كثيرة تقربنا من فهم الوجود شريطة أن نطلق معها تأملاتنا وفكرنا ولا نكتفى بمتعة المشاهدة كصور فوتوغرافية ذات خطوط وألوان .

* ماهية الجمال .
فى رؤيتى لا يوجد شئ إسمه جمال وقبح فى ذاته أى أن الاشياء لا تحتوى على جزيئات فى تكوينها الوجودى والبنائى إسمه جمال أوقبح , فجمال الشيء يتوقف على تقدير الإنسان وإنطباعاته بما يشعر به تجاه الشيء، أي أنه لا يوجد شيء جميل في ذاته كما يعتقد كثير من البشر أنه جميل، بل الأشياء تعدّ جميلة أو غير جميلة طبقًا لتقدير كل إنسان لمدى تأثيرها في عقليته ونفسيته .
الجمال ليس خاصية مباشرة باطنة في الأشياء، بل يتضمن بالضرورة إحالة الشئ إلى الذهن البشري الذي يدركه ويمنحه إنطباع وبهذا تنتقل حقيقة الجمال من كونه صفة في الشيء كما يعتقد الكثيرون إلى طريقة إدراك وأثر فى النفس الإنسانية . فالجمال معنى عقلى مجرد لا تدركه الطبيعه الغير عاقله , وهو إنطباع وإحساس وإنفعال ذاتى إنسانى مع الأشياء فهو من يمنح الموجودات صفة الجمال أوالقبح وهذا حجر الزاوية فى رؤيتى الفلسفية والتى منها نستطيع فهم الوجود والحياة وماهية الإنسان .
لتأكيد هذه الرؤية فنحن نقول أن الجمال نسبى أى تقييم الأشياء نسبى وليس ثابتاً مطلقاً فما أراه رائع الجمال قد يراه آخرون جميلا أو عادياً لا يثيره جمالها بل قد نجد من يعتبره قبيحاً وهذا يعنى أن الجمال تقييمات إنسانية خالصة ولكن قد يقول قائل إننا نجتمع على الجمال فالزهرة جميلة فلن نجد من يقول عنها قبيحة وهذا صحيح ولكن هذا لا يجعل الزهرة جميلة فى ذاتها بل لتقارب الخبرات والإنطباعات والأحاسيس والمعارف والثقافات الإنسانية التى رسخت فى الوعى أن الزهرة جميلة وسنتطرق لهذه النقطة فى السياق.

الجمال إنطباع إنسانى حسى يستحسن الأشياء وهذا الإستحسان ليس شيئا ميتافزيقياً بل ذو علاقة وثيقة بما يُجلبه هذا الشئ من نفع وإيفاء حاجة بل يمكن القول أن الجمال هو تقييمنا الحسى للأشياء يما تجلبه من راحة وإشباع كما نستمد رؤيتنا الجمالية من ثقافة وبيئة صَدرت لنا مفردات جمالية فتقبلناها كقبولنا للمعتقدات الإيمانية ولكن ليس معنى أننا إكتسبنا التذوق الجمالى من ثقافة أن هذه الثقافة إبتدعتها بل هى رؤى الإنسان القديم للطبيعة وإنطباعه عنها بما تجلبه من نفع وضرر ليكون النافع هو الجمال بينما يتمثل القبح فى الضرر.

الإنسان يمتلك الوعى ,والوعى هوإنعكاس لصور مادية فى الوجود وكلما كانت الطبيعة ثرية فى عطاءها كلما إمتلك الوعى مساحة أكبر لصور ومشاهد من الطبيعة ليختزنها فى أرشيف كبير من الصور عن الطبيعة يكون منها وعيه وإحساسه فنحن لسنا بجهاز كمبيوتر يحتوى على ملفات مصمته بل نختزن المشاهد مصحوبة بإسقاط مشاعرنا وأحاسيسنا عليها .ً
يكون تفاعلنا مع الطبيعة بإعطاء الألوان والخطوط معنى وقيمة جمالية .فعندما أسألك عن رأيك فى اللون الأحمر فقد تجاوبنى أنك تستحسنه وتعتبره لوناً جميلاً بالرغم أنه مساحة لونية لا تختلف عن أى مساحة لونية أخرى فلا هو متوهج ولامضئ مثلا , فلماذا إذن يكون اللون الأحمر جميلاً فى عيونك وعيون الكثيرين .
ثمة عوامل كثيرة تجعله جميلا فى عيوننا ,فعندما نذكر اللون الأحمر يتراءى فى وعينا ثمرة التفاح بطعمها الجميل التى تفى حاجة غذائية مع إحساس بمتعة التذوق , وقد يكون اللون الأحمر مداعباً خيالنا البكرى فى رؤية جارتنا الحسناء وهى مرتدية قميص نوم أحمر حرك فى داخلنا حاجة وشهوة .إذن اللون يستمد جمالياته من رؤيتنا نحن والتى تكون عبارة عن إحساس راودنا ليدخل فى علاقة مع اللون ..إحساس ناتج عن ذكريات مشاعر طيبة تكون مصاحبة للون ومن هنا يكون لنا عشق وإعجاب بلون محدد .

