|
صورة المعلم في قبضة الجلاد
أحمد الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 3722 - 2012 / 5 / 9 - 17:43
المحور:
أوراق كتبت في وعن السجن
تلك الصورة البعيدة والغائمة حيث يتجمع ويتوقف العالم
في تلك الأيام من صيف عام 1979 القائظ والبعيد عنا، كنت أدور بين معتقلات بغداد الرهيبة، التي كان آخرها وأخطرها معتقل الأمن العام الرهيب، بعد تسلسل تصاعدي حسب تراتبية مرجعيات الدوائر القمعية، فقد جرى اعتقالي يوم 19 تموز أي بعد يومين من استلام صدام حسين رئاسة السلطة، بعد إزاحة البكر بالطريقة البعثية المعروفة، وحصل الاعتقال أثر خيانة رخيصة وسريعة من خائن معروف. كنت معصوب العينين أدور مع آلاف المعتقلين من الشيوعيين والديمقراطيين وغيرهم من ضحايا الاستبداد والفاشية، وقد اكتظت بنا الغرف والعنابر الحديدية الجماعية والزنازين الفردية والممرات، وربطوا بعضنا بقناني الغاز الثقيلة تحت السلالم (كما حصل لي ولرفاق آخرين عام 78 في مديرية أمن الناصرية) وفي الأقبية الرطبة والخانقة، أنه الجو الحقيقي الموحش للكراهية والعنف ورائحة الموت المنبعثة من أرجاء المكان، وأساليب التعذيب والبطش والإذلال الهمجية وهيجان المحققين القتلة وهم يطرحون أسئلة لا تنتهي في كل الأوقات والظروف، وكنا كالسردين المحشور في علب ضيقة وعفنة، ببقايا أجسادنا المحطمة وأعمارنا المهددة بالإيقاف الفوري من قبل غلاة الجلادين وهم من سلالة جلادي قصر النهاية القذرين وقطعان الحرس القومي الفاشي. لقد اعتقلت في الباب الشرقي في بغداد ونقلوني إلى مديرية أمن الأعظمية، حيث تعرضت للتعذيب والتحقيق الأولي والسريع، ثم نقلت إلى أمن السراي وتعرضت لتعذيب وحشي مكثف، لا يطاق ولا يصدق، وعرفت إن محنتي مع التعذيب سوف لن تتوقف ولن تنتهي، وأن أمري ووضعي الحقيقي سوف ينكشف لهم، حيث كنت قد أخفيت هويتي الحقيقية عنهم، عندها قررت وضع نهاية لحياتي وأن أحافظ على الأسرار التي أحملها معي، وأحمي حياة الرفاق والأصدقاء الذين اعرفهم، وهكذا فعلت ونفذت قراري الخطير والقاتل، وقد أنقذوني بالصدفة بعد انكشاف حالتي لهم، ربما ليعرفوا مني وعني ما يريدونه وليس للحفاظ على حياتي، لأنني محكوم بالإعدام بقوانين سابقة! بعدها نقلت إلى مديرية أمن بغداد، بسيارة إسعاف مموهة، حيث واجهت جولات جديدة من التعذيب والتحقيق، وكنت في حالة صحية يرثى لها، إذ لم أكن أقوى على الحركة أو الوقوف، ولم أعد أتحمل التعذيب إلا دقائق معدودة بعدها ادخل في نوبة غيبوبة خطيرة وتامة وأفقد علاقتي بالمحيط، وهم يعيدونني إلى الوعي على طريقتهم بسكب الماء البارد على رأسي مع الركلات العنيفة وسيل من الشتائم والسباب من قاموسهم البذيء! لأدخل في دوامة ثانية من الجحيم الذي لا ينتهي ولا يتوقف ولا يصل إلى نتيجة على حساب الجسد المحطم! في أحدى المرات وقد نقلوني للتحقيق وكنت انتظر السجان في الممر الطويل كي يأخذني (يسحلني) إلى غرفة التعذيب، كنت معصوب العينين لا أقوى على الوقوف، لذلك جلست على الأرض، وأخذت أسترق النظر( وهي عادة أو حركة طبيعية يلجأ أليها الإنسان والمعتقل كلما سمح الحال) من تحت الغمامة القذرة التي ربطوا عيني بها كي لا أتعرف على الجلادين والموقفين، ولكي يكون السجين مشلولاً وعاجزاً عن القيام بأية حركة أو أي رد فعل محتمل ضدهم. وقد لمحت في الممر عشرات الموقوفين الذين ينتظرون مصيرهم البائس، كنت أرى بسهولة أقدامهم المتورمة والممزقة نتيجة التعذيب الرهيب بالفلقة، والحز