أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - -الحتمية الماركسية- و-نقيضها الدِّيني-!















المزيد.....

-الحتمية الماركسية- و-نقيضها الدِّيني-!


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 3694 - 2012 / 4 / 10 - 13:17
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



"الحُدُوث"، أيْ حُدُوث شيءٍ ما، حَيَّر الناس منذ القِدَم؛ وكان سؤال الحيرة (والدهشة) هو "لماذا؟"؛ "لماذا حَدَثَ هذا الشيء؟"؛ و"لماذا"، إنَّما هي دائماً سؤال "التعليل" و"التفسير"، أو السؤال الذي في إجابته نَقِفُ على "الأسباب"؛ فإذا عُرِف "السبب" بَطُل "العجب".

جهودٌ ذهنية (فلسفية، وغير فلسفية) مُضْنية بُذِلَت في سبيل فَهْم "الحُدُوث"؛ وكثيرٌ من باذليها أساءوا الفَهْم؛ وبعضٌ من "إساءة الفَهْم" أُريد له أنْ يستبدَّ بعقول الناس؛ فإنَّ "إساءة الفَهْم"، وإذا ما فَهِمْناها على هذا النحو، هي "نوعٌ من الفَهْم"، يَضْرب جذوره عميقاً في تربة "مصالح" بعض الناس.

وأعطت هذه الجهود ثماراً مختلفة، على هيئة "مفاهيم" و"عبارات" من قبيل "الحتمية"، و"الضرورة"، و"السببية"، و"القدرية"، و"المصادفة"، و"الممكن"، و"المستحيل"، و"كل شيء ممكن"، و"كل شيء منوط بإرادة الإنسان".

وبعض تلك "المفاهيم" التَبَس أمرها؛ فثمَّة مَنْ فَهِم "القدرية" و"الحتمية" على أنَّهما شيءٌ واحد، لا فَرْق في المعنى بينهما.

في "القدرية"، ومرادفها "القضاء والقدر"، كل شيء "مكتوب" و"مُقَدَّر" و"محتوم".. لا رادَّ له، ولا مَهْرَب منه، ولا يمكن اجتنابه وتلافيه.

و"القدرية" إنَّما هي "النظام الكوني الإلهي المُحْكَم"؛ فهذا الأمر حَدَث؛ لأنَّ حدوثه واجِب الحدوث.

وعبارة "واجِب الحدوث" يجب أنْ تُفْهَم بمعناها الإلهي؛ فلقد كان حدوث هذا الشيء واجِب الحدوث، إلهياً، فحَدَث.

حتى إرادة الإنسان "الحُرَّة" لن تشذَّ عن "القدرية"؛ ولا بدَّ من فَهْمِها على أنَّها هي أيضاً "جزء (لا يتجزَّأ) من نظام القضاء والقدر"؛ فهذا الأمر الذي اخْتَرْتَهُ أنتَ في "حُرِّيَّة تامَّة" كان مُقَدَّراً لكَ (إلهياً) أنْ تختاره، وكأنَّ المرء لا يَسْتَعْمِل "إرادته الحُرَّة"، و"يختار"، إلاَّ بما يجعله يُمارِس، أو يَلْعَب، "لعبة خداع (وإيهام) الذَّات (أيْ ذاته، ونفسه)".

"القدرية" يمكن ويجب فهمها، والنَّظر إليها، على أنَّها "حتمية"؛ فكل "قدرية" هي "حتمية"؛ لكن ليس كل "حتمية" يجب أنْ تكون "قدرية"؛ فإنَّ "الحتمية الماركسية"، أو "الحتمية التي تستمدُّ معناها من المادية والجدل في وحدتهما التي لا انفصام فيها"، هي النقيض لـ "القدرية"؛ وإذا كانت "القدرية" تقوم على إنكار "المصادَفة" فإنَّ "الماركسية"، أو "المادية الجدلية"، تقوم على مبدأ "الوحدة التي لا انفصام فيها بين الضرورة والمصادَفة"؛ فـ "الضرورة الخالصة من المصادَفة"، و"المصادَفة الخالصة من الضرورة"، إنَّما هما شيئان لا وجود لهما.

