|
الأحاديث الموضوعة كأداة لتصحيح التاريخ
حسن محسن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 4008 - 2013 / 2 / 19 - 21:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في حوار مع بعض الأصدقاء امتد لساعات طويلة حول مائدة طعام ليلية، منذ أيام قليلة ماضية، تناولنا فيه السياسة والدين ونقد النص المقدس للأديان الثلاثة السائدة في الشرق الأوسط ضمن محاور أخرى. كان في جزئية مهمة من هذا الحوار الممتع موضوعين: الأول هو جدوى نقد النص المقدس اليهودي – المسيحي ومدى مقدرته على إحداث تغيير ثقافي ملموس على المدى المتوسط والبعيد في الذهنية الثقافية العامة للشرق الأوسط، والثاني هو فكرة طرحتها في مناسبات متعددة تتعلق باستخدام الأحاديث الموضوعة والمزورة على لسان النبي محمد في نقد وتفنيد نصوص التاريخ الإسلامي التي اعتُبر بعضها في حكم المُسلّمات في الذهنية الدينية. هذه المقالة تتعلق بالشق الثاني، أي ما يتعلق بمحاولة اكتشاف بذور للحقيقة في النص التاريخي للإسلام المبكر. بالطبع، هناك قناعة سائدة عند الدارسين الغربيين وبعض المشارقة أن الأغلبية الساحقة من النصوص المنسوبة للنبي محمد هي نصوص مزورة على لسانه، حتى تلك التي تحتويها كتب الصحاح عند المذاهب الإسلامية المختلفة. وهو رأي يملك دلائل متعددة على صحة إطاره العام، وإن لم يكن بالكم الشامل الكامل التي تصوره بعض الآراء والكتابات. وبالتالي، فإن نصوص التاريخ المبكر للإسلام ليست أفضل حالاً من تلك الأحاديث المنسوبة إلى نبيه، فكيف لنا أن نصحح التاريخ المزور بنص آخر مزور؟
ذلك السؤال أعلاه، فيما يتعلق بجزئية تاريخ الإسلام السياسي في النصف الأول للقرن الأول الهجري، ينطلق من افتراض خاطئ، وهو أن محض الوهم والخيال الذي لا يَمُتُّ للواقع بأي صلة يساوي تماماً تزوير النصوص في التاريخ الإسلامي المبكر، وهو افتراض خاطئ بالطبع. إذ تزوير (النص) لابد له أن ينبع من حاجة ملحة على أرض الواقع، حاجة سياسية بالتحديد، ولابد لها أن تتطرق لتلك الحاجة بطريقة ما لتعالج (السبب) الذي دعا إلى تلك الحاجة. وبالتالي لابد لها أن تحتوي على (نواة) للحقيقة، ومن تلك النواة تنطلق في طريق التزوير والتلفيق. تلك ضرورة يفرضها حقيقة أن المستمع يملك خلفية من نوع ما عن (واقعه هو)، أو عن (حقيقة ما وقع)، عن تسلسل الحدث، عن رواية يقصها من شهد تلك الواقعة وأصابت (السلطة) بحرج أو خوف من نوع ما. فأتت (الرواية) المزورة لتغيّر في الممارسات أو المفاهيم والتفسيرات وربما في بعض الأحداث والأقوال، ولكن يصعب عليها جداً أن تفارق الواقع بصورة مطلقة وشاملة ولتحلق في فضاء الأوهام والخيال، وإلا لزاد احتمال رفضها واكتشاف تزويرها. مهمة الباحث هنا هو البحث عن تلك (النواة)، وتنقيح الرواية الإسلامية للتاريخ للاقتراب أكثر من حقيقة ما حدث.