قد نجد تباين فى الحكم على اللون الأسود كما فى أى لون لأننا كما نقول أن الجمال نسبى . بعض الناس يكرهون اللون الأسود وقد تجد منهم من يستطيع أن يعلل سبب إستقباحه لهذا اللون . فهو يستدعى صورة الموت والحزن والأمهات الثكالى أو يستدعى قصص أسطورية عن الشيطان والعفاريت والجن ..بينما عند أخرين يجدون فيه سحرا وجمالاً لأنه يستدعى من الأعماق الشهوة الأولى والخيال الجنسى الجميل لأجساد بيضاء ترتدى ألبسة سوداء .
كثيراً ما ننسى المشاعر المصاحبة للون التى جعلته جميلاً أو قبيحاً فى عيوننا لنصفه بالجميل أو القبيح بناء على إحساسنا القديم الذى نسيناه ولكنه ترك انطباعا ,ومن هنا نصل إلى نتيجة أن اللون فى الطبيعة ليس جميلاً ولا قبيحاً فى ذاته ليتحدد جماله أو قبحه من مخزون مشاعرنا المصاحبة له سواء ادركناها أو لم ندركها والتى فى معظم الأحيان نكون قد نسيناها ليبقى حكمنا على اللون وفق ماهو باطنى معبراً عن احتياجاتنا وغرائزنا وسلامنا أو وفق ثقافة إكتسبناها . فكما قلنا أننا نكون علاقة عاطفية مع اللون وفقا لإحتياجاتنا ورغباتنا النفسية.
الإنسان كائن قادر على إختزان المركب والمعقد لذلك نجد أننا من الممكن أن نكون أحاسيس وإنطباعات عن الأشياء وهى فى حالتها التركيبية فيكون لنا إنطباع حسن عن الزرع ونراه جميلا كوننا نعيش ونحيا عليه ,فمن خلال إحتياجنا للنبات ورغبتنا فيه منحناه إحساس طيب ووصفناه بالجمال ليترسخ فى داخلنا إرتباط النبات والزرع بالجمال ويصبح لدينا مفهوم للجمال بإعتبار النباتات جميلة وقد ننسى السبب الأول الذى من خلاله منحنا النبات الجمال .

هكذا بالنسبة لكل الأشياء فى الطبيعة ,فالنهر يكون جميلاً لأنه واهب الحياة والخير والنماء فيلتصق فى ذهننا مفرداته اللونية والحركية بأنه جميل كذلك يمكن ان تكون الصحراء جميلة عند أهل البادية كونها المحتوى الحاضن بما تحمله من إنتماء وهوية وذكريات لذا نجد المغتربين يرون أن قريتهم البائسة رائعة أو باديتهم جميلة بالرغم أنهم يعيشون فى باريس ,فالجمال يرتبط بحالة شعورية روحية مختزنة وليس بكينونات ومعايير مادية .
التمساح ووحيد القرن كائنات قبيحة لأننا ببساطة لم نحظى منهما إلا على كل ألم وشر لذا ننزع عنهما أى صفة طيبة كالجمال ونصنفهما فى القبح فيتولد فى داخلنا هذا الشعور ويصبح كل تمساح قبيح مخاصماً للجمال .
الغيوم التى نراها ونستحسن صورتها لا تكون لوحة فنية صنعها الخالق بل مجموعة من جزئيات بخار الماء العشوائية سقط عليها الضوء بشكل عشوائى وعندما نصفها بالجميلة لأننا ربطنا الغيوم بالمطر الذى يجلب الخير والنماء والحياة لذا لو حاولنا أن ندقق فى السر الذى يجعلنا نستمتع بمنظر طبيعى نصفه بالإبداع والجمال سنجد أن له إحساس بدئى جاء من تولد إنطباع طيب تجاهه كونه مانحاً الحاجة والراحة واللذة فإستحسناه ووصفناه بالجمال .

يتجمع لدينا مخزون هائل من الصور والأشكال التى صنفناها بالجمال أو القبح لتتولد ثقافة سواء تكونت من إبداعنا أو إكتسبناها من المجتمع فكلما رأينا فى واقعنا المعاش صورة جديدة نبدأ فى تقييمها وفقا للرصيد الإحساسى الإنطباعى الذى نمتلكه ,ومن هنا ينشأ ما نسميه بالذوق الفنى أو الجمالى أى قدرتك على الإحساس بالإشياء وتقييمك لها وفقا لمخزونك من الأحاسيس القديمة التى هى إنطباعات وإستحسانات للطبيعة وعلاقتك بها .