وتوصُّلاً إلى فَهْم، وحُسْن فَهْم، كل ذلك، تأمَّلوا، الآن، الأمثلة الآتية:

في "هذا" الوقت، وفي "هذا" المكان، كان "هذا" الرَّجُل (واسمه زيد مثلاً) يمشي، فإذا بصخرةٍ (أو بـ "هذه" الصخرة) تسقط من سطح "هذه" البناية، فتَشُج رأسه، فيَسْقُط صريعاً.

في "القدرية"، لا وجود لـ "المصادَفة" في هذا الحادث؛ فحتَّى "السبب" الذي جَعَل "هذه" الصخرة" تتحرَّك من مكانها، وتسقط، وفي "هذا" الوقت، كان "مُقَدَّراً (مكتوباً)"؛ وبهذا المعنى، نَفْهَم "القدرية" على أنَّها "حتمية".

أمَّا في "المادية الجدلية" فنَفْهَم هذا الحادث على أنَّه اجتماع (واتِّحاد، وتَداخُل، واندماج) الضرورة والمصادفة؛ ونرى الضرورة وهي تتجلَّى، وتَظْهَر، عَبْر (من خلال، من طريق) سلسلة من المصادفات.

أين هي "الضرورة" في هذا المثال، أو الحادث؟

إنَّها تكمن في "الفِعْل" و"عاقبته"؛ فـ "الفعل" هو "جسمٌ ثقيل يَضْرِب بقوَّة رأس كائن حيٍّ"؛ و"العاقبة" هي "أذى يصيب الرأس"، و"قد" يتسبَّب بموت صاحب الرأس المصابة.

وهذا الأمر ليس من قبيل أمْرٍ يمكن أنْ يحدث، أو لا يحدث؛ فأيُّ جسم ثقيل يَضْرِب بقوَّة رأس كائنٍ حيٍّ (غير محمية) لا بدَّ له من أنْ يُلْحِق ضرراً، أو أذى، بهذه الرأس؛ و"قد" يتسبَّب هذا الضرر، أو الأذى، بوفاة صاحب الرأس المضروبة.

وعند تأمُّل هذه "الضرورة"، أو "الصِّلة السببية (بين الضَّارِب والمضروب)"، لا نَقِف على فَرْق جوهري بينها وبين "الضرورة"، أو "الصِّلة السببية"، في مثال حجرٍ، تقذفه في الهواء، فيرتفِع، ثمَّ يسقط أرضاً.

إنَّ هذا الحجر لا يمكن أنْ يظلَّ معلَّقاً في الهواء؛ فهو ينبغي له (إذ قُذِف بقوَّة ما) أنْ يرتفع، وأنْ يسقط أرضاً بعد ذلك.

وفي مثال "حَبَّة الشعير" الشهير، نقف على كثيرٍ من معاني: "الضرورة"، و"المصادَفة"، و"التطوُّر الذاتي (للشيء)".

إنَّ لهذه الحَبَّة "دورة حياتها الطبيعية"، فهي "تُنْفى"، بصفة كونها "حَبَّة"؛ ومن طريق نفيها تتحوَّل إلى "نبتة"؛ وهذه النبتة تنمو وتختلف وتتغيَّر؛ لكن بما يبقيها محتفظةً بماهية النبتة؛ وفي آخر المطاف، تُنْفى، بصفة كونها "نبتة"؛ ومن طريق نفيها تتحوَّل إلى "حبَّات شعير (سنبلة)". وهذا "النفي الثاني" هو ما يسمَّى "نفي النفي".

في هذا المثال، نَقِف على معنى "التطوُّر الذاتي (الطبيعي، الحتمي)" للشيء، أيْ لكل شيء، ولكل ظاهرة.

ومعناه، على ما يتَّضِح لنا، إنَّما هو "العودة إلى نقطة الانطلاق"؛ لكن على نحو مختلف، وبما يجعل هذه العودة تُمثِّل درجة أعلى في سُلَّم التطوُّر للشيء نفسه؛ فالشيء الذي يُنْفى؛ لكن من غير أنْ يفضي نفيه، في آخر المطاف، إلى عودته إلى الوجود، ثانيةً، على نحوٍ مختلف، وفي مستوى أعلى من التطوُّر، إنَّما هو شيء تعرَّض إلى ما يُفْسِد (ويُوْقِف، ويمنع) تطوُّره الذاتي (الطبيعي، الحتمي، الحلزوني، أو اللولبي، الشكل والمسار).

