سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 3254 - 2011 / 1 / 22 - 11:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كان أول إدراكي لمعنى التمايز الطبقي أثناء وقوفي أمام فترينة لعرض المجوهرات الذهبية لأجد حُلى ذهبية جميلة ولكنها لا تتميز كثيرا ًعن الحلي التقليدية التي يبيعها أبى في متجره من الناحية الجمالية بل أن الحلي التقليدية أكثر جمال و ثراء وتنوع .ُُ
معلوم أن سبب غلاء الحُلي الذهبية أن الذهب معدن غالى الثمن وغير متوفر بسهولة ويحتاج لمجهود كبير في التنقيب عنه واستخراجه من باطن الأرض للحصول على بعض الأوقيات بينما الحُلي التي يبيعها أبى متوفرة وسهل إنتاجها .
ولكن ذهني يسرح بعيدا ً لأتذكر أجدادي الفراعنة الذين اهتموا بالحصول على الذهب من مناجم بعيدة وأقول كيف وصلوا لهذا الأمر الذي يحتاج لمجهود كبير تُسخر فيه إمكانيات هائلة للعثور عليه فلم يكن حينها لديهم الجيولوجيا المتقدمة ولا التكنولوجيا ولا المعدات الحديثة التي تُيسر هذا الأمر !!.. إنني أرفع القبعة لأجدادي العظماء ... وبينما أنا أزهو في داخلي بالفراعنة يتبادر لذهني سؤال ألح أن يَطرح نفسه .. لماذا يَستنزف الإنسان القديم كل هذا الجهد للحصول على بعض الأوقيات من أجل حُلى للنساء وتزيين التماثيل وعصىّ الملوك .. هل القدماء أشبعوا كل حاجتهم من توفير الغذاء والملبس والعمار لينفقوا وقتهم في البحث عن الذهب في جبال سيناء البعيدة ؟!!... ألم يكن من الأفضل استغلال هذه العمالة والجهود المبذولة في شيء أكثر إفادة لتطوير مجتمعاتهم في الزراعة والصناعة والتعمير , فهم كانوا بالكاد على أولى عتبات الحضارة الإنسانية وبينما أطرح هذه الأسئلة أرى عالمنا المعاصر ينفق أيضا ً الكثير من الجهد والاستثمارات للحصول على الذهب بل الماس أيضا ً بينما هناك ملايين الجوعى والمحرومين .
هل من المعقول هذا العبث .. هل لأنه معدن جميل يستحق كل هذا العناء والانصراف عن أمور أكثر أهمية وضرورية.؟!!
هكذا كانت الأسئلة تطرح نفسها لتقف عند حدود الغموض في فكر الإنسان ومبتغاه..!!
ولكن عندما أصل إلى أعتاب الماركسية أجدها تحل إشكاليات كبيرة بل تمنح المرء مفاتيح الوعي والإدراك.. فالسلعة يُحددها قيمة العمل المبذول فيها .. الذهب معدن غالى الثمن لأن هناك آلاف من ساعات العمل المبذولة في تنقيبه واستخراجه من باطن الأرض ولكن السؤال المهم لماذا يتم تبديد الآلاف من ساعات العمل للحصول على بعض الأوقيات لتزين أصابع وصدور النساء أليس من الأجدى تسخير هذه الجهود فيما هو أكثر حيوية.
الحس الماركسي يمنح الإنسان القدرة على الوعي وحل إشكاليات كثيرة ..إنه التمايز الطبقي ..
فالإنسان ينفق الكثير من الجهد ليحصل على بعض الأوقيات من الذهب ليمتلكها من يستطيع أن يدفع ثمنها فتكون وسيلته للتمايز على أقرانه ممن يعجزون عن امتلاكها.. لقد أصبح متميزا ً وعلى الجميع أن يُدرك ذلك.. إنه من حاملي الذهب والثروة !!..هذا الأمر أحسسته عندما أجد تفاخر النساء وزهوهن بكم الأساور الموجودة لديهن ويتعمدن إظهاره والإعلان عنه فهن يحتجن أن يثبتن أنهن من علية القوم .
