|
مَناسكٌ نرجسيّة *
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2191 - 2008 / 2 / 14 - 09:52
المحور:
الادب والفن
من مفكرة ميّت / كانون الثاني 1954
حولي ، صارَ لجميع الأشياء طعمُ الرحيل ، المرّ . ما أن أفيقُ صباحاً على نعمة الحياة ، حتى أبادرُ " أملَ " بسؤالي اليوميّ : " هل إتصلَ العقيدُ ؟ " . شهران ، وهيَ قابعة بالقرب من سريري ؛ قربَ لجة كوابيسي . رأيتني هذا النهار ، أفضلَ . أقلّ تعاسة ، إنما بلا إنصياح وردتها . لشدّما أصابها التغيّر ! حوّلها مريضها ، المُتبرّم ، إلى كتلة من القهر . هيّ ذي عروقي ، المُسترخيَة بعدُ ، لا تلبثُ أن تغلي ، مجدداً : صباح البارحة ، ثرتُ بوجه المسكينة ، لتعمّدها نقل جهاز المذياع إلى غرفتها . جازَ لها أن تفعل ذلك ، مشفقة ً على راحتي من التوتر المُصاحِب سماعي للأخبار والتعليقات السياسية .
لن يُسلّم العقيد بسهولة . أنا أعرَفُ به من أولئكَ السياسيين المغرورين ، الفخورين بمأثرة تأليبهم بعض الضباط ، المنتمين لعصبيّاتهم الضيّقة . فما أن حرّك هؤلاء الأخيرون قطعاتهم العسكرية ، إلا وهرولَ سياسيونا بخفة إلى العاصمة ، حاملين شروطهم بإعادة عمل البرلمان والحكومة ؛ وبكلمة اخرى ، إعادتهم ـ كزعماء أحزاب ، إلى سابق وجاهتهم ونفوذهم . كان العقيدُ ثمة ، بإستقبالهم . أنصتَ بلباقته ، المعهودة ، لآرائهم وشروطهم ، قبلَ أن يأمر بزجهم في المعتقل ، جنباً لجنب مع أصدقائهم ، القابعين فيه مذ عُزل رجل الهاشميين من منصبه ـ كوزير أوّل .
ولكن ، فلأتحدّث الآن عن هذه الوردة ، المنطويَة على أمل ٍ مستحيل . ما كانت قد تجاوزتْ هيَ الخامسة عشر من عمرها ، حينما زفت إليّ . جرى ذلك ، قبل نحو خمس سنوات . عرسنا ، الذي أقيمَ في المنزل الكبير ، شهدَ حضور كبار جنرالات الجيش والدرك ؛ هؤلاء ، الما عتمَ كلّ منهم أن تسلل من بين الحاضرين ، ليركب سيارته ، الخاصّة ، فيقودها بنفسه متخذاً جهته صوبَ الجنوب . بدوري ، كنتُ على أهبة الإنطلاق ، مُنتظراً اللحظة المناسبة . هكذا دلفتُ وعروسي إلى غرفة نومنا ، الناصعة ، المؤرّجة بشذا الزهور والعطور ، الفرنسية . فيما عيناي متشاغلتان بتأمل البهجة ، الطفلة ، كانت يدي تمتدّ لزجاجة الويسكي . من جهتها ، دأبتْ إبنة عمّي على إطراقتها المُطوّلة ، المُهيمن عليها نسيجُ التفتا ، المُهفهف ، المحتفي بتفاصيل الجسد الفتيّ ، الناضج . مبدداً أخيراً الصمتَ ، الحرجَ ، توجّهتُ إليها بالكلام متلطفاً : " لمَ لا تخلعي عنكِ طرحة الدانتيل ، على الأقل ؟ " . ربما كانت تنتظرُ ، مني ، هذه الحركة المطلوبة . بيْدَ أنها ، إثرَ تردد قصير ، بادرتْ إلى تحرير رأسها ، الجميل ، من ذلك العبء . وكما في منظر خرافيّ ، إنسكبَ شلالٌ ذهبيّ ، دافق ، من تلك الأعالي ، السماوية ، نحو منحدر جيدها وكثيب روادفها . هربتُ بعينيّ ، المشدوهتين ، إلى متابعة عقرب ساعة يدي ، والمُتسلل قربَ الرقم الحادي عشر ؛ وكان من المحتم عليّ ، قطعاً ، التواجد في ذلك الإجتماع المُقرر ، الخطير ، في تمام الساعة الواحدة . عندئذٍ ، ما كان لي إلا أن أستعيدَ لحظاتٍ ، مماثلة ، لمُلهمي " الملك الناصر " : أورثني طموحَه ، وقالَ لي أنْ إسعَ لتأثل إرادتكَ . ـ " لديّ الآنَ مهمّة ، عاجلة . لا تنتظري أن أعودَ في هذه الليلة ! " ، خاطبتُ إمرأتي بلهجة الثكنة ، الصارمة . وكانَ أن رفعتْ نحوي ، ولأولَ مرة ، نظرتها الخضراء ؛ الصافيَة والمدهوشة ، في آن . ولكي أخفف من وقع عبارتي ، تناهضتُ نحوَ جلستها ، المتململة على طرف السرير ، الوثير ، منحنياً عليها من ثمّ بقبلة ملتهبَة ، مُوَقعَة على مفرق تاجها ، الذهبيّ . بدَتْ وجلة ، في إنتظارها خطوتي ، التاليَة . على أنني سرعان من غادرتُ الحجرة العروس ، دونما أن أدع خلفي حتى تحيّة .
*** في الوقت المُحدّد ، وصلتُ إلى عاصمة " الجولان " ، المحروسة بالجبل الأعلى ؛ هذا المتبدّي بهامته المُكللة بالثلج ـ كشيخ وقور . كنتُ على معرفة مسبقة بالمكان ؛ أين مزرعة " جعفر بك " ، النائب الأول لكتيبة الفرسان ، الشركسيّة ، والمُحتبية إقطاعة واسعة من مدخل المدينة . فزوجتي الأولى ، " جانباتوك " ، كانت على قرابة بالرجل ، وقد سبق لنا أن زرنا فيلته هذه في بعض المناسبات . ذكراها ، المسكونة في أعماقي ، دأبتْ على التململ ، المُعذب ، خلال تواجدي بمدينتها . وهيَ ذي صورتها ، البهيّة ، تقتحم ذاكرتي مجدداً ؛ أنا المُحتفل لتوّه بقران إمرأة اخرى ، والمتأهّب لحضور إجتماع ، مُستطير ، قد يغيّر تاريخ بلدنا . ويبدو أنّ ملامح وجهي قد تمثلت حالة الحنين ، الشجنة . إذ شعرتُ عند مستهل الجلسة بنظرات زملائي الضبّاط ، الفاترة ، المُسدّدة نحوي ؛ وإختراقها من ثمّ لكلمتي ، المُعبّقة بعُرف الكحول ، والمُختتم بها المَحْضر السريّ ، الإنقلابيّ .
