حمزة رستناوي
الحوار المتمدن-العدد: 2150 - 2008 / 1 / 4 - 11:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تقوم الايديلوجيا على دعاوى مفادها أن الحقيقة هي عقار له أوراق ملكية في السجل العقاري
و الايديلوجيا التي تنجح في إثبات ملكيتها لهذا العقار هي الايديلوجيا المنتصرة , أما الايديلوجيات التي لم تنجح في كسب دعاوى الملكية فسوف تسلك طريقين:
إما أن تطعن في قرار حكم الملكية و هي الايديلوجيات المحافظة
أو تطعن في شرعية المحكمة و هي الايديلوجيات الثورية
الايديلوجيون هم أولئك المتحمسون لدعاوى ملكية الحقيقة , و أولئك المشتغلون لإثبات ملكيتهم لهذه الأرض.
و الايديلوجيات تختلف عن بعضها فقط باختلاف الحجج المُساقة و طريقة عرضها لإثبات ملكية أرض الحقيقة.
و الحجج التي يقدمها الايديلوجيون إما أن تكون من مصدر علمي و بذلك نكون أمام الايديلوجيات الوضعية.
و إما أن تكون الحجج من مصدر غيبي و بذلك نكون أمام الايديلوجيات الدينية.
و تختلف الايديلوجيات كذلك بطريقة عرض الحجج المسوقة و هنا يشترط وجود منطقية على المستوى الظاهري على الأقل, لكي تصبح المذكرة القضائية مقنعة جماهيريا ً.
إن الايديلوجي يعتقد دائما ً أنه على حق , و قضية الايديلوجي مصيرية تحتاج إلى تضحيات و إيمان حديدي, فامتلاك أرض الحقيقة يحتاج إلى مؤمنين و مناضلين يعتورههم الأمل في خلاص جماعي- فردي . خلاص يتجسد باسترجاع أملاك جدهم المسروقة, و الخلاص من الظلم و التبشير بالنهوض, فالايديلوجيا وليدة الرغبة و الايديلوجيون ينشدون الحلم, فكل ايديلوجي هو إنسان رومانسي بصيغة ما.
**
الايديلوجيا هي النواة الصلبة لتشكيل " مُعْتمَرْ" اجتماعي, أي طائفة و تكتسب هذه الطائفة تفردها و تميزها عن الطوائف الأخرى من خلال التمركز حول هذه النواة الصلبة دون غيرها.
لكل إيديولوجي أعداء و معارضين مثلما لديه أصدقاء و أنصار, و بما أن كل إنسان لديه أعداء و أصدقاء بطبيعة الحال, و لكن ما يميز عداوة و صداقات الايديلوجي كونها تخضع أو تعتمد مقاييس خارجية " صارمة" يدَّعي موضوعيتها و علميتها, مقاييس تلغي ألوان الطيف لصالح ثنائية الأبيض و الأسود.
إن الايديلوجيا كما ذكرت تقوم على نواة صلبة من الأفكار و المعتقدات تتمظهر عبر الأشخاص الذين يعتنقون هذه الايديلوجيا و الذين بدورهم يشكلون طائفة لها هوية و شخصية مميزة عن الآخرين. و من هنا تستمد القداسات الزمنية و المكانية و الشخصية و تجلياتها الطقسية و الاحتفالية أهميتها, باعتبارها تراث- ذاكرة- مشترك متصل مع و منفصل عن التراث الإنساني العام, بحيث تقدم الايديلوجيا نفسها كوريث شرعي وحيد للتراث الإنساني, أو كوريث ذو مكانة خاصة متفوقة
**
الايديلوجيا إذن هي 1- نواة صلبة من الأفكار و المعتقدات 2- معتمر اجتماعي " طائفة "
و لذلك فالايديلوجيا حدث تاريخي بامتياز كون هذه النواة الصلبة من الأفكار و العقائد – الاتاريخية- يمكن و بسهولة تقصي و كتابة السيرة الذاتية لها عبر دراسة الأنساق الثقافية المنتجة لها
و كذلك يمكن بسهولة تحديد تاريخ بداية لتشكل هذا المُعْتَمَرْ البشري المجسد الايديلوجيا " الطائفة " فظهور الايديلوجيا على مسرح التاريخ هو بحد ذاته نقطة ضعف قاتلة لها, فلم يعد ممكنا ً بعد الآن إدعاء الأصل و القطيعة مع الثقافة السابقة , فالايديلوجيا تسترجع و تعيد إنتاج أفكار و عقائد و تقدمها على أنها علاقات منطقية على المستوى الظاهري على الأقل
و للتغلب على مطب التاريخ لجأت الايديلوجيا إلى حيلة تقول : إن هذه النواة الصلبة و هذه المقدسات و الطقوس التي تقول بها و تقوم بها" طائفتنا" صحيح أنها ظهرت على مسرح التاريخ في زمن محدد, و لكنها في الحقيقة موجودة خلف ستار المسرحية وراء الكواليس منذ الأزل, و لكنها ظهرت فقط في هذا التاريخ. و ما الأفكار و الأحداث و الشخصيات التي سبقت ظهورها سوى إرهاصات و مقدمات ضرورية حتى تستوعب هذه الايديلوجيا العظيمة من قبل العالم و الحضور على مسرح التاريخ
**
الايديلوجيا ضرورة للمجتمع فهي المحرك لحدوث تغيير اجتماعي اقتصادي سياسي, و الايديلوجيا بالتأكيد تحقق مصالح" نظرية و عملية" يدركها جيدا ً المُؤدلجون , ووجود هذا التاريخ الطويل من البطولات و التضحيات و المآثر التي تتغنى بها كل جماعة أو طائفة مؤدلجة دليل ذلك.