* تصحيح مفاهيم .
من هنا يمكن أن نتوقف أمام أقوال فلاسفة ومفاهيم مغلوطة سائدة يلزم تصحيحها وتبيان تهافتها فقول أفلاطون: ( إن العالم آية في الجمال والنظام، ولا يمكن أن يكون هذا نتيجة علل اتفاقية، بل هو صنع عاقل، توخى الخير، ورتب كل شيء عن قصد وحكمة ) هو قول خاطئ .
قول أفلاطون ان العالم آية فى الجمال والنظام قول يفتقد المعرفة بماهية الجمال والنظام فيتصور الجمال والنظام كينونات مستقلة بينما الجمال والنظام تقييم وإنطباع وفكر إنسانى فلا يوجد شئ جميل بذاته أى لا توجد جزيئات اسمها جمال كما ذكرنا بل إنطباعات الإنسان عن الأشياء وتوصيفه لها وفقا ما تحققه من إرتياح جاء من إيفاء حاجات لذا صار جمال وهو نسبى أيضا فنحن لا نجتمع جميعا على تقييم الأشياء أنها جميلة ,وإذا كنا نتفق على اشياء كونها جميلة فلكوننا أصحاب تجارب وحاجات وخبرات بشرية متقاربة ,وكذلك النظام هو انطباعاتنا عن المادة او بمعنى أدق بحثنا عن علاقات تتيح لنا استيعاب المادة .

يقول ديكارت : ( أنا موجود فمن أوجدني ومن خلقني؟ إنني لم أخلق نفسي،فلا بد لي من خالق. وهذا الخالق لا بد أن يكون واجب الوجود، وغير مفتقر إلى من يوجده، أو يحفظ له وجوده، ولا بد أن يكون متصفا بكل صفات الجمال وهذا الخالق هو الله بارئ كل شيء ) .
يُلقى علينا ديكارت فرضياته ويَعتبرها منطقاً فلو تغاضينا عن كلمة خالق كما فى الأدبيات وتصورنا وجود فمن اين يثبت أن الخالق واجب الوجود وغير مفتقر لمن يوجده ,فالموجود يكون من موجد لم نلحظ واجده فأى ظاهرة حية أو ميتة جاءت من موجد قبلها فى سلسلة طويلة لا نهائية من المسببات الوجودية ويبقى ما يعنينا هو إتصاف الخالق بالجمال وهى الفكرة التى لم تكن تبارحنى لأقول ما الذى جعل الله يدرك الجمال قبل الوجود فمن الوجود يتكون الإحساس والوعى بالجمال أو القبح .

قال ديكارت أيضا : (إنِّي مع شعوري بنقصٍ في ذاتي، أُحسُّ في الوقت نفسه بوجود ذاتٍ كاملة، وأراني مضطرًّا إلى اعتقادي؛ لأنَّ الشعور قد غَرَسَتْه في ذاتي تلك الذات الكاملة المتحليَّة بجميع صفات الكمال؛ وهي الله ).
لا يقدم لنا ديكارت هنا فلسفة بل انطباعات وحاجات نفسية اكتست بالتخيلات والأمانى وافتقدت اى رؤية تحليلية منطقية موثقة قابلة للتعاطى فليس له مفردات يقدمها سوى احساس يباغته وافتراضات عجيبة فلا معنى للكمال خارج رؤية إنسانية مثالية مُتخيلة .

يقول "أناكساغورس" أحد فلاسفة اليونان الأوائل: ( من المستحيل على قوة عمياء، أن تُبدع هذا الجمال، وهذا النظام اللذين يتجليان في هذا العالم، لأن القوة العمياء لا تنتج إلا الفوضى، فالذي يحرك المادة هو عقل رشيد، بصير حكيم ).
اناكساغروس ينحو نفس منحى ديكارت وافلاطون فى توهم ان هناك من يصنع الجمال ويستصعب تقبل أن القوة العمياء تنتج جمال فلا يكون انتاجها الا الفوضى ويرجع هذا الخلل لدى اناكساغروس فى رؤيته المغلوطة عن الجمال فهو يتصور الصور الجمالية للطبيعة بمثابة لوحات فنية إستخدم الإله الألوان والفرشاة وأبدعها .. لا يا عزيزى أناكساغروس الجمال جاء من عشوائية وجدت قبولاً فى ذاتك .

لدينا قول آخر ولكن ليس لفيلسوف بل لإنسان بسيط قدم رؤيته للجمال كونها من إله فلنقرأ ما عثرت عليه لاقوال أحدهم لتمثل حجة شائعة نكتشف منها وعينا المغلوط عن الحياة والوجود .
يقول صاحبنا : ( لماذا لدينا عينان فأليس منظرهما جميلا ومقبولا فماذا تقول لو كان فى وجوهنا ثلاث أو اربع عيون .. لماذا نحن ايادينا متناسقه ذراع هنا والاخر على الجانب الاخر فالأ يكون هذا التناسق جميلا فماذا لو تصورت أن لنا ثلاث أو اربع أيدى فألا يعتبر هذا قبحا .. كما لدينا جلد يغطى أجسادنا فلا يظهر قبح الأوردة والشرايين .. ولتنظر لجمال الاشجار والطبيعه والتناسق الجميل. وهذه المرأة الجميلة التى لا يختلف أحد على جمالها ).
بالرغم بساطة هذا الطرح إلا إنه يلقى الضوء على مجمل فهمنا ووعينا المغلوط فهو يضع العربة امام الحصان اى أنه بعتبر المشاهد والنتائج مستقلة بذاتها ثم يضع انطباعاته وقبوله وينسى أنها استنتاجاتنا , كما يتصور الإعتياد هو الجمال بينما القبح هو الشاذ الغير مألوف بينما حكمنا على المعتاد والشاذ جاء من داخلنا ,فنحن من نرى اليدين أفضل من ثلاث أيدى والعينين أفضل شكلا من الثلاثة عيون وفق ماهو معتاد وشائع ومألوف ولكننا لو وجدنا بثلاثة عيون كنا سنشيد بتلك الحالة كونها الأفضل والأجمل وماعداها قبيح .
هذه الرؤية لا تنتج من رؤية مغلوطة عن الجمال بل رؤية متعسفة متصلدة تجاه إدراك الحياة والأفكار فهى تضع العقل فى قالب هو من صنعه فالإنسان ثم سجد لهذا القالب فالإنسان هو من وضع كراسة المواصفات للجمال فكيف يعتبرها مطلقة ومثالية وهو من أبدع حدودها وكيف نسى أنه من حدد الأطر , ومن هنا وجدت الأفكار والمعتقدات الميتافزيقية حضورها كوننا إعتدنا سماعها وألفنا وجودها فى وعينا ليكون أى فكرة مغايرة منبوذة وقبيحة .

