أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - الحكيم البابلي - من داخل القمقم # 3 ( نذور ونهر )















المزيد.....

من داخل القمقم # 3 ( نذور ونهر )


الحكيم البابلي

الحوار المتمدن-العدد: 2845 - 2009 / 12 / 1 - 12:39
المحور: سيرة ذاتية
    


( حبريَ أسود ، فلا تطلبوا مني أن أرسم قوسَ قزحْ )... محمد سعيد الصكار .
=====================

بين سني السابعة والثانية عشر من العمر كان بيتنا في منطقة ( سبع قصور ) الكرادة الشرقية / جانب الكرخ من بغداد ، كان بيتنا قريباً من نهر دجلة الذي أصبح في السنوات اللاحقة جزءاً من حياتي وحياة أخي نبيل الذي كان يكبرني بثلاثة سنوات . في العصاري الحارة حيث لا نسمة هواء في الجو ، كنا نرى عشرات الشموع المُثبتة فوق أخشاب صغيرة تطفو فوق سطح الماء ، وتسير مع جريان النهر المُتجه جنوباً نحو المجهول . كانت تمثل نذور البغداديين وتقدماتهم للألهة والأنبياء والأولياء ، يطلبون من خلالها مرادهم وأمانيهم وما يودون الحصول عليه من أمور دنياهم ، وكان المارة من الرجالِ والنساء يقفون للحظات متأملين تلك النذور ذات المنظر والمعنى الجميلين ، ثم يطلقون أصواتهم عبر النهر : مقبولْ .... مقبولْ مرادك مقبولْ ، فيرتد الصدى من الجانب الأخر البعيد بعمقٍ تقشعر له الأبدان .