فيما يخص هذه الجزئية بالذات، أدناه هو اقتباس مختصر ومتعدد من مواضع مختلفة من كتاب كاتب هذه المقالة (نقد نص الحديث) [حسن محسن رمضان – دار الحصاد – الطبعة الأولى – دمشق 2010] تمثل كمدخل لتلك الفكرة الذي دار حولها هذا النقاش منذ أيام قليلة ماضية مع أمثلة أولية لتلك الفكرة:
روى المدائني أن عمرو بن العاص قال وهو عند معاوية: "ما بقيَ من لذتي إلا الحديث، وأن يأتيني من ضيعتي ما أحب"، فقال معاوية: "وأنا والله كذلك". وكلمة (الحديث) هنا تحتمل معنيين، إما الحديث الذي يدور بين الرجال في مجالسهم، أو الحديث النبوي. ولكن ورود الكلمة بلفظ (الحديث) بدلاً من "حديث الرجال" أو "محادثة الرجال" ربما يُرجح كفة الحديث النبوي على أنه المقصود. وعلى أي الحالين، فإن دراسة واقع الحال في المرويات النبوية التي وُضعت وزُوّرت لصالح الرؤية السياسية أو المذهبية يشهد بأنها تطورت لتكون فناً من الفنون. فهي أشبه بلعبة أو تحدٍّ عقلي يُبدع فيه بعضهم ويفشل آخرون. فالخطاب في تلك الأحاديث، في أغلب الأحيان، لا يكون مباشراً بحيث يثير شكوك المتلقي، كما أنه يتجنب التسميات ووضع التواريخ المحددة، ويبدو فيها النبي محمد وكأنه قادر على التنبؤ بالغيب ليحذر أمته دائماً بأن القادم هو أسوأ وأشد. كما يبدو فيها النبي أيضاً متوافقاً مع رغبة السلطة السياسية في إدارة شؤون المدن والقرى ولكن بطريقة تبدو محايدة وبعيدة عن الغرض السياسي المباشر. فمثلاً، بعدما أمر زياد ابن أبيه بقتل أي إنسان يمشي في الطرقات ليلاً بعد صلاة العشاء، نرى أن نائبه سمرة بن جندب يروي حديثاً عن النبي محمد منطوقه: (لا يَغُرَّنكم أذان بلال، ولا هذا البياض لعمود الصبح، حتى يستطير)، بمعنى أن النبي محمد هنا يأمر أهل البصرة بأن لا يخرجوا لصلاة الفجر حتى "يستطير" الصبح وينتشر ضياءه. فحقيقة الرواية تلك أن زياد ابن أبيه حدد بداية "حضر التجوّل"، بينما تولى الحديث المنسوب للنبي تحديد نهايته من خلال رواية تولاها نائبه. وهنا تكمن "اللذة" في السياسة، لذة التسلط والتحكم، لذة النظر من أعلى إلى جموع العامة في الأسفل وهي تسير حسب مشيئة من نوع ما. لذة أن تفوز وحدك في لعبة أنت وضعت قوانينها وحدودها ضد أمة بأكملها. لذة أن تعرف وحدك الحقيقة دون العامة المسيَّرين ذوي التقى، لذة أن ترتفع لتتقمص دور نبي وتتولى التشريع بالنيابة عنه. لذة أن تضحك في سرك على ورع ذوي التقى الذين يسيرون حسب مشيئتك أنت وحدك معتقدين بذلك أنهم يفوزون بالجنة. وعلى هذا المعنى من الممكن أن نفهم مقولة أحد دهاة العرب: "ما بقيَ من لذتي إلا الحديث".