لكنَّ "التطوُّر الذاتي" للشيء ليس بالأمر الذي لا أثر فيه لِمَا يشبه "إذا الشرطية"؛ وفي المثال نفسه، نَقِف على "إذا الشرطية" وهي تتكرَّر؛ فـ "حبَّة الشعير" لا تُنْفى نفياً جدلياً (طبيعياً) إلاَّ إذا كانت "صالحة (للنموِّ)"، وزُرِعَت في تربة ملائمة لنموِّها، وتهيَّأت لها أسباب النموِّ الأخرى كالحرارة والرطوبة.

وهذا إنَّما يعني أنَّ هذه الشروط، وغيرها، هي جزء لا يتجزَّأ من مفهوم، أو عملية، "التطوُّر الذاتي (الطبيعي، الحتمي)" للشيء، أو لحبَّة الشعير في مثالنا، والذي في مرحلته الأولى نرى "النبتة" تَخْرُج من حبَّة الشعير "تلك"، وتحلُّ محلها؛ لقد خَرَجت (وانبثقت) من "الحبَّة"، ورغماً عنها.

و"النفي الجدلي" ليس بـ "النفي الخالص"؛ ليس بـ "الإلغاء التام"؛ فنفي النبتة للحبَّة إنَّما يعني أنَّ النبتة "تغلَّبت على الحبَّة"، و"حافظت عليها، في الوقت نفسه".

وفي "نفي النفي"، أيْ "حبَّات الشعير"، نرى، ويجب أنْ نرى، شيئاً من الاختلاف (الذي بعضه كمِّي، وبعضه كيفي) بين هذا الطَّور والطَّور الأوَّل (حبَّة الشعير المزروعة).

"الضرورة (والحتمية)"، في مثالنا هذا، إنَّما هي "هذا" التطوُّر" لحبَّة الشعير "هذه"؛ فحبَّة الشعير المزروعة، والمستوفية لشروط نموِّها، التي أتَيْنا على ذِكْر أهمها، لا بدَّ لها من أنْ تُنْفى بـ "النبتة"، التي لا بدَّ لها من أنْ تُنْفى بـ "حبَّات شعير".

وإذا كان هذا هو معنى "الضرورة (أو الحتمية)"، فما هو معنى "المصادفة"، في المثال نفسه؟

نقِف على معناها في "ريحٍ عاتية، هبَّت بغتةً، فاقتلعت حبَّة الشعير من تربتها"؛ فهل هذا الذي حَدَث هو جزء من "التطوُّر الذاتي (الطبيعي، الحتمي)" لحبَّة الشعير (المزروعة)؟

كلاَّ، ليس بجزء منه.

لكن هذا "الحادِث ـــ المصادفة" هو، أيضاً، "ضرورة"؛ فهو ما كان له أنْ يحدث، وأنْ يحدث على هذا النحو، لو لم تجتمع وتتهيَّأ أسباب حدوثه.

لقد أوضحنا معنى "الضرورة (أو الحتمية)" في مثال "حبَّة الشعير المزروعة"؛ لكن هل هذا التطوُّر الذاتي والطبيعي والحتمي لهذه الحبَّة يخلو تماماً من "المصادفات"؟

كلاَّ، لا يخلو؛ فإنَّ "مصادفات كثيرة" هي التي تُكْسِب حبَّة الشعير، مع نموِّها، كل ما يجعلها كـ "بصمة الإبهام"، أيْ نسيج وحدها. إنَّ حبَّة الشعير، وفي أثناء نموِّها، وتحوُّلها إلى نبتة، وتحوُّل هذه النبتة إلى سنبلة، تأثَّرت بكثير من الأشياء التي هي من جِنْس "المصادفة"، فكان أنْ نمت الحبة والنبتة على هذا النحو المخصوص، فـ "الفردي" من السمات هو من صُنْع "المصادفة".

وفي أثناء نموِّها تعرَّضَت أيضاً لتأثيرات سلبية وضارة؛ لكنَّ هذه التأثيرات لم تقوَ على وَقْف هذا النمو؛ فرأيْنا "الحتمية" وهي تشق طريقها، متغلِّبة على كثيرٍ من "المصادفات" الضارة.