القدماء بددوا جهود عظيمة لاستخراج الذهب ليس من أجل عيون النساء ولكن من أجل التمايز الطبقي فقط .. أن يتم فرز البشر بين من يملك ومن لا يملك ولتتحمل المسافة بينهما درجات من حائزي الجرامات القليلة .
الإنسان الحديث مازال يسير على نهج الأجداد بل يتفنن في خلق أشياء كثيرة تٌمارس فعل التمييز والتمايز .. فها هو الماس وحائزيه الذين يريدون أن يبتعدوا عن حائزي الذهب ليخلقوا لأنفسهم عالم خاص من التمايز والسعادة في تعاليهم .. وتتوسع الدوائر لتستوعب المزيد من الرغبات المجنونة في التمايز والتعالي فننتج منتجات صناعية عصرية يتم بذل جهود كثيرة فيها لجعلها مميزة فلا يحظى عليها الجميع فتعلن هذه السيارة مثلا ًعن نفسها لتُخرج ألسنتها للبشر العاجزين عن امتلاكها.
لاتصبح المتعة تقتصر على إستمتاعنا بالطبيعة بل أن نخلق منتجعات سياحية لنا فى مكان ما ونملأها بالرفاهية لتكون متعتنا نحن فقط بعيدا ً عن الرعاع .. لنمارس فعل التمايز .
يصبح إحتساء كوب من الشاى مميزا ً فى فندق خمس نجوم بالرغم أنه نفس كوب الشاى فى مقهى بسيط .. ولكننا نريد التمايز بأننا نرتاد هذه الأماكن .
تتسع الرؤية لأجد أن الإنسان لا يعيش من أجل أن يحصل على حاجاته فقط بل حريص على ممارسة متعة التمايز والتعالي على البشر .. نتصارع من أجل الحصول على فائض يمنحنا التمايز .. نتقاتل من أجل أن نحرم الآخرين من احتياجاتهم حتى لا يقتربوا منا فنفقد لذة التمايز.!!
نبذل جهود حثيثة ليس لإشباعنا ولكن لكي نكون الأعلى والأفضل والأكثر سيادة وتميزا ً وتصل الأمور في هوسنا هذا أننا نرفض أن ينال الآخرون نفس تميزنا فحينها سنفقد هذه المتعة السوداء .. فماذا لو امتلك كل البشر الذهب ألن يفقد قيمته !!.. لذا سنبحث حينها عن شيء آخر يمنحنا متعة التمايز الطبقي أو نجاهد لنَحول دون أن يحصل الآخرين عليه .!!
ستتنوع أشكال التمايز والسيادة ..فلا تقف عند متعة المالكين والمستحوذين بل ستجد متعة التمايز مكانا ً لها في هيمنة الرجل على المرأة ..ومتعة السطوة والتسلط للقائد والرئيس على الرعية ..ويستمتع كل صاحب سلطة على تابعيه ... الكل سيبحث عن التمايز والسيادة والتعالي لنحقق مُتع شرسة تتلذذ بحرمان وقهر الآخرين .
حتى المهمشين البؤساء الذين لا يمتلكون شيئا ً وتلوثوا من نمط أصحاب التمايز الطبقي يبدعون هم الآخرون رؤى ليمارسوا متعة التمايز والسيادة فيبحثون عن أي أدوات تمنحهم هذه اللذة مثل ممارسة قهر نساءهم وأطفالهم كشكل من أشكال البحث عن دور سيادي ومتميز .
يخلق هؤلاء المهمشون وكل من تعرضوا إلى قهر اجتماعي واقتصادي وسياسي أفكار إبداعية ليمنحوا أنفسهم الإحساس أنهم متميزون فيغرقون أنفسهم في أوهام سرابية عن الجنة المُعدة لهم خصيصا ً والتى لن يقترب منها هؤلاء السادة وأصحاب السطوة بل سيذوقون العذاب بديلا ً بينما هُم سيتمرغون في نهود الحوريات .