جاء في سنن الترمذي عن زياد بن كُسَيب العدوي أنه كان مع أبي بكرة تحت منبر عبدالله بن عامر [عبدالله بن عامر بن كُريز العبشمي القرشي، ابن خال عثمان بن عفان. ولي البصرة وفارس لعثمان، والبصرة وحدها لمعاوية. هو الذي دعا طلحة والزبير إلى البصرة لقتال علي. توفي سنة 59 هـ] وهو يخطب في من حضر من أهل البصرة، وعليه ثياب رقيقة، ربما كانت تشفُّ عما تحتها، فقال أحد الحاضرين: "انظروا إلى أميرنا، يلبسُ ثِياب الفُسّاق"، فأجابه الصحابي أبو بكرة (توفي 51 هـ) مباشرة بحديث نبوي لم يسمعه صحابي آخر ولم يسمعه أحد من غير أبي بكرة ولم يصلنا إلا عن طريقه، إذ نَهرَ الرجل بقوله: "اسكتْ، سمعتُ رسول الله (ص) يقول: (من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله)". ويبدو أن الصلاة في أثواب رقيقة كانت عادة جارية عند ولاة الأمويين فاحتاجت معها إلى "نص". إذ يروي البلاذري أن فقيه البصرة عثمان البتي رأى مالك بن المنذر بن الجارود العبدي (توفي 110 هـ) يصلي في ثوب رقيق، فنهاه عن ذلك، ولكن شاء سوء حظ البتي أن خالد بن عبدالله القسري ولّى بعد هذه الحادثة مالك بن المنذر شرطته، فما كان من مالك إلا أن أرسل إلى البتي فضربهُ عشرين سوطاً ). أسلم أبو بكرة خلال حصار الطائف في شوال سنة ثمان للهجرة، أي أنه بقي في حياة النبي محمد سنتين وثلاثة أشهر فقط. وأبو بكرة هو أخ زياد ابن أبيه لأمه. وزياد هو الذي ادّعاه معاوية لأبيه، فأصبح يُدعى زياد بن أبي سفيان وولاه معاوية العراق. وتولى أبناء أبي بكرة الولايات في عهد معاوية وفي حياة أبيهم، فتولى عبيد الله بن أبي بكرة فارس، وروّاد بن أبي بكرة دار الرزق، وابنه عبد الرحمن بيت المال. هذا (السلطان) الذي كان يتقلده أفراد عائلة أبي بكرة ويحيط بهم يقودنا بدوره إلى النظر في منطوق الحديث الذي ينسبه أبو بكرة للنبي محمد (من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله). فإذا علمنا أن عبدالله بن عامر، صاحب الثوب الرقيق في الحديث أعلاه، تولى البصرة وحرب سجستان لمعاوية في سنة 41 هـ وعزله عنها سنة 45 هـ، فإننا نستطيع أن نحدد بدقة الفترة التي برزت فيها فكرة (سلطان الله على الأرض) ضمن التداول الشفهي للمرويات الإسلامية المنسوبة للنبي محمد، ومنها إلى الوعي السلفي الإسلامي، خلال هذه السنوات الخمس بالتحديد. وهي بدورها تضعنا في زمان قريب جداً من نقطة البداية في بروز (نص الحديث) كأداة فاعلة لتشكيل وتحوير وتوجيه الوعي الجماعي للمسلمين لصالح السلطة السياسية المهيمنة والتي شهدت أولى محاولاتها بعد مقتل عثمان. فالحديث الذي يرويه الصحابي أبو بكرة هنا كان موجهاً لحماية الذات أولاً، ثم ثانياً لحماية السلطة السياسية التي أسبغت (سلطانها) على أفراد عائلته. فعلى عكس التصوير الإسلامي لشخصية أبو بكرة، فهو من المحتمل جداً، بل الأرجح، أنه شخص فاعل ضمن الدعاية السياية الموجهة لإعادة تشكيل الوعي الإسلامي المبكر في المجتمع الإسلامي.