أرى فى قول إيليا أبو ماضى بالرغم انه أديب فنان وليس فيلسوفاً أكثر الأراء موضوعية وإدراكاً لماهية الجمال فيقول : ( كن جميلا ترَ الوجود جميلاً ) وهى عبارة قريبة من رؤيتى لفلسفة الجمال , فالأشياء ليست جميلة فى ذاتها بل نحن من نمنحها الجمال أى لا يوجد خالق قدير أو طبيعة رائعة رسمت لوحة جمالية وإهتمت بترتيب خطوطها وألوانها بل نحن من رغبتنا فى أن نرى الأشياء جميلة جعلناها جميلة أى أن الإنسان بحالته النفسية والمزاجية وثقافته ودرجة تطوره وضع قيم ومفاهيم للجمال لا يكون الجمال شئ منفصل عنه ولكن قد يقول قائل أن هناك بشر كثيرون يتفقون على مشهد ويرونه جميلا فألا يعنى هذا أن المشهد جميلا فى حد ذاته وهنا نقول بأن البشر يتقاربون فى تكوينهم النفسى والعقلى فنحن من طبيعة بشرية واحدة ذات عقل وتجارب وخبرات متقاربة لذا يتفق غالبيتنا فى رؤية وتقييم الأشياء وهذا لن يمنع بالطبع أن تتفاوت درجة قبولنا لتباين التجارب لذا نجد من يفتنه مشهد بقوة ومن يراه رائعا ومن يجده عادياً وهذا يرجع لتباين زاوية الرؤية أيضا.
إذن ما هو المعنى والمعيار التى نحكم به على الاشياء كونها جميلة او متوسطة الجمال أو قبيحة ..وما الذى يجعلنا نرى أشياء من أول وهلة كزهرة فيجتمع معظمنا على انها جميلة وإن تفاوتت إنفعالاتنا ..ما هو أصل حكمنا على الجمال ولماذا نستحسن أشياء ونستقبح أشياء ,وما الذى يحكم إحساسنا وقرارتنا ولماذا نتباين .؟!

نحن نمنح الأشياء صفة الجمال عندما تمنحنا إحساس بالراحة والإشباع وتقترب من اللذة وفى المقابل نستقبح الأشياء عندما تثير فينا النفور والضيق وتستدعى الألم .. يكون الإحساس بأى مشهد هى عملية مزاجية كما تبدو لنا أو كما نختزلها ..نعم هى مزاجية ولكن كيف تولد المزاج وما هو مقوماته ؟!
لا يوجد شعور أو فكر خارج الحاجة والرغبة ولا يوجد إحساس خارج دوائر الألم واللذة ولا يوجد فعل إنسانى إلا باحثاً ساعياً نحو الراحة واللذة والإشباع محاولاً فى نفس الوقت تجاوز دروب الألم , فتكون إنطباعاتنا عن الأشياء هو تصنيف وجودها فى أى ملعب , فهل هى داخل مربع الألم أم اللذة .
الجمال والقبح صورتان شديدتا التعقيد للتعبير عن انطباعاتنا للذة والألم فنحن ببساطة نستحسن الأشياء التى تعبر عن إحتياجاتنا ورغباتنا وتثير فى داخلنا اللذة والراحة فنمنحها صفة الجمال , وفى المقابل ننفر من الأشياء التى تثير فى داخلنا الألم والحزن والإضطراب فنمنحها صفة القبح .

