خالد الحروب
الحوار المتمدن-العدد: 3768 - 2012 / 6 / 24 - 15:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قبل عدة سنوات استبشر كثيرون بإعلان محمد حسنين هيكل اعتزاله الكتابة بعد عقود طويلة من ممارستها, صحافة وكتبا. كان ذلك قرار حكيما متسقا مع ما تفترضه طبائع الامور والحياة في كل حالة يتحول معها الاستمرار في ممارسة ما, خاصة الكتابة, الى حالة سوريالية تجمع التدمير الذاتي الى تزييف الوعي العام. تتضاعف حكمة قرار الاعتزال عندما تحدث في الوقت الملائم, كإعتزال لاعبي كرة القدم وهم في قمة عطائهم. وعندما يتأخر الاعتزال عن الوقت الملائم تتطور الاعتلالات الى انحدار سريع. بعض الكتاب يستمرون في العطاء حتى اللحظة الاخيرة من حياتهم وتظل افكارهم مشعة ومتزنة ومواكبة لتغير الزمن. البعض الآخر ينغلق في زمن معين, او حقبة تاريخية ما, او تجربة محددة, ثم يعمد الى حشر السياسة والتاريخ والتحليل وكل ما هو مستجد ضمن المنظور الضيق الذي اعتاد عليه, ووقع سجينا له. هناك طبقة عريضة من الكتاب والمفكرين الذين عاشوا حقبة الحرب الباردة واستعارها بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ما تزال حبيسة تلك الحقبة وحساباتها السياسية والاستراتيجية. في تلك الحقبة الدول لم يُنظر لها سوى بكونها وحدات جغرافية وسياسية مصمتة تتحدد قيمتها في "سوق" الصراع القطبي بحسب تبعيتها وخدمتها لهذا القطب ام ذاك. آنذاك لم يكن هناك اي اهتمام بما هو داخل الدولة, بالشعب وحرياته وطموحاته, إلا بالقدر الذي تؤكد قواه على استدامه نمط التبعية الخارجي. لكن غالبا من كان قرار تبعية هذا القطب او ذاك محصورا بالنخبة السلطوية المستبدة. قامت انظمة كثيرة بجرائم هائلة ضد شعوبها, لكن لم يتدخل العالم لإستحالة القيام بذلك, ولأن اي تدخل سوف يصنف على انه اعتداء من معسكر على المعسكر الآخر.
في العشرين سنة الماضية سارت مياه كثيرة تحت جسور السلطوية والسيادة ورفض "التدخل الخارجي" حتى لو قام نظام ما بإبادة شعبه. تطورت مسؤولية عولمة مشتركة تتداخل فيها آليات الاعلام الكاشف مع المنظمات الدولية والحقوقية وجميعات حقوق الانسان غير الحكومية, والمؤسسات الاكاديمية, وغيرها من مؤسسات قومية او عابرة للقوميات تلتقي كلها في مربع مكافحة الاستبداد الانتصار للحرية والضغط على الدول الكبرى لتضمين الانحياز للقيم على جانب الانحياز للمصالح.
هيكل بقي اسير الزمن الناصري والسوفياتي. في كتبه وبرامجه التلفزيونية التي انتزع اجرا خياليا من ورائها, وهي غير ذات قيمة تحليلية حقيقية. كثير من تلك "التحليلات" لم تتعدى "حواديت" مقاهي فيها جزء يسير من التأريخ الحديث ونتفا من التوثيق, لكن جلها الكاسح وجهات نظر شخصية خلافية لا تدعمها الشواهد بقدر ما يزوقها الإنشاء والاستناد إلى سرديات فردية لا يستطيع احد التأكد من صحتها من قبيل :حدثني الرئيس سين وقال ..., وأسرّ لي الملك صاد بأن .., وعندما اجتمعت مع القائد عين ذكر لي .... الطريف والمخجل في عملية التخريف التأريخي هذه ان هيكل لا يذكر حكاياته مع القادة سين وصاد وعين وكثير ممن يروي عنهم إلا بعد وفاتهم, بحيث يستحيل التأكد من موثوقية اي من مروياته.
مؤخرا قدم هيكل مساهمة اخرى وجديدة في الدفاع المباشر او المُستتر عن النظام الاسدي وجرائمه الابادية في حق الشعب السوري. في هذه المساهمة ينتقد هيكل البيان الذي وقّعه عدد من المفكرين والمثقفين في مصر، يطالبون فيه بمقاطعة بضائع روسيا والصين، بسبب استخدام الدولتين حق النقض ضد مشروع قرار يتعلق بسوريا في مجلس الأمن. وهو يرى ان الموقف الطبيعي هو ان نقدم الشكر لهاتين الدولتين بسبب ذلك الفيتو «حتى إذا كانوا يتخذونه لصالح مطالبهم الاستراتيجية، فذلك ما يفعله أي طرف قوي، لكنهم خُدِعوا مرة قبل ذلك في ليبيا، فقد أجازوا في مجلس الأمن قراراً أخذوا الوعود والعهود بأنه سوف يظل في حدوده، وأهمها أن القوة العسكرية الأوروبية الأميركية لن تُستَعمل في ليبيا».