لا تقف روايات أبي بكرة مع ثوب ابن عامر الرقيق كممثل لسلطان الله الذي يجب أن يرتفع عن الإهانة، فهو يروي حديثاً آخر يبدو فيه صاحب الشأن نفسه وكأنه جاهل بمحتواه ولم يطرق سمعه من قبل. يروي البخاري في صحيحه أنه لما واجه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان بكتائب جيشه كثيرة العدد، "أمثال الجبال" على حسب لفظ الرواية، أرسل معاوية عبد الرحمن بن سمرة وعبدالله بن عامر، صاحب الثوب الرقيق في الحديث السابق أعلاه، إلى الحسن ليعرضا عليه المال، فوافق الحسن بن علي على الصلح بشروط اشترطها، فقال أبو بكرة عن رضى الحسن وتمام الصلح: "رأيت رسول الله (ص) على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يُقْبلُ على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: (إنّ ابني هذا سيد، ولعل الله أن يُصلِح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)". طار المسلمون، سنتهم وشيعتهم، بهذا الحديث شرقاً وغرباً، فهو في رأيهم حديث صحيح لا يقبل الشك في نسبته ومصدره الأول. واستخدموه لصالح أغراضهم المذهبية والسياسية أيضاً. ورغم كل هذا الزخم فيما يخص هذا الحديث بالذات، لم يقف أي أحد ليستقرئ التاريخ وحوادثه مع متن هذا النص. فالحديث ينص بأن قول النبي هذا عن الحسن بن علي كان على المنبر في جموع المسلمين، وهذا يعني أن هذا الحديث (النص) يجب أن يكون معروفاً لديهم ومتواتراً أيضاً في نقله عن النبي محمد. ولكن الملاحظ عندما اختلف المسلمون يوم سقيفة بني ساعدة، لم يقف أي أحد من "الفئتين" ليطلب من الحسن أن يُصلح بينهم. وعندما عيّن عمر بن الخطاب رجال الشورى الستة ليختاروا من يخلفه، جعل ابنه عبدالله بن عمر مُشيراً على هؤلاء الصحابة ولم يطلب أي أحد الحسن ليكون مشيراً أو مُصلحاً في حال الاختلاف. وعندما ثار أهل مصر على عثمان وقدموا المدينة، لم يطلب عثمان ولا المصريون ولا أهل المدينة الحسن ليُصلح بين الفئتين، حتى انتهى بعد ذلك عثمان قتيلاً في داره. وعندما خرج طلحة والزبير والسيدة عائشة يقاتلون علياً في معركة الجمل، كان الحسن في صف أبيه، ولم يطلب أحد منه أن يُصلح حتى بين جنديين اختلفا دع عنك الفئتين. وكان الحال نفسه في معركة صفين والنهروان، بل إنه عندما أراد علي بن أبي طالب أن يبعث للخوارج من يحاججهم ويقنعهم بخطأ رأيهم بعث بابن عمه عبدالله بن العباس ولم يكن الحسن حتى مرافقاً معه. وعلى ما اشتهر به الخوارج من العبادة والالتزام بالنصوص، لم يطلب أي أحد منهم الحسن ليُصلح بينهم وبين أبيه. والحقيقة هي أن الحسن بن علي منذ ولادته وحتى سنة 40 للهجرة كان شخصاً شبه غائب في كل الحوادث التي عصفت بهذه الفترة. بل الحسن بن علي نفسه، الذي تقول الرواية أنه كان واقفاً بجانب جده النبي محمد عندما نطق بالحديث الذي رواه لنا أبو بكرة، كان لا يعرف هذه الرواية عن نفسه. فهو لم يروها أصلاً، ولم يحتج بها على خصومه، ولم يذكرها أي أحد ضمن معسكره، بل قد غضب عليه جيشه عندما لمَّحَ لهم بالصلح حتى هاجموه وطعنوه في فخذه، ثم اتهموه بأنه "مُذل المؤمنين"، وفي كل هذا لم يرو لهم الحسن أبداً، ولا مرة واحدة، حديث النبي محمد الذي من المفترض أنه شهده مع جموع المصلين في المسجد النبوي. ومن الطريف أن علي بن أبي طالب، والد الحسن، لا يعرف أيضاً أن ابنه سيد، وليقول عنه أمام جمع من الناس: "أما الحسن فصاحب خوان، وفتى من الفتيان، ولو قد التقت حلقتا البطان لم يُغن عنكم في الحرب حثالة عصفور"، وكأن علياً كان ينظر للغيب من وراء ستار رقيق.
