|
عالم بلا نساء
طارق قديس
الحوار المتمدن-العدد: 2284 - 2008 / 5 / 17 - 09:26
المحور:
الادب والفن
خرج حيدر من مكتب مدير شركة الإنتاج السينمائي الوطنية مسرعاً ، وقد بدا واضحاً أن الحديث مع مديره لم يكن ساراً أبداً . ثم مضى إلى مكتبه وفي يده حزمةٌ من الأوراق ، إلا أن أحد الزملاء استوقفه قائلاً : أبشرْ ! كيف جرى لقاؤك مع سعادة المدير؟
فأجاب والحنق في صوته : تصور ! طلبني بشكل عاجل كي يبشرني بأنه مضطرٌ لتعيين سكرتيرة جديدة لدي ، لأنها ابنة أحد المتنفذين ، علماً بأني لم أطلب يوماً شيئاً من هذا القبيل.
فعاجله الزميل بسؤالٍ آخر ، والشوق يشده لمعرفة الجواب : وبماذا أجبتْ ؟
فتابع حيدر وقال : قلتُ له بكل وضوح : إنه كوني المدير التنفيذي لقسم التنسيق للشركة ، يحق لي أن أرفض هذا القرار ، فأنت تعرف موقفي من النساء ، لذا إن شئت عَيِّنْها في القسم، لكن في الوقت نفسه ستجد استقالتي على طاولة مكتبك ، تاركاً لك الشركة وما فيها.
فعاود الزميل السؤال بشغفٍ أكبر ، حتى كادت عيناه تلتصقان بحيدر : ها .. وكيف كانت ردة فعله على ما قلت ؟
عندها ردَّ باقتضاب : لا أدري ، خرجت من مكتبه قبل أن يرد عليَّ .
ثم استطرد : المهم ، أنا على عجلة من أمري الآن ، نتحدث لاحقاً .
ومضى إلى مكتبه ، ولم يكد يفتح الباب حتى تسمر مكانه ، إن امرأة في غاية الجمال ، تقعد أمام مكتبه ، تبدو في بداية العقد الثلاثيني من عمرها، بيضاء الوجه ، سوداء الشعر، ترتدي لباساًً ضيقاً ، مفتوح الصدر ، بلا أكمام ، وتنورة قصيرة ، لا تكاد تخفي شيئاً من ساقيها الممتلئتين.
ولم يكد يصحو من جمال المنظر حتى تمالك نفسه ، و مشى إلى كرسيه ، دون أن يكترث لوجودها ، دون حتى أن يلقي عليها التحية ، أما هي فبادرت بالحديث ، فيما هو يحاول أن يتجاهلها ، ويتجاهل جمالها ، إلا أنه لم يستطع أن يتجنبها طوال الوقت ، فجمالها كان أقوى من مبادئه ، ومن كل ما رأى.
عرف حينها أنها قرأت عن الإعلان الذي وضعته الشركة في الصحيفة الأولى ، حول حاجتها إلى نصٍّ مبكر ، ليتم تحويله إلى عمل سينمائي ، وكل ما هو مطلوب في البداية تلخيصٌ مكون من خمس صفحات للعمل الروائي الأصلي ، يتم تزويد الشركة به ، لغايات التقييم ، والدراسة .
وها هي أتت ، ومعها تلخيص لقصة كتبتها ، وضعته أمامه ، لكنه لم يكترث به ولا بها ، وكل ما فعله لها هو أنه اعتذر لها عن عدم قدرته على قبول قصتها نظراً لانقضاء الموعد النهائي لتسليم مشاركات الكتاب . وأمام هذا التجاهل المطلق لم يكن منها إلا أن استأذنت للانصراف ، دون أن تشرب حتى كوب ماء ، أما هو فأخذ يتمعن مؤخرتها الجميلة ، وبشرة ساقيها النضرة فيما هي تفتح باب الغرفة للخروج .