=====================

قبل ثورة 14 تموز 1958 بسنة واحدة ، إنتقلنا الى بيتنا الجديد في جانب الكرخ ، والذي كان مُلكنا هذه المرة ، وآخر بيت سكناه في الوطن الأم
في ذلك البيت الحبيب تفتحنا وأدركنا وكبرنا ... إخوتي وأخواتي وأنا ، ولطالما إفتقدنا نهر دجلة وتمنيناه بشوق كشوقنا الى أمنا
تمر بضعة سنوات ونحنُ في عالمنا الجديد ، نمتزج بأواصر صداقة حميمة ومتينة مع بعض شباب المدينة الصغيرة التي نعيش فيها ، والذين تتقارب أعمارهم من أعمارنا . وبمرور الأيام يصبح أخي نبيل .. في الواحدة والعشرين من عمره .. رئيساً ومدبراً لمجموعة الأصدقاء التي كُنا نُطلق عليها تندراً إسم ... العصابة
عن طريق العصابة ، إكتشفنا بأن نهر دجلة لم يكن يبعد عن بيوتنا إلا مسافة أميال قليلة ، إذ كانت ضفافه تقع ضمن مدينة الحارثية التي كان يحدها النهر . وهكذا بدأت رحلاتنا القصيرة الأسبوعية الرائعة لدجلة الخير . خلال الأشهر الثلاثة للعطلة الدراسية الصيفية المُزامنة لحر بغداد اللاهب ، كنا ننهض صباحاً مُبكرين ،أخي نبيل وأنا ، ونمر في طريقنا على أياد وعلي وفرات ومازن وجعفر ، ثم نستقل الباص العمومي الذي يعبر بنا فوق جسر (الخِرْ) الذي يقع على يساره قصر النهاية ، ثم ينعطف يميناً مُخترقاً بدايات منطقة ومدينة الحارثية ، وعند وصوله الى بداية منطقة ( اُم العظام ) ، نترجل ونسلك طريقاً ترابية ممهدة ومرشوشة بالنفط الأسود طولها قرابة ميلٍ واحد ، ترتمي على جانبيها بكسل صيفي بساتين النخيل والأعناب والرقي وأشجار الفواكه المنوعة وأنواع الخضروات الموسمية ، ودائماً كانت تُثيرني وتستوقفني زهور شجيرات الرمان التي كانت تتميز بلونها الأحمر القاني الذي ليس له لون مُشابه في عائلة اللون الأحمر
كان مرتعنا المُفضل بستان كبير جداً تقع نهايته على ضفة النهر مباشرةً ، وتملكه أحدى العوائل البغدادية الغنية ، ويديره رجل ريفي مُسن مع زوجته العمياء وولديه وبناته الثلاثة . كانت هذه العائلة تقوم على رعاية البستان وسقيه بماء النهر الذي كانت تضخه عبر السواقي الكثيرة مضخة مائية قديمة صفراء اللون علامة القط ، والتي لا زال صوتها الرتيب البطئ يتردد في ذاكرتي
كان إسم الرجل المُسن ( الخال دحام ) ، حيث كان يزعم ومن خلال سخريته ولهجته الريفية المُحببة المُفعمة بالود والتواضع بأنه خال الشط . كنا نعطيه عدة دراهم ليسمح لنا بالسباحة هناك ، ودائماً كان يرفض بأستحياء وخجل الرجل العراقي الكريم ، لكنه كان يقبل في النهاية لأصرارنا الشديد ولفقره وحاجته ، وبالمقابل كان يُهدينا رقية كبيرة وطازجة
كنا وقبل وصولنا الى الجرف المائي نطرد من حولنا الكلاب التي كانت تحرس البستان ، والتي كانت تعرف بطريقة غريزية تُحسد عليها العدو من الصديق ، ولهذا كانت تنبح حوالينا بطريقة غير جادة وتتابعنا عن بعد وهي تهرهر . وقبل أن نصل النهر كانت تنفذ الى خياشيمنا رائحة الماء الحبيبة المميزة التي كانت تفتح في أعماق وجودي كل الأبواب الصدأة المُغلقة لمدن السعادة والفرح الحقيقيين ، كنتُ أحس من خلال تلك الرائحة بقرب لقائي بصديقي القديم ... النهر ، الذي طالما كنتُ أحلم بلقائه في السنوات القليلة التي عشتها في بيتنا الجديد . كنتُ أحس وأنا أقترب من النهر خطوة بعد أخرى ، بأنني مارد خرافي تحرر من قمقمه بعد حبسٍ طويل . وكانت شهقاتي تعصفُ بكياني لدرجة أن الدموع كانت تتقافز من عينيَ مما يضطرني لأخفائها عن أخي نبيل وبقية أعضاء العصابة ، كنتُ دائماً أحس بحبل سري يربطني بذلك الوجود المائي الرائع ، وكلما كنتُ أحس بحاجتي الى جرعة حياة خلال الأنكسارات اليومية والتداعيات الحياتية كنتُ ألجأ الى صديقي النهر الذي بقي على الدوام كأساً ومنهلاً لي
أذكر إنني وقبل هجرتي من ذلك الوطن الحبيب في بداية السبعينات ، وقفتُ طويلاً في منتصف أحد الجسور البغدادية مودعاً صديقي النهر، يومها بكيتُ كما لم أبكِ من قبل ، ثم إنحدرتُ الى جرفه الهادئ ، ورحتُ أعب صدري من رائحته وغسلتُ وجهي ودموعي بمياهه الطيبة ، ربما للمرة الأخيرة