حديث (ابني هذا سيد) المنسوب للنبي في كتب الصحيح، والذي رواه أبو بكرة، هو حديث يندرج تحت بند التنصيص السياسي [لأمثلة رائعة عن التنصيص السياسي انظر كتاب: السلطة في الإسلام، عبد الجواد ياسين]، وغرضه تثبيت شرعية الصلح الذي قام به معاوية مع الحسن، وبالتالي اثبات شرعية الخلافة الأموية الناشئة بقيادة معاوية. وهذا يعني أن شرعية الصلح الذي قام به الحسن كانت تواجه مشكلة حقيقية في نظر عامة المسلمين على عكس نصوص التاريخ الإسلامي الذي سمت هذا العام (عام جماعة). هذا النقص في الشرعية لصلح الحسن نجد أصداؤه عند الجاحظ عندما كتب عن هذا الصلح: "ما كان عام جماعة ، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الذي تحولت فيه الإمامة مُلكاً كسروياً ، والخلافة غصباً قيصرياً". فعلى الحقيقة، لا الحسن (سيد)، ولا الحديث صحيح، ولا الرواية الإسلامية للحدث في (عام الجماعة) دقيقة.
روى أبو بكرة أيضاً، والحديث في صحيح البخاري، الحديث التالي: "عن أبي بكرة قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله (ص) أيام الجمل [يقصد موقعة الجمل، بين علي من جهة وطلحة والزبير والسيدة عائشة من جهة أخرى]، بعد ما كدتُ أنْ ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم. قال: لما بلغ رسول الله (ص) أن أهل فارس قد مَلَّكوا عليهم بنت كسرى، قال: (لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة)". فأبو بكرة لم يثنه عن عزمه هذا إلا حقيقة تواجد السيدة عائشة ضمن ولاة الأمر في تلك المعركة. كما أن أبا بكرة، الذي كاد أن يلتحق بمعسكر السيدة عائشة، قد تم سؤاله في موضع آخر عن سبب امتناعه عن القتال معها، وكانت اجابته هذه المرة: "سمعتُ رسول الله (ص) يقول: (يخرج قوم هلكى لايفلحون، قائدهم امرأة في الجنة)". وهذا بدوره يقودنا إلى ملاحظة جديرة بالتنويه عنها، وهي أن الأحاديث المنسوبة للنبي ذات الطابع السياسي من الممكن جداً ترتيبها زمانياً من حيث أول توقيت بروزها على الساحة الروائية الشفهية. فكل هذه الأحاديث تبدو مرتبطة، بدرجة ما، بالأحداث التاريخية المتصارعة التي تدور حولها. كما أن الدراسة النقدية لمتون الحديث المنسوب للنبي تبدو في أحيان كثيرة صالحة لنقد الرواية التاريخية التي أرّخت للفترة الممتدة من قتل عثمان حتى بداية تدوين الحديث، لأن متن الحديث المنسوب للنبي ما هو على الحقيقة إلا ردة فعل واعٍ ومقصود ومتعمد على الحَدَث السياسي وناتج عنه. وبالتالي، فإن المتن يحمل آثار الحَدَث وبعض تفاصيله، وهو يؤدي إلى تغليب رواية محددة للحَدَث على رواية أخرى أو حتى تنقيح الرواية ذاتها لصالح احتمال راجح آخر. فحديث أبي بكرة أعلاه الذي ينسبه للنبي (لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة) يشي بحجم المسكوت عنه في دور السيدة عائشة في معركة الجمل ومقدماتها. فعلى العكس مما تصوره الروايات من أن الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله قد "خرجا"، كذا، بالسيدة عائشة إلى معركة الجمل، وأنهما حاولا تمويه الحقيقة عنها حتى لا ترجع إلى المدينة وتتركهما، إلا أن حقيقة متن الرواية التي ينسبها أبي بكرة إلى النبي (ولّوا