وتابع: «لكن هؤلاء راوغوا وتدخلوا بقواتهم، وبقوات خاصة نزلت على الأرض، وكانت هي التي فتحت طريق طرابلس، وليس لنا أن نلومهم إذا رفضوا أن يُلدَغوا من نفس الجُحر مرتين»"
مقولات هيكل, القومي العربي, يجب ان تقوده الى محاكمة فكرية في محكمة العروبة التي يدافع عنها والعرب الذين يزعم الحرص عن مصالحهم. في تصريحاته المتعددة حول سوريا الغائب الاكبر هو الشعب السوري وثورته وانتفاضته التاريخية على الطغيان والدكتاتورية. والحاضر الاكبر هو "المخططات الاستراتيجية" و"الغرب" و"التآمر". لا يهتم هيكل بتحول سوريا الى ميدان صراع للدول الكبرى بسبب روسيا والصين ويقول ان من حقهم ان يدافعوا عن مصالحهم الاستراتيجية. لكن لا يفسر لنا هيكل لماذا يدفع الشعب السوري وسوريا الثمن الباهظ من تدمير بلادهم وحشر خياراتهم بين القبول بإستمرار الاسد او استمرار نظامه على الطريقة اليمنية؟ ليس هناك ادنى تعاطف من قبل هيكل مع الشعب السوري. "مصباح ديوجين" في التحليل الاستراتيجي الذي يتبناه هو "حتمية" الوقوف على الطرف المضاد من الموقف الذي تتخذه ضد الولايات المتحدة, حتى لو ادى ذلك الى ابادة الشعب السوري. ليس هناك من ساذج يدعي ان تدخل الولايات المتحدة والغرب عموما في المنطقة قبل وبعد الربيع العربي يأتي من منطلق القيم والحرص عليها. كلنا يعرف ان هناك مصالح تحرك الدول الكبرى في كل المراحل, ومنها مرحلة الربيع العربي, إذ الكل يحاول تدوير الريح بإتجاه سفنه. والذين "يكتشفون" ان الغرب يتدخل في المنطقة بسبب مصالحه يقدمون لنا نكتة سمجة, او يقدمون انفسهم نكتة للآخرين. على كل حال, يريد هيكل من الشعب السوري ان يقدموا ارواح ابنائهم فداء للمصالح الاستراتيجية الروسية والصينية, ولا يقول لنا لماذا وعلى اي اساس؟ لا يقول لنا هيكل لماذا اتصفت السياسة الروسية والصينية بالجمود والكسل وتفويت الفرص خلال وبعيد الثورة التونسية والمصرية, وقد وقعتا في اهم مواقع النفوذ والتحالف الامريكي الغربي في المنطقة؟ لماذا لم تقفزا وتحتلا مناطق نفوذ جديدة وتؤيدا الثورات وتضعفا النفوذ الامريكي هناك؟ لا احد يملك الجواب, لكن جزءا منه على الاقل يكمن في ان بكين وموسكو تخشيان الثورات وقد تحولت الانظمة فيهما الى محض استبداد كاره للديموقراطية الحقيقية والحرية. بكين وموسكو تريدان بلدان عربية قائمة على السلطوية والدكتاتورية يمكن التعامل معها من دون المرور بالإرادة الشعبية عن طريق الانتخابات او الحريات, لذلك دعمتا القذافي والاسد لأن هناك تشابها قويا في شكل النظام السياسي. الشعب في كل الحالات هو آخر اهتمامات "العملاقين", وكلاهما للمفارقة المريرة سليل ثورة طاحنة في القرن العشرين قامت لتدافع عن الشعب وتعلي من قدر الارادة الشعبية.
هيكل يتبنى الموقف الروسي الذي رأى ان التدخل الاممي في ليبيا تجاوز حدود التفويض في استخدام القوة العسكرية. "الخداع" الذي تشعر به موسكو وبكين يكمن في ان ذلك التدخل انتهى بمقتل القذافي وسقوط نظام حكمه وعائلته وبالتالي سقوط حليف لهما في المنطقة. مرة اخرى لم يكن هم الروس والصينين طموحات وتطلعات الشعب الليبي وتوقه للحرية. لو لم يكن التدخل الاممي حاسما وبالطريقة التي كانها, لاستمر القذافي في مجازره ضد الليبين حتى هذه اللحظة عوض ان تنتهي في اسابيع وتوفر دماءً كثيرة.
التخريف في الحديث عن الماضي مضر بطبعية الحال لأنه يبني ماض مُتخيل ولم يقع ويؤثر في الحاضر ويخدع الوعي. لكن التخريف في الحديث عن الحاضر هو الاكثر تدميرا وخرابا, وهو امر متوقع ذلك ان إعادة تركيب الماضي بشكل مجتزأ يمتد الى الحاضر ويحشره في المنظور الجزئي والضيق الذي تم وفقه بناء الماضي. وهكذا يصير الحديث في السياسة والتاريخ والاستراتيجيا ضحية الأدلجة والموقف المُسبق وليس حديثا بارداً مكوناته الاساسية المعطيات والعناصر الموضوعية. واستنادا على منطلقات كهذه لم يكن غريبا ان يخرج هيكل قبل عدة شهور بتصريح عريض يقول فيه ان عدة آلاف من "البلاك ووترز" موجودون في سوريا, ولم نعرف لماذا وكيف ومن ارسلهم ومن يخدمون. شركة البلاك ووترز الامنية سيئة السمعة اشتغلت في العراق في خدمة النظام القائم حاليا. والنظام في العراق هو الآن اشد المساندين لنظام بشار الاسد فكيف تكون "البلاك ووترز" في خدمة النظام في العراق وفي خدمة اعدائه في سوريا؟ والمُدهش ان هذا "الإكتشاف" المُذهل انجز من قبل هيكل في وقت فشل فيه الاعلام العربي والعالمي كله في رصد واحد من اولئك الالوف, وهو الاعلام الذي لم يترك شاردة او واردة في الشأن السوري الى وعالجها.
#خالد_الحروب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