كانت العصابة تصرخ بصورة هستيرية كلما إقتربنا خطوة أخرى من النهر ، وقبل أن نصل الجرف الرملي والصخري ، كنا نلقي بحمولتنا وملابسنا ونقفز بشوق طفولي في لجة الماء العذب معانقين برودته التي تبعث في أوصالنا الفتية قشعريرة لذيذة تنقلنا في لحظات الى الفردوس المفقود بعد ضياعٍ طويل في متاهة الوجود
بعد ساعة من الصخب واللعب والمرح نقوم بالتمهيد للخطوة الثانية من رحلتنا الأسبوعية الممتعة ، وهي العبور الى جزيرة ( اُم الخنازير ) ، حيث النهر في تلك المنطقة ينقسم الى فرعين مُكوناً في الوسط جزيرة مهجورة آنذاك إلا من الطيور وبعض الحيوانات البرية . كنا عادة نأخذ معنا إطاراً مطاطياً منفوخاً أسود اللون ، يسميه البغداديون ( جوب ) ، ونقوم بربط حاجياتنا على متنه وجوانبه ، ونعبر سباحة الى الجزيرة متناوبين بصخب دفع الجوب المطاطي أمامنا الى أن نصل الجرف الأخر
كنا مجموعة تفهم وتحترم معنى الصداقة ، وكان النهر بالنسبة لنا صديق آخرَ كبيرٌ قويٌ حنونٌ ودودٌ كثير العطاء ، نحبه ونحترمه ونقدسه ونؤمن بأنه يحبنا أيضاً . لم نكن نصدق أن بعض الناس يموتون بين مياهه غرقاً أحياناً !! ، فعندما كُنا نلقي بأجسادنا الفتية في مياهه السحرية العذبة ، كان يغمرنا إحساسٌ كامل بالأمان والطمأنينة والبهجة ، وعندما كنا نصل الجرف الأخر متعبين لاهثين ، نستلقي فوق الرمال الحارة ، نلتقط أنفاسنا والخدر اللذيذ يسري في عضلاتنا ، بينما الشمس تصبغ أجسادنا بذلك اللون الأبنوسي الرائع
على رمال الجزيرة السحرية الصامتة كنا نجلس تحتَ أفياء صفصافة قديمة باسقة ، نأكل طعامنا بلهفةٍ وشهيةٍ وتلذذ ، ونحن نراقب صديقنا جعفر وهو يخط إسم حبيبته ( قمر ) على رمال الجزيرة . كانت قمر إبنة جارهم ، صبية سمراء حسناء يسكن الليل في عينيها الواسعتين ، أحبها جعفر بجنون وقدسية وبلا تحفظ ، فكل الناس وحتى الأطفال كانوا يعرفون أن جعفراً يحب قمر ، كان يعيش لأجلها ولها ، فهي شغله الشاغل وزاده اليومي وموضوعه المفضل ، يكتب إسمها أينما حلَ ، فوق مصطبات الدراسة ، في ظهر المقاعد الخشبية للباصات العامة ، على جدران البيوت ، فوق أرصفة الشوارع ، فوق النوافذ المُترَبة لسيارات الأجرة ، على أغلفة وأوراق الكتب التي يستعيرها من شباب العصابة ، وحتى على جوانب الجوب المطاطي . كان يحفر إسمها على جذوع نخيل بستان الخال دحام وفي أجساد أشجار الحدائق العامة ، وفوق معدن كراسي دور السينما ، كان إسمها وشماً فوق صدره قرب موقع القلب ، وكان أول حرفٍ من إسمها محفورٌ فوق ساعده الأيسر
كل ذلك كان يقلقنا ، لأن تصرفات جعفر كانت تزداد حدةً وغرابةً ، وتخرج عن الحدود المألوفة أحياناً ، وتقترب من حالة الفوضى والأنفلات إن لم أقل الجنون يوماً بعد يوم
في المساء كنا نعود سباحةً الى بستان الخال دحام ، وهناك كان جعفر يُخرج من كيس ملابسه خشبة صغيرة مستطيلة الشكل فيها ثلاثة مسامير ، ويروح يُثبتُ شمعة فوق كل مسمار ، بعدد حروف هجاء إسم حبيبته ( ق . م . ر ) ، وبعد أن يوقد الشموع ، يُطلقُ مركب حبه ونذوره الذي يبتعد سراعاً مع المياه الجارية نحو الأفق الجنوبي البعيد . نقف جميعاً تعاطفاً وخشوعاً لنذور صديقنا القلق الحزين جعفر ، ونُطلقُ أصواتنا عبر ضفاف دجلة الخير : مقبولْ ... مقبولْ مرادك مقبولْ . ولطالما شاهدتُ الخال دحام وهو يراقب بحزنٍ وإهتمام طقوس الحب والحزن والأمل من خلف أحدى النخلات ، بوجهه العجوز المتجعد وكأنه واحدة من الألهة القديمة لبلاد ما بين النهرين
أما جعفر ... فيتابع بصمتٍ ووجوم نهايات آخر ضياءٍ لشموعه وهي تختفي في الأفق البعيد للنهر الذي تسيجه حمرة السماء وآلاف النخيل ، ثم يلتفت بوجهه الكئيب يلملم حوائجه في كيس صغير، متوجهاً بصمت وقنوط لبداية الطريق الترابية ، بخطواتٍ حثيثة محاولاً اللحاق بالأخرين ، بينما عينيه تختلسان النظر لحمرة ألوان الأصيل في الأفق الغربي ، وكأنه كان يقرأ في لوحة القدر بأن نذوره لن تُقبَل في مملكة العطاء ، وأنه سيخرج يوماً من هذه المتاهة الكبيرة بلا شموع أو قمر ينيران له دروب الحياة المظلمة