بُعيدَ إستكمال خططنا والقسَم على المصحف الشريف ، تكرّم عليّ " الزعيم " بمجاملةٍ ودودة ، مباركة زواجي الجديد ؛ هوَ المعرّف لدينا ، في الجيش ، بصفة العازب الأكبر . وكان أن ضافرَ شعوره الوديّ ذاكَ ، برغبته العودة معي في سيارتي ، الخاصّة . راحَ يهوّم خلل الطريق ، فيما جرمه ، الهائل ، يشكو من ضيق المقعد الأماميّ . ـ " حالما نصل الشامَ ، علينا الذهاب إلى مديريّة الشرطة " ، قالَ عازبنا المتحرر للتوّ من ربقة غطيطه . في مركز المديرية ، أدهشني مرأى " كرَم الحمَويْ " ، وكان مُنهمكاً بحماسة في إعداد البلاغات ، الرسميّة ، المُفترض إذاعتها على الأهلين في صباح الثلاثين من آذار . هذا الأفاق ، المُغامر ، الحاقد على المقامات الرسميّة جميعاً ، كان على قرابة بـ " الزعيم " ، من ناحية الأمّ . وربما أنّ عقيدنا ، في آخر الأمر ، إستطاع إقناع المجلسَ السريّ ، الإنقلابيّ ، بجدوى الإفادة من إمكانات رجل مثله : كان هذا الداهيَة ، المتطرف ، يمحض النظامَ القائم عداوته العلنية ، محرضاً بإستمرار ريفَ حاضرته على الأسياد الملاكين ؛ هوَ المُنتمي بنفسه إلى أرومتهم . وجهة نظر العقيد تلك ، لاقتْ إستحسان معظم ضبّاط المجلس . الحق ، فقد كان أملنا جدّ ضعيفٍ بإمكانية كسب السياسيين ، التقليديين . علاوة ً على حقيقة اخرى ، وهيَ أنّ كلّ من الرئيس ووزيره الأول ، ما زال يغفو على التهليل ، الشعبيّ ، الممجد مقارعة المُستعمر الأجنبيّ .
لم يُقدّر لي ، على كل حال ، أن أجتمعَ مع " الزعيم " مرة ً اخرى . إثرَ نجاح الحركة ، شغلَ الرجلُ عن ضبّاطه بما كان من تضلعه بمهمّة جديدة ، جسيمة : أعلنَ نفسه ببساطة رئيساً ، ثمّ ما عتمَ أعوانه أن فتحوا للناس مجالسَ تأييدٍ ، دُعيتْ بـ " البَيْعة " . والصحف المحلية ، القليلة ، المُتبقية على قيد الحياة ، ستخرج بدورها مُبايعة ً الإنقلابيّ بهذا المانشيت ، المُشترك : " مؤهلات " صلاح الدين " مُتجسّدة في شخص " الزعيم " المُفدّى " . ولكنّ رجال الدين ، كما بدا لاحقاً ، ما إهتموا بتلك المؤهلات ، الموسومة ، قدَرَ قلقهم من محاولات العهد الجديد ، العسكريّ ، فرض النظم والقوانين الحديثة ، غير المراعيَة لأحكام الشريعة ، على رأيهم . لا غروَ ، إذاً ، أن يهتاج خطباء المساجد ، محرضين المؤمنين على " الزعيم " ؛ هذا المُشبّه من لدنهم بأبي الأتراك ، العلمانيّ . شيئاً فشيئاً ، سيتناقص عددُ الموالين بالنسبة لأولئك الساخطين ، المتعاظمي العدد والعدّة . حتى القريب ، الداهية ، المُساهم في التخطيط للإنقلاب ، ما أسرع أن أنقلبَ إلى عدوّ لدود ، يُناهض الحكم العسكريّ من منفاه ، اللبنانيّ .
*** ثمّ جاء ذاكَ اليوم ، المشهود ، حينما قاد في عشيّته شيخٌ مُعتبَرٌ ، أخوانيّ الهوى ، مجموعة من مريديه ، متوجهاً بهم إلى منزل الرئيس ، المحروس من قبل سريّة شركسيّة ، خاملة . وما لبثتْ هتافاتهم ، الحادّة ، أن تعالت مرددة ً مفردة ، وحيدة حسب : " الجهاد ! " . كان " الزعيم " وقتئذٍ في منزله ، وتناهى إليه صياحُ أولئك الدهماء ، الغاضبين ؛ الصياح ، الما عتمَ أن سكنَ بعيد دقيقة اخرى . هوذا على الشرفة ، بالروب دي شامبر ، البيتيّ ، يطلّ على الحشد ، الجامد . إستمرّ الصمتُ لبرهة ، متطاولة ، إلى أن دبّت الجرأة بأحدهم . ـ " متى نحررُ فلسطين ، يا صلاح الدين ؟ " ، صرخَ بالشرفة صوتٌ قويّ . الرئيس ، المتهوّر المزاج بطبعَه ، تجاهلَ الجملة تلك ، الساخرة ، مُجيباً على الفور ببرودة : " الآن ! " . ثمّ إستطردَ وهوَ يلقي نظرة على ساعة يده : " بعد ثلاثين دقيقة ، بالكثير ! " .