لقد أقنع نفسه بأنه على حق ، هو لا يحب النساء ، فلم يتزوج ، و لم يعامل يوماً أمه ، وأخواته معاملةً حسنة ، لأنهن برأيه قد فرضن عليه . فالنساء لديه قد أخذن حقوقهن ، وتمادين بالدخول إلى مجالات لم تكن لهن ، لذا فالأفضل أن يكون له عالمه الخاص ، ولهن عالمهن الخاص ، وهو ما حاول فعله طوال السنوات السابقه ، ولا يزال.
عاد بعد حينٍ إلى واقعه عندما تذكر الإعلان ، فلمحت عيناه الكم الهائل من الأوراق أمامه ، وهو المسؤول عن اختيار النص الأميز بين النصوص ، فمد يده إلى درجه ، وفتحه ليخرج منه النص الوحيد الذي أعجبه ، بعنوان ( عالم بلا نساء ) ، لمؤلف يدعى ( نهاد حمدان ) ، فهو الوحيد الذي بقي بعد أن استبعد النصوص النسائية من البداية ، ثم النصوص الذكورية في مرحلة لاحقة ، والتي تلقاها عبر مكتب الاستبقال.
فالنص يروي قصة إنسان ثري ضاق بزوجته المادية وطلباتها اللامتناهية من النقود ، وملَّ تجاربه النسائية كلها لأنه كان يرى في عيون النساء نفس الهدف من الرجال ، ألا وهو المال فقط ! لذا قرر أن يتهادن مع نفسه ، فيأخذ إجازةً من العالم ، ويذهب في رحلة بحرية عبر البحر الأحمر لعدة أيام . لكن المفارقة هي أن الباخرة التي أقلته تعرضت إلى عطل في عرض البحر ، مما تسبب في غرقها ، وهرب عدد من الركاب عبر قوارب صغيرة ، وألواح خشبية طفت على وجه الماء ، وهذا ما كان له ، أن تعلق بقطة خشبية حملها الماء بعيداً عن موقع الغرق ، ليطفو وحده لمدة ثلاثة أيام فوق مياه البحر بعيداً عن الأرض ، كاد خلالها أن يموت ، وهو ما جعله يتذكر زوجته اتي هرب منها ، ويتمنى أن يراها مجدداً ، ويفكر فيما آمن به ، إلا أن الحظ شاء بأن ينجو ، ويعود إلى عالمه الجميل في اليوم الرابع ، يعود إلى زوجته التي عرفت أنها لا يمكن أن تحيا من دونه ، فهو عالمها الجميل أيضاً.
النص جميل ، والتلخيص يتفتق عن قلمٍ رشيق واعد يحتاج إلى من يمد له يد المساعدة ، لكن هناك مشكلة ، إن النص يخالف مبادئه ، لذا إذا كتب للنص أن يظهر للعلن فلا بد للنهاية أن تتغير.
حاول غير مرة - دون اقتناع - أن يقذف بالنص إلى القمامة ، ويختار نصاً آخر ، غير أن شيئاً ما شده إلى النص ، شيئاً ما جعله يبحث في السيرة الذاتية المرفقة بالتلخيص ، والتي لم يدون فيها سوى :
الإسم : نهاد نهاد حمدان السكن : العاصمة
إضافة إلى رقم هاتف خلوي غير مستعمل ، ولضيق الوقت ، آثر أن يحاول الاتصال مجدداً ، لكن هذه المرة من خلال الرقم الخاص بمكتب استعلامات شركة الهواتف العامة . عندئذٍ اتصل ، وسأل عاملة المقسم عن هاتف السيد نهاد حمدان ، فلم تمض ثوانٍ حتى كان الرقم قد دُوَّن على أجندته الخاصة ، ولم تمضِ فترة مماثلة حتى رفع السماعة محاولاٍ الاتصال به.
إنها مفاجئة ! إنه يسمع الرنين عبر السماعة ، لكن أحداً لا يرفع السماعة المقابلة .
وفيما هو يهم بإقفال الخط ، سمع أحدهم يقول : آلو . فوضع السماعة على أذنه ، وقال بسرعة : مساء الخير . أهذا منزل السيد نهاد حمدان ؟ نعم . إنه هو . أيمكنني أن أكلمه ؟ الآن لا يمكن ، فهو في المستشفى .