======================

لأكثر من ربع قرن وأنا مزروعٌ هنا في متاهة الغربة وفي مزارع الثلج الأبيض الذي تسرب عبر السنين الى شعري . أستحضر كل ليلة وبصمت المُتعبد ، شمس الرافدين ، ودفأها ونهرها ، وأجتر كل الدقائق الجميلة في بغداد رغم شوكها ومرارتها ونزيفها الذي لا ينتهي ، تلك الدقائق العزيزة التي إستطاعت ذاكرتي إنتشالها وإختزانها والمحافضة على ورودها وجروحها طرية عبر رحلة التعب والأوجاع
اليوم وصل أحد معارفي من بغداد الى المهجر ، ضحية أخرى قديمة جديدة ، ضاع رقمها عبر زحام الأغتراب ، فعدادات الوطن عاطلة منذ دهور ، والمصلح إستساغ نومة الكهف . أعطاني الرجل رقم هاتف أياد الذي كان أصغرنا سناً ، واحد من أعضاء العصابة القديمة الذي هاجر الى تركيا قبل أسابيع
بعد إنتظار أجيال ، نام جميع أفراد عائلتي ، وراحت أصابعي تضغط أرقام الهاتف ، من هنا .. من آخر الدنيا . كانت لحظات بطيئة متشنجة مرت خلالها عشراتُ الصور القديمة عبر ذاكرتي التي راحت تعمل بسرعة جنونية مُخيفة .......... وأخيراً جاء صوت الصديق القديم عبر أسلاك الهاتف ، عميقاً ... هادئاً ... ودوداً ... ، هذا واحدٌ من أبناء النهر العظيم . تحدثنا طويلاً ، كنا نتحسس ونتلمس ونجس بعضنا ، وكلانا يحبس في صدره زوبعة بكاءٍ ودموع ْ، لكننا صَمدنا خلف متاريسنا الشرقية القديمة ، كنا نشرق ونغصُ بالكلمات التي هجرها الفرح ، ومن خلال النزيف ، تفتقت عبر كياني جروحٌ جديدة طرية تحمل ذات اللون الأحمر لزهر شجيرات الرمان ، وكعجائز القرى الصغيرة الباحثات عن أشلاء وجثث أبنائهن ، رحنا نَجْرِد ونحصي كل الجراح والعطب والتشويه والخراب وعدد القتلى بعد العاصفة والمعركة ، ومن خلال كل الجروح وطعم الدم ، إنجلى الضباب الممزوج بالدخان عن الصورة القبيحة القاتمة التي كنتُ أتخيلها وأتوقعها وأهرب من مواجهتها دائماً ، والتي خذلتني شجاعتي لسنوات وسنوات عن طلب رؤيتها ومواجهتها وجهاً لوجه
كنتُ أعرف أن فرات يعيش في لندن منذ سنوات مع زوجته وولديه ، وأعرف أن علي قد إنقطعت أخباره تماماً بعد هربه الى أحدى جمهوريات الأتحاد السوفيتي ، وأعرف أن أخي الكبير نبيل قد فُقِدَ في معارك السنة الأولى لحرب الحكام المزاجية بين العراق وإيران ، ضحية مجانية لم من أجل أجل عيون الريس ، كذلك قتل أخي الصغير فيصل في نهاية تلك الحرب الغبية البشعة ، أما أياد فيقول إنه تزوج وله عدة أطفال وترك مهنة التجارة الخاسرة ، حيث لم يعد هناك ما يتاجر به الناس ، أما مازن فكان قد رفض الأنخراط في ( التطوع الأجباري ) الذي ذهب ضحيته أخي نبيل ، يقول أياد أن مازن خرج من داره ذات صباح ولم يعد لها قط ، هكذا وبكل بساطة وهدوء ... ضاع في متاهة العدم ، وللضياع في بلد الرافدين أشكالٌ لا تُحصى . أما جعفر ..... فيقول أياد إنه لم يستطع أن يحظى بحبيبته قمر ، لأسباب دينية وطائفية وطبقية ، وهكذا اُرغمت قمر على الزواج من أحد أقربائها الأغنياء ، وذات يوم ، كانت قمر فوق سطح الدار مع أهلها وأقاربها عندما إخترقت رأسها رصاصة طائشة أطلقها من رشاشته أحد صبيان السلطة إحتفالاً بعيد ميلاد الريس