الغائر في الحجل، وهو لم يزل ثابتاً في قدمي، وأرى سحنهم وحالتهم الرثة وملابسهم الممزقة والدماء الطرية أو المتيبسة فوقها، وأنا استغل غياب الجلادين لأرى ما يدور حولي وسط الجحيم، رأيت أستاذي ورفيقي على عبد الكريم مدرس الاجتماعيات في مدينة الناصرية الذي درسني مادة التاريخ في متوسطة الناصرية، وهو إنسان رائع ومحبوب من الطلبة وأبناء المدينة، وهو الذي علمني حب دراسة التاريخ بكل طبقاته ومراحله وفصوله، وصولاً إلى علم الاجتماع، وكان واقفاً يرتدي قميصاً أبيض وبنطال أسود لكنه مغطى بالدماء من رأسه إلى أخمص قدميه، وكان حافياً وفي حالة مخيفة، ويبدو أنه تعرض لتعذيب طويل وقاس. عندها تداعت صورة المعلم الجميل والأنيق والمربي المحترم والمثقف الذي كاد أن يكون رسولا، أو هو رسول المعرفة الحقيقي، مع صورة الإنسان المسلوب المعذب والمقهور والذي لا يطرح الأسئلة بل عليه أن يجيب على أسئلة الفاشلين والجهلة والقتلة، إنها مفارقة أخلاقية وإنسانية بالغة الدلالة والتعبير عن لحظة مشوهة في تاريخ ومصير الإنسان وقد نقلت تلك المعلومات إلى الحزب في بغداد وكردستان بعد إطلاق سراحي. تذكرت ذلك الأستاذ المحبوب والمتمكن على عبد الكريم وهو يحاضر عن التاريخ ويعلم ويمزح ويطلق النكات، وصورته الحالية وهو في قبضة عبث التاريخ ورعبه!! كم تمنيت أن أدنو منه، أسأله، أمسح جراحة الدامية أطمأن عليه وعلى مصيره الآتي. لكن الجلاد سحبني بعيداً إلى جولة تعذيب دامية يختلط فيها طعم الدم والتراب في جسد ورح يسحقهما العنف المنفلت وتدوسهما الهمجية في أشرس معانيها إنها لحظات سريعة وصور متلاحقة لمشهد دموي، لكنها ثابتة وخالدة في سفر مقاومة الفاشية والاستبداد. لا أعرف بالضبط حال أستاذي الرفيق على عبد الكريم وقد سألت عنه ولم احصل على جواب واضح وشاف وقاطع، وها أنا انتظر الجواب من جديد، لنضيء شمعة لنا وسط الظلام الحالك السابق والحالي، ظلام العقود الجائرة والظالمة من أعمار الناس الأبرياء، ونحتفل بمقاومتنا ورفضنا للفاشية. كم مددنا هذا الوطن الجميل بطاقاتنا وعقولنا وعواطفنا الجياشة؟ وكم حميناه بدمائنا ومهجنا ومقلنا؟ وكم مددنا شراييننا (جسراً للموكب العابر)؟ عملنا كل ذلك بهدوء ومن دون منة ومن دون مقابل، إن هدوءنا يفضحهم. هل يمكن لأحد أن يتخلى أو يتنازل أو يخون تلك الصورة؟؟ وإذا ما خان فكيف سيكون؟ و(إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون! أيخون إنسان بلاده؟ إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟) وردة الأمل المعطرة لكل من تجاوز دهاليز المحنة الرهيبة وردة الأمل لنا. وسلاماً أيها المعلم والرفيق
* في معتقل امن بغداد الرهيب صيف عام 79 كان معي عدد كبير من الرفاق والأصدقاء المعتقلين، أذكر منهم، عبد الحسن، وكان طالباً في كلية الطب جامعة البصرة وزميل الشهيد حسن مرجان، وقد حاول مساعدة المعتقلين وتخفيف جراحهم وآلامهم الناتجة عن التعذيب الرهيب، ولا اعرف مصيره الآن. كذلك كان معي في المعتقل رفيق أسمه عبد الزهرة من مدينة الثورة يملك محل كعك ومعجنات في باب المعظم، وقد تعرض لتعذيب وحشي، فقد أدخلو في مؤخرته أنبوب مطاطي (صوندة) ثم سحبوه بشكل مائل وعنيف مما سبب له جروحاً وتهتكات خطيرة، كانت تسبب له آلام لا تطاق ليلاً ونهاراً، وفي حالات الجلوس العادية، وقد زرته في محله بعد إطلاق سراحنا ولا أعرف مصيره الآن أرجو منه الاتصال أو لمن يعرفه أن يكاتبني والشكر موصول مقدماً.