في تطوُّر شيء ما، نرى "السرعة" أو "البطء"، "السهولة" أو "الصعوبة"، في بلوغ الشيء درجة ما في تطوُّره؛ وفي هذا، فحسب، يكمن تأثير كلَّ "عاملٍ خارجيٍّ"، أيْ كلَّ عاملٍ ليس بجزء من ذات الشيء (أو الظاهرة). إنَّ الشيء (كلُّ شيء) يتطوَّر "ذاتياً"؛ أمَّا الزمن الذي يستغرقه تطوُّره (أيْ تغيُّره تغيُّراً مخصوصاً) فهذا ما يتحدَّد ويتعيَّن بـ "العوامِل الخارجية".

و"التطوُّر الذاتي (التلقائي، الطبيعي، الحتمي)" للشيء ليس بالأمر المُسْتَغْلَق على الفهم، وإنْ بدا كذلك؛ فنحن يكفي أنْ نفهم "التطوُّر"، أو"التغيُّر"، على أنَّه "تحوُّل الشيء (حتماً) إلى نقيضه" حتى يَسْهُل الفهم، ويتيسَّر.

إنَّنا نُدْرِك حسِّيَّاً أنَّ "هذا" الشيء قد "تغيَّر" الآن؛ فما معنى ذلك؟

معناه (بكل بساطة) هو أنَّ هذا الشيء كان "ساكناً"، مثلاً، فـ "تحرَّك"؛ كان "بطيئاً" فـ "أسْرَع"؛ كان "طويلاً" فـ "قَصُر"؛ كان "حارَّاً" فـ "برد"؛ كان "متِّحداً" فـ "انفصل"؛ كان "مضيئاً" فـ "أظْلَم"؛ كان "خشناً" فـ "نَعُم"؛ كان "متمدِّداً" فـ "تقلَّص".

وفي هذا فحسب (أيْ في تحوُّل الشيء إلى نقيضه، وإليه فحسب) يكمن معنى "التطوُّر"، أو "التغيُّر"؛ فهل تستطيع أنْ تتحدَّث عن "تَغَيُّرٍ" بغير هذا المعنى؟!

قد تقول إنَّ من السهولة بمكان أنْ نفهم التطوُّر على هذا النحو في مثالٍ من قبيل أنَّ هذه الكرة الموجودة في حالة "سكون" على سطح الطاولة قد أصبحت الآن في حالة "حركة"، أو أنَّ هذه الشمعة المضيئة قد تحوَّل نورها إلى ظُلْمة؛ لكن كيف نفهم تحوُّل كومة من "الجليد" إلى "ماء (سائل)" على أنَّه كتحوُّل "السكون" إلى "حركة"، و"النور" إلى "ظلام"؟

في الإجابة، نقول أمْعِن النَّظر في "الجليد" و"الماء" فتَجِد (إضافةً إلى ما بينهما من أشياء مشترَكة) تضاداً في الخصائص، فالجليد، مثلاً، له شكل "ثابت"؛ أمَّا الماء فشكله "متغيِّر"؛ لأنَّه من شكل إنائه.

وإذا كان تطوُّر A هو تحوُّلها إلى نقيضها B، فإنَّ تطوُّر B هو العودة إلى A؛ لكنَّ A الثانية تختلف، ويجب أنْ تختلف، عن A الأولى؛ وهذا هو، فحسب، "مسار التطوُّر"، والذي لا شكل له إلاَّ الشكل "الحلزوني (أو اللولبي)".

A لن تظلَّ إلى الأبد A؛ وينبغي لها، إنْ عاجلاً أو آجلاً، أنْ تتحوَّل إلى B، التي ينبغي لها، إنْ عاجلاً أو آجلاً، أنْ تتحوَّل إلى A، التي لن تكون نسخةً طبق الأصل من A الأولى.

وهذا هو "النِّصف الأوَّل" من معنى "التطوُّر الذاتي" للشيء؛ أمَّا "نصفه الآخر" فيكمن في "قانون السببية"؛ والسؤال الآن هو "كيف؟".