* الجمال إسقاط إنطباع من فعل حاجة .
لا يتشكل الإحساس بالجمال أو القبح بعيدا عن مفهوم الحاجة كإنطباع حسى يختزن فى الوعى إرتباط المادة باللذة أو الألم ليتكون مفهوم حسى فى الداخل يتم إختزانه فى الذاكرة لتخلق مفاهيم لدينا على شكل إنطباعات يمكن أن نستدعيها ونَتوارثها ونَوَرِثها لتشكل ثقافة و ذوق جمالى ولكن كل جذورها البدئية هى ردود فعل وانطباعات عن حاجات ورغبات .
الجمال جاء من مراقبتنا للأشياء وإسقاط رؤية برجماتية لمدى نفعها وفائدتها لدينا لنستحسنها ونصفها بالجمال , فجسد المرأة ليس جميلاً ولا قبيحا ً فهو جسد بالنهاية من جلد ولحم ودم ولكن بقدر ما يلبى إحتياج نمنحه الجمال .. فالجسد الغض القادر على الإشباع الجنسى وإنتاج الأطفال نراه جميلاً , بينما الجسد الضعيف الواهن المُجدب نراه قبيحاً لأنه غير قادر على إنتاج نسل يكون دعم لنا فى عالمنا .

حين تنظر إلى فتاة جميلة ترى صدر ممتلئ و مستدير وهذا يعنى من تجاربنا وخبراتنا انها تستطيع أن تنتج ما يكفي من الحليب لترضع الطفل فوهبنا هذا النهد الجمال ولإستحسان .. نهد المرأة نراه جميلا ً..فهل وهبت الطبيعة المرأة نهد ووضعت فيه الجمال وجعلته إثارة للرجل ولماذا نرى النهد المكور جميلاً و نرى النهد الواهن العجوز قبيحا ً .؟!
لقد اسقطنا تقيمنا لنهد على مايؤديه من حاجة فالنهد الشاب قادر على الإرضاع ووهب الحياة للوليد بينما النهد العجوز فقد القدرة على هذا فأصبح النهد الشاب بخطوطه شئ جميل واكتسب نهد العجوز بترهله القبح لتسير الأمور معنا إلى التجريد فنتعامل مع الخط وننسى أن الحاجة هى التى قيمت الخط .
نحن منحنا النهد الشاب الجمال ونزعناه عن العجوز من مدى فائدة النهد بالرغم انه ذات النهد ليرتبط فى ذهننا علاقة بين تشكيل خطوط النهد بالحاجة ولكننا فى معظم الأحيان ننسى الحاجة التى جعلت النهد جميل أو قبيح فقد تحول لدينا إلى مفهوم إستقناه من رؤية قديمة وبدئية لنا أو من تصدير ثقافة الأجداد وخبراتهم وإنطباعاتهم وتم نسيان السبب ليتبقى الحكم كقيمة ورؤية .

لماذا مؤخرة المرأة المنحنية نراها جميلة عن المؤخرة المفتقدة للإنحناء ..ولماذا أصبح خط الإنحناء هنا جميلاً وفى إمرأة الأخرى قبيحاً .. هل نقول شهوتنا ؟..ولكن كيف جاءت وتولدت الشهوة هنا وإفتقدناها هناك .؟! ..لا تكون الأمور وفق شهوة , فالشهوة نحن من نخلقها وكل شئ فى الوجود يرجع لسبب مادى يتحرك فى دائرة الحاجة والغاية ..فنحن لاحظنا أن المرأة ذات المؤخرة المنحنية تكون قدرتها على إنتاج الأطفال أكثر يسراً لإتساع الحوض ,كما تعطى متعة أكثر فى الممارسة .فمن هذه الملاحظة المتكررة إستحسنا المؤخرة المنحنية لفائدتها ووصفناها بالجمال ليتم تلقين هذه المفردة للأجيال اللاحقة لتتكون ثقافة وذوق جمالى فى التعاطى مع المؤخرات الأنثوية .
عندما نقول عن المرأة صاحبة الإنحناءات انه جميل فمن خبرتنا لاحظنا أن هذا جيد ومفيد للحمل والولادة فتجويف الحوض جيد ومرن لأداء المهمة بيسر .
نستحسن بشرة المرأة وجسد المرأة الناعم ونعتبره جميل لأننا ادركنا من التجارب ان هذا يعنى أن لديها ما يكفي من الدهن لمدها بسعرات حرارية تسعفها عند الحمل و الولادة
تفتنا المرأة ذات الأنوثة والدلال لنمحنها الجمال كونها تنتج هرمون الإستروجين إذن فهي تنتج بويضات ,,وتفتنا المرأة التى تمشى بدلال من إنطباع ان تلك النسوة اصحاب مفاصل حوض مرنة تسمح بولادة ناجحة.

منظر غروب الشمس قد يستهوى الكثيرون ويرونه منظر خلاب ورائع الجمال فهل الجمال كامن فى هذا المشهد أم أننا منحنا هذا المشهد الجمال نتيجة إرتباطه بحاجة نفسية إرتبطت بمشهد الغروب .فالإنسان ظل لعقود طويلة يعمل للبحث عن طعامه وكان الغروب ميقات الإنتهاء من رحلة الشقاء والتوسم فى الراحة والإشباع والأمان والإسترخاء..فيرتبط مشهد الغروب مع الحاجة إلى الراحة ويصبح هناك إرتباط شرطى فالغروب يرتبط بالراحة والسكينة فهو شئ حسن فلنجعل مشهده جميلا ً ليتوالد فى الداخل الإنسانى إستحسان لهذا المشهد ليورثه لأولاده وهذا شبيه بإستحسان الأطفال لسماع صوت جرس الفسحة فى المدرسة للإنطلاق للهو .كذلك منظر شروق الشمس نراه جميلا رائعا ًبعد أن تكون لدينا إنطباع دائم يرافق مشهد الشروق بالأمل والتفاؤل بيوم جديد يحمل معه رزق وفير وحاجات مأمولة .

