“الشيخ والفيلسوف-… حوارٌ على الحافّة


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 11:05
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial
"الشيخ والفيلسوف" للكاتب الإصلاحي "شريف الشوباشي"، الصادرة عن دار "الياسمين"، ليست رواية بالمعنى الكلاسيكي، بل حوارٌ مطوّل، يُذكّرنا بمحاورات "أفلاطون" التي استنطق فيها "سقراط" ليناقش، عمدًا، أمورًا بديهية، ثم يحفرُ في البديهيات تدريجًا من أجل الوصول إلى أشدّ الأمور إشكاليةً وتعقيدًا واشتباكًا. كتابٌ هادئٌ لا يبحث عن الإثارة، ولا يتغذّى على الصدام، بل يحاولُ بوعيٍ بناءَ مساحة آمنة للحوار والتأمل والمراجعة، مكتوبٌ بقلم يدرك أن العنف لا يبدأ بالسلاح، بل بكلمة تُقصي الآخر.
الكتابُ لا يناقشُ "الدين"، بل "رجل الدين"، ولا يناقشُ الفلسفةَ بل حاملَها. فلم يدخل "الشوباشي" ساحة الدين والعقل كمحارب، بل كحَكَمٍ بين طرفين يقول: هيّا نفهم قبل أن نُدين. وهذا الخيارُ الأخلاقي، وإن بدا محافظًا، يُعدُّ موقفًا جسورًا في سياق مأزوم بالاستقطاب والعنف والأحادية. جاذبيةُ الكتاب في رسم الشخصيات بموضوعية وأناقة. لم يُعملِق ولم يُقزِّم، لم يُؤَسطِر ولم يُشَيطن. حتى البطل المحايد "مصطفى" طالب العلم الذي يُجلُّ المتحاوريْن: “الشيخ والفيلسوف"، ويُحبُّهما بنفس القدر، لم يُظهر الكتابُ مَيلَه لأحد على حساب الآخر. وكنتُ أتمنى أن تتدخّل "آية"، شقيقةُ البطل، في الحوار، لنُنصِت إلى صوت المرأة في هذا الحوار؛ فيغدو أكثر ثراءً. المتحاوران: الشيخ والفيلسوف، رمزان لصوتين تاريخيين يتعاركان داخل وجدان الثقافة العربية وعقلها. لا يهدف الكتابُ إلى إلغاء أحدهما، بل إلى إظهار إمكانية التعايش بينهما دون أن يُفني أحدُهما الآخر. وهنا تكمن رهافة المشروع.
لغةُ الرواية هادئة، خالية من الاستفزاز، أقرب إلى نبرة الحكيم لا نبرة الثائر. وقبل أن تؤاخِذ برودتَها الدرامية، تكتشف أنها اللغة التي تمنح القارئ الشعورَ بالأمان الفكري. لا أحد يسخر من الآخر، ولا أحد يرفع صوته. الكل يُصغي. وكأن الكاتب يقول: هكذا "فقط" يمكن للأفكار الثقيلة أن تُقال.
"الشيخ" في الرواية ليس صورة نمطية للواعظ المنغلق، بل رجلُ عقل، يرى في الدين مساحة أخلاقية للمعنى، لا أداةَ قمع. و"الفيلسوف" ليس متعاليًا، بل إنسانٌ يبحث عن الحرية والمعرفة دون ازدراء للإيمان. هذا التوازن المقصود يجعل الرواية أقرب إلى دعوة للمصالحة منها إلى مناظرة لكسب النقاط. وقد يُلامُ الكتابُ لأنه لا يذهب بأسئلته إلى الحافّة، ولا يجرُّ الشخصيات إلى الانكسار، ولا يسمح للقلق الوجودي بأن يبلغ ذروته. لكنني أظنُّ أن "الشوباشي" أراد أن يقول إن الحكمة ليست في الصراخ، ولا كل الحقيقة تكمن في الجرح. الرواية لا تسعى إلى زلزلة اليقين، بل إلى عقلنته. لا تريد هدم المعبد، بل فتح نوافذه ليدخل الضوء. وهي بهذا المعنى ليست رواية أزمة، بل صوت الطمأنة الفكرية وسط ضجيج القلق الجمعي. قيمة الكتاب ليست في السؤال، بل في أسلوب طرحه، والإصرار على أن الخلاف لا يستلزم العداء، وأن العقل يمكن أن يرافق الإيمان دون أن يشعر أيٌّ منهما بالتهديد. رواية نظيفة اللغة، إنسانية المقصد؛ تُقرأ ببطء، وتُقدَّر على مهل. لا تصفع القارئ ولا تُربكه، بل تضعُ يدَها على كتفه. وهذا ما نحتاجُ تذكّرَه: أن الحوار العاقلَ فضيلةٌ عصيّة. "الشيخ" في الرواية ليس فردًا بقدر ما هو موقف، و"الفيلسوف" ليس إنسانًا بقدر ما هو أطروحة. وهذه أول مفارقة في السرد: روايةٌ بلا فردانية وشخصنة؛ أقربُ إلى تمرين ذهني منها إلى مغامرة وجودية. لذلك اختار لغة مهذبة، خالية من العنف الرمزي. الجميع عقلاء، متزنون، مستعدون للإنصات. وهذا يُخالف تاريخيًّا مسارَ الفلسفة والدين. فالفلسفة لم تتقدّم بالحوار، بل بالشرخ والقلق.
"سقراط" لم يكن مبتسمًا، "سبينوزا" لم يكن مطمئنًا، "نيتشه" لم يكن وديعًا، وحتى المتصوفة، حين بلغوا ذُرى الصفاء الروحي، مرّوا أولًا بجحيم القلق والعذاب. أمّا في رواية "الشيخ والفيلسوف"، فالنقاشُ يدور في غرفة معقّمة، خالية من الخطر.
"الشيخ" في الرواية ذكي، متسامح، خفيف الظل غير متزمت. و"الفيلسوف" إنساني، غير عدائي، ولا يزدري الإيمان. هذي المثالية الأخلاقية، ربما أفقرت الصراعَ الدرامي الذي لا ينشأ إلا بين رؤيتين تُهددان بعضهما بعضًا في العمق. ما الذي يخسره الشيخُ إن انتصر الفيلسوفُ؟ وما الذي يخسره الفيلسوفُ إن انتصر الشيخ؟ الإجابة: لا شيء. وكأن الكاتبَ يريدها معركة Win-Win Battle.
نجحت الرواية في طرح أسئلة: الحرية، الإيمان، الخوف من الموت، ومعنى الحياة بعد انكسار اليقينيات الكبرى. لكنها لم تمض بتلك الأسئلة إلى نهاياتها المؤلمة. كلُّ سؤال يُسحب قبل أن ينزف. كلُّ قلق يُرمَّم قبل أن يجرح. وهنا نلمح بوضوح شخصية "الشوباشي" المثقف الأنيق، وهو يجلس إلى مكتبه ليخطَّ رواية ذكية، نظيفة، شريفة المقصد، لا تكسر الجدارَ بل تطرقه برفق. رواية تفتح باب الحوار دون صراخ. تُذكّر بأن العقل والدين ليسا أعداء، بل هما فقط نسيا نقاط اللقاء.


***