فوجئ حيدر بما سمع ، فتابع سائلاً : في المستشفى ؟ خير ؟ هل هناك خطبٌ ما ؟
فأناته الصوت قائلاً : إنه بخير ، لكن حالة الآنسة الصغيرة هي التي في خطر ، فربما بين لحظة وأخرى تدخل إلى غرفة العمليات.
فتابع في سؤاله : وفي أية مستشفى هو؟
قال هذا ، وأخذ يُدَوِّن العنوان ، ثم أغلق الهاتف ، وقفز عن كرسيه ، ومضى إلى خارج المبنى متوجهاً إلى المستشفى.
هناك ، لم يجد صعوبة في العثور على غرفة ( نهاد حمدان ) ، فالكل يعرف هذا الاسم بوضوح ، والجواب دائماً ، الغرفة 111 ، إنه حقاً لرقمٌ مميز.
في النهاية وجد نفسه أمام باب الغرفة ، فدق الباب ، ثم فتحه بهدوء ، ودخل . إنها غرفة واسطة ، يتوسطها سرير ترقد عليه فتاة نائمة ، صارخة الجمال ، بدت في نومها تشبه كثيراً تلك ( الأميرة النائمة ) التي قرأنا عنها في القصص.
أخذ يقترب منها شيئاً فشيئاً ، لكنها استيقظت على وقع خطواته ، فجمد في مكانه ، وبدأ ينظر إلى عينيها الزرقاوين ، أما هي فأخذت تنظر إليه باستغراب ، حتى كسرت الصمت وسألته : تفضل ! هل تبحث عن شيءٍ ما ؟
فأجاب بتردد : إني أبحث عن السيد نهاد حمدان ، لقد أبلغت أنه هنا.
إن أبي ليس هنا ، لقد ذهب إلى مكتبه قبل قليل ، لكنه سيعود بعد نصف ساعة ، إذا رغبت يمكنك انتظاره ، فهو لن يتأخر . فقال : لا . شكراً ، لكن رجائي أن تبلغيه أن حيدر عبد الحق من شركة الانتاج يرغب برؤيته في السرعة الممكنة ، بخصوص إحدى قصصه الجميلة.
عندئذٍ ، بدا عليها شيء من الدهشة ، سرعان ما تحول إلى ابتسامة عريضة على وجهها الأبيض ، وفيما وهو شارعٌ بالخروج من الغرفة ، استوقفته الفتاة ، وهي تقول : أستاذ حيدر . لحظة من فضلك ! فتوقفت ، ومن ثم التفت إليها منتظراً أن تتابع كلامها ، فقالت : هل تقصد أنه قد وقع اختيار الشركة على قصة ( عالم بلا نساء ) ؟
فقال بنبرة هادئة : يبدو كذلك ، ولكن هل أخبرك الوالد عنها شيئاً ؟
فأجابت بفرح : ولماذا عليه أن يخبرني شيئاً عنها إن كنت أنا من كتب تلك القصة ؟
وهنا كانت الصاعقة ، هي من كتب القصة ، فلم يصدق ما سمع ، فقام بسؤالها على عجل : أنت ؟ ولكن من كتب القصة هو نهاد حمدان ؟
فلم تخفِ دهشتها وهي ترد قائلة : وما في ذلك ؟ أنا نهاد حمدان .
وهنا تذكر حيدر ما قرأه في ورقة السيرة الذاتية ، قرأ الاسم : نهاد نهاد حمدان ، لكن شكاً لم يراوده في احتمال أن تكون ذلك الاسم يعود لأنثى ، لو حتى بنسبة واحد في المئة.
وهنا أحس بصدره يضيق ، فارتمى إلى الكرسي المجاور إلى سريرها ، و بدأ يرخي ربطه عنقه ، أما هي فقفزت عن سريرها متجهةً إليه ، متناولة كوب ماءٍ كان يتوسط المنضدة ، وذلك لكي يشرب.
المفاجأة فاقت كل التوقعات ، فاقت كل تصور حتى كاد أن يغمى عليه ، الأسئلة الكثيرة تتزاحم في عقله ، لكنه بعد أن تمالك نفسه ، هدأ ، ثم بدأ يتجاذب معها أطراف الحديث ، خاصةً وأن براءتها المطلة من وجهها قد ألقت بظلالها عليه ، فتجرأ وسألها : إذن أنت من كتب تلك القصة !