أمرهم امرأة) تُعطي السيدة عائشة دوراً أكبر بكثير مما تقصُّه علينا بعض الروايات التاريخية. فـ "تولية الأمر" هو محيط كامل من المهام لا يتناسب مع حجم الدور التي تُصر عليه الرواية التاريخية والفقهية للحَدَث. فأغلب الروايات تصر على تغييب شبه كامل لدور السيدة عائشة، بينما نص الحديث المزور المنسوب للنبي محمد أو حتى الرواية المخترعة، هُما إبنا زمانهما بالضبط وخرجا من رحمهما ولا بد وأن يحملا آثاراً من نوع ما لحقيقة الحَدَث أو الجزئية التي يراد لها أن تتحور وتتبدل لصالح أخرى. فالرواية المخترعة موجهة أصلاً لأبناء زمانها، الذين عايشوا الحدث وتفاصيله، ويراد لهم أن تتبدل قناعتهم، ولا شأن لهذه الرواية بأبناء المستقبل ولا قناعاتهم، فهم خارج اهتمامها أصلاً. ولهذا السبب هي تحمل قيمة من حيث أنها تحتوي بذرة الحقيقة وبعض تفاصيله حتى تحمي نفسها من الرفض والتكذيب. فالبخاري يروي في صحيحه أيضاً هذه الرواية: "لما صار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، بعثَ علي [بن أبي طالب] عمار بن ياسر والحسن بن علي، فقَدِما علينا الكوفة فصعدا المنبر، فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه وقام عمار أسفل من الحسن. فاجتمعنا إليه، فسمعت عماراً يقول: إن عائشة قد سارت إلى البصرة، والله إنها لزوجة نبيكم (ص) في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياهُ تطيعون أم هيَ". وإن كان هدف هذا الحديث المباشر هو حماية السيدة عائشة من أي سبيل للطعن، فإنه من جهة أخرى يضعها في موضع متوافق مع حديث أبي بكرة السابق. فـ (إياه تطيعون أم هيَ) متوافقة تماماً مع (ولّوا أمرهم امرأة)، والطاعة جزء واجب من تولية الأمر، كما أن (عائشة قد سارت) تناقض تماماً الرواية التاريخية والفقهية الإسلامية اللاحقة في الزمان التي تُبرز طلحة والزبير في الحَدَث بدلاً منها وتقلل من شأن دورها في تلك الأزمة السياسية في التاريخ المبكر للإسلام. فليس طلحة والزبير قد "خرجا" بأم المؤمنين، ولكن "عائشة قد سارت" وتبعها من معها أولى بحقيقة الواقعة. وهذا يقودنا بالتالي إلى إعادة النظر ليس فقط في دور السيدة عائشة السياسي، ولكن في المفاهيم الشائعة عن دور المرأة في التاريخ المبكر للإسلام.
#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مشكلة الإيحاء الجنسي في إنجيل يوحنا
-
صراع
-
معارك الله
-
مقالة في طقس الإفخارستيا – أكل الله
-
رقص الجريح
-
المسيحية وحوادث أكل لحوم المسلمين
-
في مشكلة تعاليم يسوع الإنجيلي
-
إشكالية العقل السلفي العربي
-
في طبيعة العلاقة بين الفرد والدولة
-
عندما نفقد خارطة طريقنا
-
مشكلة اليهودية والجغرافيا عند كتبة الإنجيل
-
من إشكاليات قصة يسوع الإنجيلي
-
التناقضات الأخلاقية عند يسوع الإنجيلي
-
هل هذه صلاة أجر ومغفرة؟
-
في إشكالية الشعوب العربية
-
سؤال غير بريئ لما يسمى ب -القوى الشبابية- في الكويت
-
بصراحة … رأيي في أحداث مسيرة يوم الأحد
-
كلمة قصيرة لمن يخاف -ثورة- في الكويت
-
لأنكم مجتمع يمثل شذوذاً في كل شيء
-
حتمية الصدام بين المنهج السلفي والدولة المدنية
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|