بعدئذٍ ، وفيما الهرجُ يتلاعبُ بالساحة المحيطة بمنزل الرئيس ، حضرَ عددٌ من السيارات العسكريّة ، الثقيلة . ها هنا ، خاطبَ " الزعيمُ " رعيّته أولئك ، المذهولين : " تفضلوا ! أمرتُ السائقين أن يتوجهوا بكم إلى الجبهة ، كيما تحرروا لنا فلسطين ! " . وبطبيعة الحال ، لم يصعد أيّ منهم إلى العربات تلك ، المُنتظرة ثمة . إنما من المحتمل أنّ " الزعيم " ، بعد ذلك بأربعين يوماً ، قد إستعادَ مشهدهم ، الطريف . إذ جرّه رفاقه ، العسكريون ، من المنزل ذاته ، عنوة ً ، وكان يرتدي منامته نفسها . ثمّ أرغموه على الصعود مكبلاً إلى إحدى سياراتهم ، الثقيلة ، فتوجّهوا به ليعدموه على الطريق الرئيس ، المفضي للسجن الحربيّ ، المنذور للإعتقالات السياسيّة .
* مستهل الفصل الثاني ، من رواية " برج الحلول وتواريخ اخرى " [email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دعاء الكروان : تحفة الفن السابع
-
ميرَاثٌ مَلعون 5
-
ميرَاثٌ مَلعون 4
-
ذهبٌ لأبوابها
-
ميرَاثٌ مَلعون 3
-
ميرَاثٌ مَلعون 2
-
ميرَاثٌ مَلعون *
-
كيف نستعيد أسيرنا السوري ؟
-
أختنا الباكستانية ، الجسورة
-
جنس وأجناس 4 : تصحير السينما المصرية
-
زهْرُ الصَبّار : عوضاً عن النهاية
-
زهْرُ الصَبّار 13 : المقام ، الغرماء
-
الإتجار المعاكس : حلقة عن الحقيقة
-
زهْرُ الصَبّار 12 : الغار ، الغرباء
-
نافذتي على الآخر ، ونافذته عليّ
-
من سيكون خليفتنا الفاطمي ؟
-
طيف تحت الرخام
-
زهْرُ الصَبّار 11 : المسراب ، المساكين
-
زهْرُ الصَبّار 10 : الغيضة ، المغامرون
-
جنس وأجناس 3 : تسخير السينما المصرية
المزيد.....
-
الممثل السعودي إبراهيم الحجاج بمسلسل -يوميات رجل عانس- في رم
...
-
التشدد في ليبيا.. قمع موسيقى الراب والمهرجانات والرقص!
-
التلاعب بالرأي العام - مسرحية ترامبية كلاسيكية
-
بيت المدى يؤبن شيخ المخرجين السينمائيين العراقيين محمد شكري
...
-
مصر.. الحكم بحبس مخرج شهير شهرين
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي بتهم -الاعتداء والسب-
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي شهرين لهذا السبب
-
الكويت توزع جوائز الدولة وتحتفي باختيارها عاصمة للثقافة العر
...
-
حتى المواطنون يفشلون فيها.. اختبارات اللغة الفرنسية تهدد 60
...
-
محاضرة في جامعة القدس للبروفيسور رياض إغبارية حول الموسيقى و
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|