السماء عندما تكون مزدحمة بالسحب تفتنا أكثر من السماء الصافية لنعتبر هذا المشهد جميلاً فمن أين جاء جماله هل من تكاثف جزيئات الماء فبالطبع هى جزيئات الماء لا تعنى اى شئ ولكن لإرتباط الغيوم بقدوم الأمطار اللازم لحياتنا وزرعنا فأصبح هذا المشهد رائعاً ولكن هناك من يرى مشهد الغيوم الملبدة غير جميل لتجد حياته غير مرتبطة بالأمطار فلديه النهر ويجد المطر معيق لحركته وعمله فمن هنا يتضايق عندما يرى السماء ملبدة بالغيوم ومن هنا نستطيع تأكيد نسبية الجمال نتاج رؤيتنا وحاجاتنا المتغيرة .

قد يتخلى الوعى المُدرك عن السبب المُنتج لمعنى الجمال فيصبح قيمة فى حد ذاته ولكن لا يوجد شئ جميل ولا قبيح فى ذاته بل نحن من نهب الأشياء جمالها وقبحها فالذهب معدن نراه جميلا .. فما سر جماله هل لكونه ذو لون أصفر أصبح جميلا ً فلدينا عشرات الأشياء ذات اللون الأصفر ولا نراها جميلة .!!
نحن وهبنا معدن الذهب الجمال لأنه حقق لنا غاية أن نكون متميزون بإقتنائه وذلك بخلق حالة من التمايز على الآخر والشعور بلذة التمايز والسيادة والسطوة لذا إستحسنا الذهب ووهبناه صفة الجمال ولنصدر لأولادنا معلومة وثقافة أن الذهب جميل فيرونه جميلا ً ويزداد جماله فى عيونهم من فتنة الآخرين به ليتكون مناخ وثقافة تمنح الذهب الجمال.ولكن .لو تصورنا قدرة كل البشر على إقتناء الذهب فلن يكون هنا معدن جميل فسيبحث من يريدون التمايز عن معدن آخر يمنحونه صفة الجمال .

الأمور لا تكون صارمة فالإنسان كائن ذو وعي وتجارب ذاتية ويستقبل الوجود بأحاسيسه ومشاعره ليختلف بها عن الآخرين .. كما لا يوجد تماثل وتناسخ بين البشر فى المشاعر والأحاسيس بل يمكن أن تتقارب بحكم تقارب الإحتياجات والآلام والتجارب البشرية , وحتى الإنسان ذاته لا يوجد لديه أحاسيس متقولبة ومكررة على الدوام ,فالماء لا يجرى فى النهر مرتين , فيمكن ان نكون مفاهيم مزدوجة عن الاشياء مابين الجمال والقبح بحكم تباين اللحظات الشعورية فنرى الألوان بأحاسيس متباينة ونسبية .. فبعضنا يفتنه لون ويراه جميلاً ورائعاً والبعض الآخر لا يفتنه هذا اللون وقد يراه قبيحاً ..بل أن اللون الواحد يمكن أن نراه جميلا وقبيحا وفقا للحالة النفسية وإرتباطه بحاجات ورغبات وأحاسيس متباينة فالأحاسيس ليست حادة ومقولبة .فاللون الأحمر نراه جميلا ً من خلال التفاحة مثلا ًويكمن سر الجمال بأنها أشبعت حاجة غذائية مصحوبة بمتعة فى التذوق فإستحسنا منظر التفاحة بلونها الأحمر ومنحناها صفة الجمال ..فالتفاحة أوفت حاجة فجعلنا تميزها بخطوطها ولونها الأحمر يبدو جميلا ورائعا ليبتعد مشهد التفاحة لتبقى معلومة اللون الأحمر كلون جميل فى الوعى الظاهر ولكن نفس اللون الأحمر الذى أمتعنا نراه سيئاً عندما نشاهده فى الدم النازف ..فنحن عرفنا أن نزيف الدم سيخلق لنا متاعب تؤدى للموت فلا نقبل مشهد اللون الأحمر فى الدم المسفوك بينما قبلناه فى التفاحة ..فتتباين المشاعر من إنسان لآخر وللإنسان ذاته وفقا لعملية التجريد التى يمارسها .
كذلك اللون الأسود فالبعض يراه جميلاً حيناً فى ملابس اللانجيرى وقبيحاً حيناً فى مشهد الموت والفراق فما معنى هذا فهل هى حالات تنتاب اللون الاسود أم حالات نفسية ومزاجية متباينة للإنسان ,أليس يعنى هذا أن الجمال والقبح تقييمات بشرية وإنطباعاتنا عن الاشياء ليقودنا هذا إلى أن الإله فكرة إنسانية إنطباعية .
اللون الأبيض نراه جميلاً لإرتباطه باللبن الصادرعن الأم أو البقرة فيرتبط فائدة اللبن باللون فنستحسنه ونجعله جميلاً ونعتبره لوناً هادئاً صافياً .. ولكن نفس اللون الأبيض قد نستقبحه عندما نجده حاضراً فى شعور رؤوسنا ليصيبنا بالإنزعاج وقد نتسارع للبحث عن اللون الأسود لنصبغ به شعر رؤوسنا .. إستقباح اللون الأبيض فى هذه الحالة لأننا ربطنا الشعيرات البيضاء بالعجز والوهن فإستقبحنا العجز والوهن و ما يصاحبه من لون أبيض .. من هذه الرؤية نحن قادرون على تجميع مجموعة من الصور فى مشهد نستحسنه عندما يفى بحاجات ورغبات ولذة فنهبه صفة الجمال ..وقد نستاء منه لما يصيبنا منه ألم وسوء فنصفه بالقبح .