نحن نمارس أفعال عنصرية بغية أن نتمايز ونتعالى ونسود بقسوة .. فما معنى أن لون البشرة هو المانح لبعض البشر التمايز كعنصرية لون .!!
..وماذا يعنى الإنتماء لبقعة جغرافية محددة تمنح الإنسان التمايز كعنصرية عرق وجنس , مثل قول محمد : " إن مكة هي احب بلاد الله إلى الله "!
وما معنى أن بعض الخرافات التي نشحن بها ذهننا تمنحنا التمايز عن خرافات الآخرين كعنصرية دينية .!
بكل بساطة نحن نتلذذ بممارسة التمايز والتعالي على الآخرين ماديا ً ومعنويا ً وعقائديا ً. !
تتسع الرؤية لتتحمل المزيد وتكشف النقاب عن مغزى الميثولوجيات الدينية.. لنجد أن مؤسسي الأديان مارسوا تصدير مشاعر التمايز والسيادة لتابعيهم .. فهذا شعب الله المختار وذاك خير أمة أخرجت للناس وذاك هم أبناء الله الذين نالوا حظ التعمد بالماء والروح .
لقد جعلنا الآلهة مهتمة بشئوننا ورافعة لمنزلتنا وتمنحنا البركة والنصر لنخلق شعور جمعي بالتمايز وأننا متفوقون على الآخر بالتمايز والعناية الإلهية المقدسة .
لقد رسمت كل جماعة بشرية صورة إلهها ووضعت فيه هويتها وانتمائها وشخصيتها كشكل مختلف عن الآلهة الأخرى لتكون متميزة ومتفردة بهذا الإله فنجد التراث العبراني يجعل الإله يهوه ملكا ً خاصا ً بهذا الشعب وكأنه لم يخلق أحدا ً غيرهم !.. والله يسوع يحتضن المتعمدين بالسر المقدس ! ...والله ألإسلامي يكون عربيا ً فهو ذو لسان عربي مبين ! { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) } [ سورة الشورى : الآية 7 ]
حتى ميثولوجيا الجنة والجحيم خرجت من رحم التمايز والتعالي فالجنة العامرة باللذة أو التماهي مع الرب هي لنا فقط والجحيم بناره المتقدة الحارقة لهؤلاء الكفرة فنمنح أنفسنا شعور بالتمايز والفوقية في عالم يهمش وجودنا .
الأديان جاءت لترجمة التمايز وتأكيده وتأطيره ولإشباع رغبات جماعة بشرية تبحث عن حس التمايز الجمعي مثل حائزي الذهب و لكن الإشكالية التى تنفرد بها الأديان أنها تؤصل وتشرعن التمايز لتجعل منه وجود يتجذر ليتم تصديره إلى أجيال لاحقة تتعالى على الآخر لتنتهك التعايش السلمى والإنسانى بين البشر .
التمايز والتعالي والرغبة في السيادة والهيمنة هي مشاعر بدئية للإنسان جاءت كنتيجة الصراع من أجل البقاء , وترعرعت في أحضان الملكية والحيازة التي جاءت أصلا ً من السطو على جهد الآخرين لتحمل في أحشائها كم هائل من القسوة والأنانية والرغبات السادية في المتعة بمُمارسة التمايز والتعالي على الآخرين .
الملكية القذرة تغمر الإنسان بالطمع والأنانية والتمتع بمعاناة الآخرين لتحقيق رغبات سادية بالتمايز الطبقي .. الأغنياء سيكونون حريصون على وجود الفقراء أحياء ومحرومون أمام عيونهم .. فلو تلاشوا فعلى من سيمارسون متعة التمايز والسادية !!...والأديان تُشرعن وتؤصل للملكية وخلق التمايز لتجد حضور وتستطيع أن تُمرر خرافاتها بين الأتباع بتصدير هذا الإحساس بالتمايز والفوقية ليتأصل تشويه الإنسان فى النهاية .
دمتم بخير ...
" تونس الجميلة تُسقط حائط برلين العرب ... المجد لتونس شعبا ً ووطنا ً وأرضا ً "
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