#أحمد_الناصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
توضيح حول علاقة مجزرة بشتآشان بمعارك باليسان واتفاقية ديوانه
-
كلمات عن الأول من أيار وذكرى مجزرة بشتآشان الرهيبة
-
الثورات العربية وطبيعة المرحلة الانتقالية
-
من السجن الى الكمين القاتل على طريق كويسنجق
-
التحرك الشعبي العربي وطبيعة ودور التدخل الخارجي
-
حول الوضع السياسي الحقيقي في بلادنا وليس الوهمي أو الافتراضي
-
الشهيد مؤيد عبدالكريم (حجي حامد) البطل الشعبي
-
عن جريمة اغتيال الرفيقين (سالم وزهير) من (تنظيم الشيوعيين ال
...
-
عن الشهيد داخل فرهود ومنتصر وجميع الشهداء
-
الراديو وتكوين الذائقة السمعية والفنية
-
قصة لوحة شهيرة واحدة وحالة كنوزنا الفنية القديمة والحديثة
-
بطاقة الى داخل فرهود الإنسان والشهيد والصديق
-
الوضع السياسي في بلادنا الطبيعة والنتائج ... وملاحظات وهوامش
...
-
2- هوامش على دفاتر الثورة المصرية
-
هوامش على دفاتر الثورة
-
الغياب : من قتل سمير هامش ، ولماذا قتلوه؟؟
-
عودة لمناقشة ( مشروع ) لجنة التنسيق اليسارية وقضايا أخرى
-
مساهمة جديدة في النقاش الدائر حول اليسار
-
غزة داخل المحرقة النازية الجديدة وفي حالة الإعدام الجماعي ال
...
-
بهدوء.. دفاعاً عن الوطني العراقي منتظر الزيدي الصحفي والإنسا
...
المزيد.....
-
دول تعلن استعدادها لاعتقال نتنياهو وزعيم أوروبي يدعوه لزيارت
...
-
قيادي بحماس: هكذا تمنع إسرائيل إغاثة غزة
-
مذكرتا اعتقال نتنياهو وغالانت.. إسرائيل تتخبط
-
كيف -أفلت- الأسد من المحكمة الجنائية الدولية؟
-
حماس تدعو للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية لجلب نتنياهو و
...
-
وزير الدفاع الإسرائيلي يوقف الاعتقالات الإدارية بحق المستوطن
...
-
133 عقوبة إعدام في شهر.. تصاعد انتهاكات حقوق الإنسان في إيرا
...
-
بعد مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت.. سيناتور جمهوري يوجه تحذي
...
-
قادة من العالم يؤيدون قرار المحكمة الجنائية باعتبار قادة الا
...
-
معظم الدول تؤيد قرار المحكمة الجنائية باعتبار قادة الاحتلال
...
المزيد.....
-
١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران
/ جعفر الشمري
-
في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية *
/ رشيد غويلب
-
الحياة الثقافية في السجن
/ ضرغام الدباغ
-
سجين الشعبة الخامسة
/ محمد السعدي
-
مذكراتي في السجن - ج 2
/ صلاح الدين محسن
-
سنابل العمر، بين القرية والمعتقل
/ محمد علي مقلد
-
مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار
/ اعداد و تقديم رمسيس لبيب
-
الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت
...
/ طاهر عبدالحكيم
-
قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال
...
/ كفاح طافش
-
ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة
/ حـسـقـيل قُوجـمَـان
المزيد.....
|