يقول أياد أن جعفر عاقر الخمر بعد موت قمر ، ولم يكن يراه الناس إلا مخموراً في شوارع المدينة ، يُلقي شعراً ، ويبكي موالاً ، ويُطاردُ أشباحاً ، ويُعاتب نذوراً ضلت طريقها في عتمة السنين الداكنة التي غيبت كل الشموس . وذات مساءٍ صيفي ، وجدوا جثته تطفو فوق مياه النهر قرب منطقة الدورة ، يقال إنه إنتحر غرقاً ، سلم نفسه المُتعَبة وجسده الواهن النحيل الى صديقه الكبير النهر ، والذي طالما أحبه وقدسه وقدم له قرابين نذوره وعشقه . أنهيتُ المكالمة الهاتفية مع أياد ، كنتُ بالكاد أستطيع أن أجمع فكريَ المتشظي ، تلمستُ كُتبي أستمد منها شحنة قوة ، أطفأتُ كل المصابيح ... كلها ، حتى مصابيح قلبي ، كنتُ خجلاً من كل شيئٍ حولي ، حتى من وجودي وبقائي الذي لم يكن له أي معنى في تلك اللحظات ، تحول خجلي الى نقمة كبيرة ، وتمنيتُ أن أغرز أنيابي ومخالبي في رقبة مخلوقٍ ما ، أحسستُ بضآلتي وتفاهتي وعقم وجودي ، كنتُ معمياً ، مبعثراً ، موجوعاً ، محاصراً ، مذهولاً... ذهول الأنسان الذي وقف مُرغماً يراقب إحتراق داره وأعز أحبابه داخلها ، أحسستُ بثقل السنوات ، كنتُ أتصبب عرقاً ، أسرح كالمخمور في غابة الحراب ، أدور في غرفتي كحيوانٍ جريح ، أحسستُ أنني متوحدٌ مخذول ، رجلٌ أكل الجراد أحلامه ، تزدحم كل أوجاع الدنيا في داخلي وكياني ، مثقوبٌ معطوبٌ مغلوبٌ على أمري ، أضأتُ مصباح المكتبة وفتحتُ كتاب الشعر كيفما أتفق
يا أيها الأنسانْ
يا أيها المجوعُ ، المُخوفُ ، المهانْ
يا ايها المدفون في ثيابهِ
يا أيها المشنوقُ من أهدابهِ
يا أيها المنفيُ من ذاكرة الزمانْ
شبعتَ موتاً فأنتفضْ
آنَ النشورُ الأنْ
ها هو غولُ الغربة والوحدةِ يحاصرني ويُشرنقني ويطبق فكيهِ الجبارينِ فوق كياني ، أينَ أنتَ أيها الربُ الرخاميُ المزعوم ؟ ، أين أخوتي ؟ أين أصدقائي ؟ أين بيتنا ؟ .. بيت العز !! أين نهرنا ؟ أين شمسنا المعطاءة ؟ أين كل ذلك الشموخ العراقي الذي كان يسكننا ؟ ، ها هو الأعصار يقتلعنا ، والأخطبوط يمتص وجودنا ، والزمن يحاصرنا ، والموتُ يقتحمنا . وها هي شموعنا تذوي ، وأقمارنا تأفل ، وبيارقنا تحترق ، ونذورنا الطيبة تتيه في عوالم السحرة والذئاب . ها هو حزننا يكبر ويكبر ويكبر حتى يُغطي جميع المساحات الحياتية فينا ، فتجدب البساتين ، وتحترق جميع غابات النخيل ، وتجف الصفصافة العملاقة في الجزيرة الصغيرة ، وتعوي بحزن وألم جميع كلاب بستان الخال دحام ، ويكبر إكليل الشوك ليدمي جميع أشعارنا وقوافينا ، ويبكي النهر حتى آخر قطرة ماء تنضح من جنبه المطعون ، ويعود الى ذاكرتي نفس السؤال القديم المُلِح الذي لازمني عبر كل سنوات القحط والجراد : ماذا فعل بنو جهلٍ بنا ؟