إمتلاكنا القدرة على التجريد وعدم الإختزال جعلنا نمنح الأشياء التى تمنحنا المتعة توصيف الجمال وننزعها عما يصيبنا بالألم والعناء والمشقة وتتباين المشاعر بالنسبة للمشهد الواحد حسب ما يؤثر فينا ليتولد فى داخلنا القدرة على الفصل الشعورى فليس كل أحمر أو أبيض جميل دائماً بل يمكن ان نستقبحهما فى حالات أخرى لنكون قدرة رائعة وديناميكية وثرية فى التعاطى والتفاعل مع المادة .

فى نفس السياق لماذا نرى معابدنا المقدسة جميلة ولا نراها فى معابد الآخرين لأننا ببساطة أسقطنا عواطف وإنتماءات وهوية إجتماعية وإرتباط بالمجموع كمشروع إنتماء على المكان المقدس كرمز يمنحنا الدفء وأمان العائلة والجماعة ومن هنا يمكن أيضا تفسير الإيمان من هذا المنحى .

العلاقة الجنسية بين رجل وإمرأة فى ظل مؤسسة الزواج نراها جميلة ورائعة ونحتفى بها إحتفاءاً شديداً بينما نفس هذه العلاقة عندما تكون حرة نراها قبيحة مذمومة ننفر منها ونستهجنها بالرغم أن الأداء والفعل والممارسة والشهوة والميكانزم واحد فلماذا هذه الصورة جميلة والأخرى قبيحة بالرغم من تشابههما فهذا يؤكد أننا من نسقط الجمال والقبح على الأشياء والعلاقات والسلوك وفق رؤيتنا ومصالحنا وانطباعاتنا .

يمكن تعليم وتوريث مفردات الجمال للآخرين وخلق ثقافة جمالية تتكون ملامحها بما نصدره لهم من تجاربنا الشخصية والتى تتوافق معهم كونهم يعيشون نفس مظاهر الطبيعة . تتكون ثقافة جمالية لدى الإنسان يتم نقلها للآخرين كخبرات يتم إستقبالها وتدوينها فى الدماغ فيتردد أن البحر جميل كونه مصدر رزق ليتولد فى الوعى ان مشاهد البحر جميلة وان الغروب رائع إيذاناً بالراحة فتتوارث أجيال مفردة أن الغروب رائع .

عندما نحكم على مشهد بالجمال يتعاطى العقل مع كل مخزونه الفكرى ومفرداته الثقافية التى تم توارثها وما تم إكتسابه من تجارب حياتية ليتشكل قرار بالحكم على الأشياء بالجمال ولكن لن تخرج كل المفردات الخالقة للقرار من جذور حاجات ورغبات عميقة مستحسنة سواء أدركناها أم لم ندركها .
يمكن تشبيه التعامل مع الجَمال ببرنامج حاسوب من حيث ان تقريرنا للجمال يتم فى لحظة بينما مر بخبرات ومخزونات ومفردات كثيرة تمت فى عمق الفكرى الإنسانى لتتشابه مع الحاسوب فى سرعة انجازه لخطوات كثيرة فى لحظة واعلان التقييم والنتيجة .

لن يكون هناك لون جميل لو وُجد وحيدا منفردا بل لن توجد حياة إلا من تنوع الألوان فيستحيل ان تتواجد حياة من لون واحد ,فنحن نصدر حكمنا اللحظى على الجمال وفق حاجات ورغبات وتضاد الأشياء والألوان وصراعها ومن هنا نكون لحظة نظامية وسط وجود عشوائى فلا يتصور أحد اننا فى تواجد نظامى فنحن من نخلق لحظة ووجود نظام حتى نستطيع التعاطى مع الوجود وقد تطرقنا لهذا فى مبحث سابق .