إن معظم الذين يتبنون تفكيرا ً مؤد لجا ً هم أناس ليسوا سيئين بطبيعتهم, و لكنهم أناس حالمين مؤمنين بعدالة و صحة قضيتهم, و لكن التاريخ يؤكد أن معظم المجازر و حروب الإبادة الجماعية و التطهير العرقي و التعذيب قام بها أناس يؤمنون بالايديلوجيا, أو أناس أشرار يبررون الأفعال اللاأخلاقية التي يرتكبونها بضرورة المرحلة أو أنها شر لا بد منه. حيث أنه لا بأس من التضحية بأفراد أو أقلية ما بغية بناء المجتمع العادل المزدهر أو تحقيق إرادة الله على الأرض بالنسبة للايديلوجيات الدينية, فالايديلوجيا كمنظومة تصورات تؤمن بها الجماهير عاطفيا ً و نفسيا ً تتبرع بأن تقدم نفسها كحصان طروادة للأشرار . فأصحاب المصالح السلبية و الأهواء الفاسدة الذين لا يتورعون عن المتاجرة بالايديلوجيا و استغلال مزاياها الكبيرة في التحشيد و تنمية غرائز القطيع و إتاحة الفرص لظهور العدوانية عند الإنسان و تحويل مجرى الايديلوجيا باتجاه فردي أناني متسلط و القول المأثور " الثورات تأكل أبنائها" مصداق لهذه الفكرة.
فالايديلوجيا ضعيفة المناعة تجاه الاستبداد بل هي وسط نمو ملائم لنو الاستبداد كونها تعطي المستبد كل العذر و الحجج في التخلص من الخصوم باسم أعداء الثورة – أعداء الدين – أعداء الوطنية – أعداء الإنسانية .
**
إن ظهور الايديلوجيات الوضعية هو وليد الحداثة و انتصار العقلانية و ازدهار العلوم , فقبل عصر الحداثة الغربية كانت الايديلوجيا الدينية هي المهيمنة و لم تكن هذه الايديلوجيات الدينية لتنسب نفسها إلى العلم أو تدعي العلمية بل كانت الايديلوجيات الدينية على نطاق واسع تعتقد بتفوقها على العلوم . خاصة أن الطريقة العلمية التجريبية و المنطق الاستنتاجي العلمي لم يتبلور بعد بشكله النهائي
فالايديلوجيات القومية و الماركسية هي ايديلوجيات وليدة الحداثة الغربية و انتصارها , و لكن الملاحظ أنه في عصر ما بعد الحداثة و تدني قيمة المرجعية العقلانية الصارمة و الطعن فيها أخذت موضة الايديلوجيات بالتلاشي , ذلك أن العقل الذي دأبت هذه الايديلوجيات على نسبة ذاتها إليه قد نبذها, و أعاد تقيمها و كشف الزيف الذي تمارسه هذه الايديلوجيات باستعارتها نتفا ً من العلوم و دمجها في بناء فكري و توظيفها لها, و من ثم الادعاء بأنها ايديلوجيات علمية.
تقوم الايديلوجيا على مقولة تجاوز الحدود بين الحقول المعرفية, فهي أشبه بقاطع طريق يغير على العلوم لينتزع نتفا ً منها , يغير على علم النفس ليبني نظريته الايديلوجية بدعم نفسي قوي يضمن التفاعل الجماهيري, و يغير على الفلسفة ليأخذ منها حقائق و روابط و يصنِّع من كل ذلك معقولية إجمالية مقنعة على المستوى الظاهري, و لكنها متهافتة عند مساءلتها كمنظومة مفهومية و تشريحها منطقيا ً, أقول تبدو مقنعة على المستوى الظاهري لأنه عادة ما تعتمد صياغة لغوية بسيطة و مبهرة و مثيرة.
و لكن إذا كانت الايديلوجيا تحتوي على النقائض و الأباطيل و الخداع لماذا نجحت الايديلوجيات عبر التاريخ في تشكيل دول و ربما الهيمنة على شعوب و أمم عديدة و ما يزال لها حتى الآن أتباع و مناضلين؟
الجواب أنه يوجد دائما ً لدى الجماهير مصالح حقيقية و ليست هامشية أو بطرا ً معرفيا ً في تبنّي لا بل و الإيمان بهذه الايديلوجيات
فالفقير الذي يتبنى الايديلوجيا الماركسية صاحب مصلحة حقيقية
و الأمة المجزئة و المستلبة صاحبة مصلحة حقيقية في تحقيق وحدتها و الخلاص من القوى المهيمنة عليها؟ و كذلك من يرشح نفسه ليكون زعيما ً سياسيا ً له مصلحة حقيقية في تحشيد الجماهير و مدغدغة مشاعرهم؟ و الإنسان الذليل المقهور يبحث عن ايديلوجيا تجسد قيم العدالة و الحرية
فالمجتمعات و الأفراد بغالبيتها و غالبيتهم, تجد و يجدون, في الايديلوجيا نافذة لرؤية المستقبل ,و نافذة كذلك للتملص عبرها من الحاضر البائس إلى المستقبل المشرق.
#حمزة_رستناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