توجهتُ بسيارتي في نفس الليلة الى أقرب بحيرة ، ترجلتُ ، كان القمر ينير ظلمة المكان ، ورحتُ اُثبتُ خمسة شموعٍ بيضاء فوق مسامير الخشبة الصغيرة ، أخي المفقود نبيل ، أخي الصغير القتيل فيصل ، صديقي المُغَيَب مازن الذي لم يعد لداره ، صديقي الطيب جعفر الذي زهد في دنيانا البائسة ، وأخيراً قمر .. ضحية الجهل ورمز أعظم حب عاصرته في حياتي
أدليتُ رأسي في الماء البارد عسى أن تبرد عروقي ، أوقدتُ الشموع الخمسة ودفعتُ الخشبة الى مياه البحيرة الهادئة التي إستعمرها الصمت . ورغم صمت الصمت سمعتهم ، سمعتُ كل العراقيين على جانبي نهر الحياة يصرخون حبهم عبر حناجرهم : مقبولْ ..... مقبولْ مرادك مقبولْ . أقسم أنني سمعتهم ، كانوا هناك جميعاً
تمددتُ في سيارتي مراقباً ذلك القمر الودود ، كان طعم الفجيعة والدم لا يزالان يملأان فمي ، والملح يتسرب من أحداقي رغماً عني ، وطاعونٌ أسود يلوك وجودي . تمددتُ فوق مقعد السيارة خائر القوى كعداء خرافي ركض عمره ، أقفلتُ عينيَ ورحتُ أهربُ من واقعي ، أبتعدُ ... أبتعدُ ... أبتعدُ ... أبتعدُ ... أبتعدُ .. وداخل عالمٍ مجهولٍ دافئ ملون توقفتُ ، وتوقف كل شيئ ، كان هناك عدة أطفالٍ يتصايحون ويتلاعبون بشغفٍ وبراءة ... وهم يعبرون نهر الحياة الخالد الى ضفاف الفردوس ، وعلى جوانبهم كانت تحترقُ وتضيئ آلاف الشموع البيضاء ، تحرسهم آلهة سومرية عتيقة تحمل وجه الخال دحام ، وخلفها قمرٌ مبتسمٌ ، كبيرٌ ، جميلٌ ، ودودٌ ، كثير العطاء

======================

الأبيات الشعرية للشاعر العراقي أحمد مطر




#الحكيم_البابلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من داخل القمقم # 2 ( عرائس النار )
- من داخل القمقم ( 1 )
- الوطن المسكون


المزيد.....




- الجيش الأوكراني يتهم روسيا بشن هجوم بصاروخ باليستي عابر للقا ...
- شاهد.. رجل يربط مئات العناكب والحشرات حول جسده لتهريبها
- استبعاد نجم منتخب فرنسا ستالوارت ألدرت من الاختبار أمام الأر ...
- لبنان يريد -دولة عربية-.. لماذا تشكّل -آلية المراقبة- عقبة أ ...
- ملك وملكة إسبانيا يعودان إلى تشيفا: من الغضب إلى الترحيب
- قصف إسرائيلي في شمال غزة يسفر عن عشرات القتلى بينهم نساء وأط ...
- رشوة بملايين الدولارات.. ماذا تكشف الاتهامات الأمريكية ضد مج ...
- -حزب الله- يعلن استهداف تجمعات للجيش الإسرائيلي
- قائد الجيش اللبناني: لا نزال منتشرين في الجنوب ولن نتركه
- استخبارات كييف وأجهزتها العسكرية تتدرب على جمع -أدلة الهجوم ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - الحكيم البابلي - من داخل القمقم # 3 ( نذور ونهر )