إنَّنا نَعْلَم أنْ لا شيء يظهر إلى الوجود (ينشأ، يُوْلَد) إلاَّ إذا تهيَّأت واكتملت "أسباب" وجوده؛ ونحن لو نظرنا إلى B على أنَّها "نتيجة"، وسَعَيْنا، من ثمَّ، في كشف، واكتشاف، "الأسباب (الجوهرية والأساسية)"، لتوصَّلنا إلى استنتاج مؤدَّاه أنَّ A هي (لا غيرها) المُنْتِجَة، والمُولِّدة، والمُنْضِجة، والمهيِّئة، لتلك "الأسباب"؛ فهذا الشيء الذي رَمَزْنا له بالحرف A لا يمكنه أنْ يُوْجَد، وأنْ يتفاعل، ويتبادل التأثير، مع غيره، ومع بيئته، إلاَّ بما يَجْعَله مُنْتِجاً لأسباب تحوُّله إلى نقيضه، أيْ إلى B في مثالنا.

أُنْظُر (مثلاً) إلى هذه الوردة المتفتِّحة والتي ذبلت، فماتت؛ واجتهِد في معرفة "أسباب" ذبولها وموتها، فتتوصَّل إلى الاستنتاج الآتي: هذه الوردة ما كان لها أنْ تعيش، وتنمو، وتتفتَّح، من غير أنْ تُنْتِج، في الوقت نفسه، الأسباب المؤدِّية إلى ذبولها وموتها. إنَّ المستحيل بعينه هو أنْ تأتي "أسباب" ذبول الوردة وموتها من خارج هذه "السيرورة"، أيْ من خارج حياة الوردة ونموِّها.

أُنْظُر إلى ظاهرة اقتصادية هي "غلاء الأسعار"؛ فهذا السلعة تُباع الآن بسعرٍ مرتفع، يزداد ارتفاعاً. إنَّ التطوُّر، في هذا المثال، هو أنْ يَرْخُص سعر هذه السلعة؛ ولقد رَخُص؛ فما هي الأسباب؟

مهما اجتهدت، وبحثت، فلن تَصِل إلاَّ إلى استنتاج مؤدَّاه أنَّ "الغلاء" نفسه هو المُنْتِج لـ "الأسباب (الجوهرية الأساسية)" لـ "الرُّخْص"؛ فسعر هذه السلعة لا يمكنه أنْ يرتفع، ويزداد ارتفاعاً، من غير أنْ يؤدِّي إلى زيادة إنتاجها، وزيادة المعروض منها في السوق؛ ولا بدَّ لهذه الزيادة (وتلك) من أنْ تُتَرْجَم بخفض سعر السلعة.

أُنْظُر إلى حجرٍ، قذفته في الهواء، فارتفع، ثمَّ سقط أرضاً. ابْحَثْ في أسباب "السقوط"، فتتوصَّل إلى استنتاج مؤدَّاه أنَّ هذا الحجر ما كان له أنْ يرتفع، ويزداد ارتفاعاً، من غير أنْ يُنْتِج، في الوقت نفسه، أسباب "السقوط"؛ فالحجر لا يرتفع إلاَّ إذا شَحَنْته بـ "طاقة حركية"، متأتية من طريق قَذْفِكَ إيَّاه في الهواء؛ لكن هل يمكنه أنْ يرتفع، ويزداد ارتفاعاً، من غير أنْ يَفْقِد تدريجاً هذه الطاقة، فيسقط إلى الأرض من ثمَّ، وفي آخر المطاف؟!

إنَّها لـ "ضرورة" أنْ تذبل الوردة وتموت؛ لأنَّها لا يمكن أنْ تعيش وتتفاعل مع بيئتها الطبيعية من غير أنْ تُنْتِج أسباب ذبولها وموتها؛ وإنَّها لـ "ضرورة" أنْ تَرْخُص هذه السلعة؛ لأنَّها لا يمكن أنْ يَغْلو سعرها من غير أنْ يُنْتِج أسباب رخصه؛ وإنَّها لـ "ضرورة" أنْ يسقط هذا الحجر أرضاً؛ لأنَّه لا يمكن أنْ يرتفع من غير أنْ يُنْتِج أسباب سقوطه.

إنَّها لـ "ضرورة" أنْ يأتي تلقيح البويضة (البشرية) بجنين، ينمو في رحم أمِّه، فتحين ساعة ولادته، فتلده.