ثم استطرد قائلاً بعد وقفة قصيرة : - ومنذ متى تكتبين ؟ وابتدأت تسرد له تفاصيل عشقها للكتابة شيئاً فشيئاً - رغم أنها من عائلة ثرية - تفاصيل سعيدة وأخرى حزينة ، غير أنها منذ فترة ليس بالبعيدة أصيبت بمرض خبيث ، وقد أجمع الأطباء أن الحل الوحيد الذي يمكن أن يمنحها الشفاء هو إجراء عملية جراحية ، وهو ما سوف يحدث فعلاً صباح اليوم التالي .
عندها أبدى أسفه على ما سمع ، إلا أن ذلك لم يمنعه من طرح السؤال الذي من أجله إلى هذا المكان ، هل بإمكان نهاية قصتك أن تكون نهاية مختلفة ؟
حينها قالت له أن هذا العالم ليس رجلاً فقط ، وليس أنثى فقط ، إن العالم هو للرجل والأنثى ، وبالرجل والأنثى ، لكن المشكلة أن كثيراً من الرجال لا يبحثون إلا على جسد المرأة فقط لكي يطفئوا شهوتهم ، وكثيراً من النساء يبحثن على ثروات الرجال فقط لإطفاء حاجاتهن التافهة ، بينما الحقيقة هي شيءٌ آخر ، هي أن كلا الطرفين لا بد أن ينظر في عيني الآخر بدلاً من النظر إلى جسدها أو إلى جيبه ، لذا لم يكن من مجالٍ آخر للقصة سوى تلك النهاية ، وهذا من وجهة نظري.
عندها صمتت ، وعيناه لا تكادان تفارقان وجهها ، وأذناه لا تكادان تنفكان عن سماع كلماتها ، وكأنه استمتع بما سمع ورأى . وفي النهاية ارتسمتْ لقد أحس حيدر بأن إحساساً جديداً قد ولد في داخله ، أحس بها في داخله ، و أيقن أن في هذا الزمن الردئ الذي تبحث فيه المرأة عن المال في كل الزوايا ، توجد امرأة ما في زاوية أخرى من العالم تبحث عن الحب الصادق ، وكلها أمل بأن تجده يوماً ، رغم أن المرأة هي المرأة .
وهنا قام عن المقعد ، وابتسم إليها وهو يقول : أنا مضطرٌ لأن استأذن ، لكني أعدك أن أمر بك غداً ، وغداً لنا لقاء .
ومدَّ يده ، وسلم عليها ، ثم مشى نحو باب الغرفة ، ثم التفت ونظر إليها مجدداً ، لكنه كان يراها هذه المرة فتاة أخرى غير تلك التي رآها أول مرة ، رآها أجمل مما كانت ، فودعها ، ومضى في طريقه إلى مكتبه ، وهو يرى كل النساء من حوله مختلفات هذه المرة ، بعد أن أيقن في قرارة ذاته أنه ما من عالم في هذا الكون بلا نساء .
#طارق_قديس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سارقة الأضواء
-
في بيتنا إرهابي!
-
وخير جليسٍ في الزمان .. !
-
البحث عن بطل
-
لبنان والديمقراطية المغدورة
-
رحيل في المستحيل
-
دعوة إلى حفل تنكري
-
أنا وأنتِ وثالثنا (قرداحي)!
-
موعد مع عزرائيل
-
هل الديمقراطيون والجمهوريون وجهان لعملة واحدة؟
-
الأستاذ والطبشورة
-
الشعب من الزهرة .. والحكومة من المريخ !
-
صاح الديك !
-
كذبة إبريل
-
مذكرات بندقية مشلولة
-
أراكِ
-
الضوءُ الأحمر
-
حوار جاهلي مع امرأة متحضرة
-
في جنازة الأسقف (فرج رحو)
-
أمشي
المزيد.....
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
-
نقل الموناليزا لمكان آخر.. متحف اللوفر في حالة حرجة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|