-يسرا اللوزي-… درسٌ هادئٌ في الحضارة


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8563 - 2025 / 12 / 21 - 11:58
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

"يسرا اللوزي"… درسٌ هادئٌ في الحضارة1
Facebook: @NaootOfficial
نشرت الفنانةُ الجميلة "يسرا اللوزي" صورةً لها مع طفلتها الجميلة "دليلة”. الصورة تنطق بالجمال بجميع مستوياته. حلاوةُ الشكل، براءةُ العيون، الحنوُّ والبساطةُ وفوق كل هذا: "الأمومة"، التي تُشعُّ وحدَها ضوءَها الخاص. يكفي أن تنظر إلى هذين الوجهين الجميلين لتشعر بأن الحياة حلوة. لكنْ، ولأن الجمالَ يقهرُ القبحَ، تجتهدُ الدمامةُ أن تُطلَّ بوجهها لتفسدَ لوحةَ الجمال الآسر! وجه الدمامة تجسّدَ في تعليق أقل ما يوصف به أنه "وقح"؛ وهذه كلمة شديدة التهذيب، لهذا بوسعك أيها القارئ أن تفتح سلّة الكلمة وترمي فيها كل ما سمعته في حياتك من قاموس الوقاحة والانحطاط. مُعلّقُ رقيع عديم التربية يعايرُ الفنانةَ الجميلة بـ"صمم" طفلتها! تصوّروا مستوى الانحطاط والبذاءة!
لكن القصة لم تنته هنا، وإلا لضممنا الحكايةَ لأرشيف حالات التنمّر والبذاءة التي نتعرّضُ لها جميعًا على يد فقراء الخُلُق والدين. الحكاية امتدت إلى منطقة النور والحضارة حين قررتِ الفنانةُ المثقفة خريجةُ مدارس "مير دي ديو" Mère de Dieu، ألا تتجاهل التعليق التافه، وتشدّه من الظلام إلى النور. قالتِ الجميلة ردًّا على التعليق:
(شكرًا على ذوق حضرتك. أنا قررت أستغلّ كلامك اللطيف عشان أقدم شوية توعية بخصوص هذا المصطلح: أولًا، المصطلح الصحيح والمقبول هو الصُّم وضعاف السمع، وليس “الطرش” أو “البكم”. ثانيًا، أحب أعبّر عن فخري بكوني والدة طفلة صماء لأنها علمتني حاجات كثيرة جدًا، وبقيت بني آدمَة وأم أحسن بسببها. وأنا متأكدة إنها هتطلع إنسانة مثقفة ومتفوقة ومش هتحتاج مساعدة من حد عشان تحقق أحلامها.)
تصوروا حجمَ الفجوة الحضارية والتربوية والثقافية والأخلاقية بين الطرفين! يقول لها: بمنتهى الوقاحة: - “ماشي يا أم الطرشة"، فتكظمُ الجميلةُ غيظَها، وتعفو عنه، ثم تُحسن إليه بأن تعلّمه ما فاته تعلُّمه من أمّه ومن المدرسة، إن كان قد عرف يومًا طريقَ المدارس. هكذا طبّقت "يسرا" الآيةَ الكريمة: “والكاظمين الغيظَ والعافين عن الناس والله يُحبُّ المحسنين"، تطبيقًا حرفيًّا أنيقًا. “يسرا اللوزي"، في هذه الواقعة، لم تُقدّم درسًا في الإنسانية والأخلاق وحسب، بل قدّمت درسًا في السيطرة على المعنى. ومَن يملك المعنى لا يُهزَم. درس يُعلّمنا أن ليس كل إساءة تستحق انفعالًا، ولا كل جهل يستحق شتيمة، بل من السموّ أن تُرِي خِصمَك ضآلتَه وضآلة أدواته. ما فعلته الفنانةُ المثقفة ليس “ردًا راقيًا” وحسب، بل أعلنت إفلاس الخصم بأن تركته عاريًا أمام لغته. لم تُدِن المتنمر، ولم ترفع نفسَها، بل رفعت مستوى الحديث، ثم غادرت.
"يسرا اللوزي" لم تتصرف كما تفعل “الضحايا النموذجيات” في زمن السوشيال ميديا: لم تطلب التعاطف من جمهورها العريض، لم ترفع الصوت، لم تحذف التعليق وتحظر صاحبَه، ولم تتقمص دور الأم الجريحة. اختارت ما هو أخطر: اللغة الدقيقة والمعرفة، والسموّ.
بدأت من "الموضوعي" بتفكيك المصطلح، لا بوصفه خطأ لغويًّا، بل بوصفه خللًا معرفيًا. قالت، بهدوء إن التعبير الصحيح هو “الصُّم وضعاف السمع”، لا الألفاظ الدارجة التي تنتمي إلى زمن كان يعتبر الإهانة توصيفًا. لم تُدافع عن ابنتها، بل أعادت ترتيب أوراق الوعي العام: مَن يملك حق التسمية؟ ومن يقرر ما هو “طبيعي” وما هو “ناقص”؟ ثم انتقلت إلى "الخاص": أن ابنتها لم تكن عبئًا، بل "معرفة”. أنها لم "تتحمّل" اختلافها، بل تعلّمت منه. وأن هذه الطفلة الساحرة، التي أرادها المتنمرُ مادةً للسخرية، لا تحتاج شفقة أحد كي تحقق أحلامها.
الفرق بين المتحاوريْن بمسافة عشر سنين ضوئية، فهو ليس خلاف رأي، بل اختلاف تربية. ليس خلافًا لغويًا، بل مسافة أخلاقية. الفارق بين الطرفين فارقٌ "بنيوي”. الأول يتكلم من موقع الغوغاء والحوشة، والثانية تتكلم من موقع السيادة: تعرف ما تقول، ومتى تتوقف. لم تُدافع عن ابنتها بالشكوى، بل بالعلم. لم تنتقم بالكلمات، بل أعادت بناء اللغة. صحّحت المصطلح، وسمّت الأشياء بأسمائها. كأنها تقول: الجهلُ ليس في الإعاقة، بل في اللسان الجهول المسموم. طرفٌ يرى في الاختلاف مادةً للسخرية، وطرفٌ يرى فيه درسًا في الإنسانية. طرفٌ يكتب من قاع ثقافة شعبوية هجومية، وطرفٌ يتحدث من موقع أمٍ متصالحة، مثقفة، تعرف أن الكرامة لا تُنتزع، بل تُمارَس. هذه ليست معركة شخصية، بل نموذج مصغر لمعركة أكبر: بين مجتمع يتعلّم كيف يتكلم عن الاختلاف، ومجتمع ما زال يضحك عليه. بين لغة تُنقذ، ولغة تُدمّر. بين إنسانٍ يُربّي، وآخر يُفرّغ عقدَه ومرضه في تعليق.
هنا، بالضبط، يسقط التنمر. ليس فقط لأنه جريمة أخلاقية، بل لأنه فقير. فقير لغويًا، فقير رمزيًا، فقير إلى حدّ أنه لا يملك إلا الإشارة بالإصبع. فخورةٌ بك يا صديقتي الجميلة “يسرا اللوزي”. وقُبلة لـ”دليلة”.


***