* الجمال والحركة
هناك علاقة وثيقة وجدلية بين الجمال والحركة فنحن نستحسن الاشياء عندما تكون مفعمة بالحركة لتتكون شفرة خاصة بين الجمال والحركة كون الحركة هو وعينا وإحساسنا وإدراكنا الحقيقى للوجود ,فكلما كانت الصور غزيرة الحركة كلما إستحسنا شكلها فالحركة هى الحياة وسرها وشفرتها ولا نقصد بقولنا " الحركة " هى تلك الحركة الميكانيكية بل فى عمومها من التغيرات الشكلية والكيميائية والفيزيائية والتطورية لنجد أن عيوننا وآذاننا ونفوسنا تُفتن من تلك الحركات السخية الفياضة من الحركة لنستحسن الموسيقى والرسم والمشاهد الطبيعية المفعمة بالحركة لنطلق عليها جميلة .فلا يوجد أى جمال من خلال لون واحد او نغمة واحدة فهو الموت والموات بعينه ليكون سر الجمال فى هذا الثراء الشديد من الحركة .

بعد هذا العرض لمفهوم ورؤية الجمال , هل لنا أن نسقطه على الله لنتبين من خلاله أننا نخلق آلهتنا ونرسم ملامحها وخطوطها وألوانها و نصدر لها كل رؤيتنا ونظرتنا وأحاسيسنا نحن أبدعنا الفكرة ورسمناها كما نريد ولم ندرك أنها ستتناقض مع العقل والمنطق بعد ذلك ورغم إدراكنا أنها تناقضت مع العقل فنحن حريصون على التشبث بها لأنها تفى حاجات نفسية فنحن لم نخلق الفكرة من أجل المنطق بل لتفى حاجاتنا النفسية وليذهب المنطق للجحيم أو قل فلنناور فى سبيل إصرارنا المُلح أن نحتمى ونلوذ داخل الفكرة لما تفيه من رغبة فى تجاوز ألم لا يمكن تحمله .

* فهمنا للجمال يعطينا فهم معنى عشوائية الوجود.
مشكلتنا فى التعاطى مع الوجود أننا نتغافل الإرتباط به بالرغم اننا فى وحدة مدمجة متفاعلة فيه بلا إنفصام لتتكون علاقات وانطباعات عن الوجود ما يلبث أن ننسى انها من إنتاجنا لنتصور الوجود يقذف لنا بمفاهيمه وقوانينه وعلاقاته بينما هى انطباعاتنا نحن عن الوجود والطبيعة .
فهمنا للجمال كونه تقييم وإنطباع ذاتى عن الأشياء وفقا لما تلبيه من حاجات إنسانية نستحسنها فنطلق عليها جميلة لنمارس منها الذوق الجمالى والمسطرة التى نقيس ونقيم بها ليجعلنا نتوقف أمام العشوائية فى الوجود ومعنى النظام , فالطبيعة تلقى بصور عشوائية بلا معنى تتكون كل صورة من جزيئات عشوائية بلا معنى ايضا ولكننا أوجدنا معنى لتلك العشوائية ووضعنا لها تقييم وتوصيف فأصبحت نظاماً.
ما نراه من جزئيات عشوائية على جناح فراشة أو ظهر سمكة أو زهرة هى تكوينات لونية عشوائية ليس فيها نظام محدد ولا معنى ولا رسالة ولا شفرة محددة ولكنها لاقت إستحسان لعيوننا لأننا وجدنا فيها إيفاء لحاجاتنا فأصبح العشوائى هنا نظام ليمكن أن نصيغه فى علاقات بأن اللون الفلانى عندما يمتزج باللون العلانى سيعطى لونا جميلا وهكذا تدور الدوائر لنخلق قوانين ماهى إلا إنطباعتنا وملاحظاتنا التى أردنا أن نسجلها عن الأشياء , فالأشياء لا تحمل قانونها ولكننا من نضع لها قانونها أى صياغة وجودها فى قانون وعلاقة جاءت من إبداعنا ومراقبتنا .

دمتم بخير وعذرا عالإطالة .
-"من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته" - حلم الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .



#سامى_لبيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وإسرائيل أيضا على هدى الحبيب المصطفى .
- على هدى الداعش الكبير .
- داعش الوجه الحقيقى للإسلام ولكنها تفرط أيضا.
- إما تؤمنون بحق إسرائيل أو تكفرون أو تدركون بشرية الأديان.
- مازال ملف حماس مفتوحاً فى أسئلة محددة تطلب إجابات محددة.
- لماذا لا يثور الفلسطينيون على حماس ويعزلوهم.
- نظرياتى فى فهم الوجود والحياة والإنسان .
- فشنك - تسالى رمضانية (5).
- عذراً أنتم لم تنتبهوا-تسالى رمضانية(4).
- تأملات فى مشاعرنا وأعماقنا وزيفنا.
- تسالى رمضانية(3)-الأديان بشرية الفكر والهوى .
- تسالى رمضانية(2)-الأديان بشرية الفكر والهوى والهوية.
- تسالى رمضانية-الأديان بشرية الفكر والهوى والهوية.
- تناقضات فى الكتابات المقدسة-جزء خامس .
- أسئلة فى الإنسان والوجود والحياة .
- ألم يروا ال D. N. A - كيف يؤمنون.
- أأنت قلت هذا-الأديان بشرية الفكر والهوى والهوية.
- فلسفة التمايز .
- انهم لا يقدرون الله حق قدره بل يسخفونه ايضا.
- إشكالية الفكر الإسلامى .


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامى لبيب - من فلسفة الجمال ندرك ماهية الحياة والوجود والإنسان .