لكنَّها "مصادفة" أنْ يكون هذا الوليد، أو يصبح، نابليون أو هتلر أو بوعزيزي..

إنَّها لـ "ضرورة" أنْ يندلع "الربيع العربي"؛ لكنَّها "مصادفة" أنْ يبدأ من تونس، أو أنْ يُشْعِل فتيله الشاب بوعزيزي؛ ولو لم تكن صلة بوعزيزي بـ "الربيع العربي" هي عينها صلة "المصادفة" بـ "الضرورة"، لصحَّ زعمٌ من قبيل أنَّ "الربيع العربي" ما كان ليندلع لو مات بوعزيزي وهو جنين في رحم أُمِّه، أو لو نجا من حرقه لنفسه!

إنَّها لـ "ضرورة" أنْ يأتي نظام حكم، بخواص وطبيعة نظام الحكم السوري، بطاغية وجلاَّد وسفَّاح يرأسه ويقوده؛ لكنَّها "مصادفة" أنْ يكون "بشار حافظ الأسد".

إنَّها لـ "ضرورة" أنْ يَفْقِد الجسم من وزنه ما يَعْدِل وزن السائل المُزاح عند غمره فيه؛ لكنَّها "مصادفة" أنْ يكون هذا الجسم من معدن الرصاص، أو أنْ يكون هذا السائل من الماء، أو أنْ يكون أرخميدس هو مُكْتَشِف هذا القانون.

إنَّها لـ "ضرورة" أنْ يتطوَّر الشيء (كل شيء) وُفْق "الثلاثية الهيجلية الشهيرة (الأطروحة ـــ النقيض ـــ التركيب)"؛ لكنَّها "مصادفةً" أنْ ينقطع هذا التطوُّر الذاتي الطبيعي الحتمي بعد "الطور الثاني".

وكل شيء وُجِدَ الآن، أو موجود الآن، إنَّما هو "الضرورة" بعينها؛ لأنَّ وجوده هو "النتيجة المترتبة حتماً على اكتمال أسباب وجوده"؛ فلو لم تَكْتَمِل لَمَا وُجِد، ولو زالت لَمَا ظلَّ موجوداً.

وهذا الوجود "المخصوص" للشيء ينبغي لنا فهمه وتفسيره على أنَّه ثمرة الاتِّحاد الذي لا انفصام فيه بين "الضرورة" و"المصادفة"؛ ولو كان في مقدورك أنْ تَسْتَجْمِع الأسباب (ومنها تلك التي ننسبها إلى "المصادفة") التي أدَّت حتماً إلى وجوده على هذا النحو، وفي هذا الشكل، وفي هذا المكان، وفي هذا الزمان، لحَصَلْتَ على "نسخة طبق الأصل" من هذا الشيء.



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قانون انتخابات أردني.. جديده قديم وقديمه مُجدَّد!
- البونابرت عمرو سليمان!
- هل يُمْسِك عنان ب -العِنان-؟!
- -انهيار المادة على نفسها- في معناه -الفيزيائي الفلسفي-!
- حتى لا تغدو -الديمقراطية- نفياً ل -الوجود القومي العربي-!
- الثورة المأزوم عليها.. و-الفوضى الخنَّاقة-!
- -الإخوان- الديمقراطيون!
- -إخوان- مصر ولعبة -الشَّاطِر-!
- يوم الأرض والقدس في مناخ -الربيع العربي-!
- -النَّظرية- من وجهة نَظَر جدلية
- Arab Idol
- الحكيم لافروف!
- في أيِّ مسارٍ تُسيَّر -قضية الهاشمي-؟!
- ظاهرة -مَنْ يَرْميني بالثَّلْج أرْميه بالنار-!
- -الإعلام- و-الصراع في سورية-!
- بريد الرئيس!
- سفَّاح الشَّام!
- في فِقْه -المؤامَرة-!
- -يوم المرأة العالمي- في -عالَم الرَّجُل-!
- نشكر أوباما.. ونهنِّئ الشعب السوري!


المزيد.....




- الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج ...
- روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب ...
- للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي ...
- ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك ...
- السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
- موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
- هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب ...
- سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو ...
- إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - -الحتمية الماركسية- و-نقيضها الدِّيني-!