توقيع -فاروق حسني-... على جدارية التاريخ


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 8514 - 2025 / 11 / 2 - 10:46
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

Facebook: @NaootOfficial

أحلامُ الكبار لا تموت. بل تكافحُ لتغادرَ أرضَها؛ وتصيرُ واقعًا يَسُرُّ الناظرين. وها هو حلمُ الفنان "فاروق حسني" ينهض من قلب الرمال، ثم يشرقُ على جبين مصر شمسًا تتوّج أعظمَ متحف لحضارتها على وجه الأرض. "المتحف الكبير" كان لوحةً مؤجَّلة رسمها الوزيرُ الفنان في قلبه وفي مرسمه؛ لأنه يدرك أن الفنّ هو الجسرُ الذي تعبر عليه الأمم والحضارات من الذاكرة إلى المستقبل، وأن الجمالَ جزءٌ أصيلٌ من الأمن القومي. بعد غدٍ يوقِّعُ الفنانُ الحالمُ على لوحة رسمها، وجعل من مصر إطارًا لها.
كثيرٌ من الأحلام تظلُّ حبيسةَ أرض الأحلام قيد الخيال. وبعضها تتجسّد لتصير حجارةً وعمارةً ومجدًا جديدًا. Grand Egyptian Museum كان فكرةً راودت وزيرًا يتيه فخرًا بحضارة بلاده، وصار اليوم صرحًا مهيبًا يجمعُ تراثنا الماجد صنعةَ أيادي أجدادنا العظماء.
منذ تسلّم حقيبة الثقافة في ثمانينيات القرن الماضي، لم ينظر إلى وزارته كمنصب إداري أو كرسيّ سلطة، بل كمشروع ثقافي وفني كبير. رجلٌ جاء من محراب اللون، كان من الطبيعي أن يقود الوزارة بروح رسامٍ يخط أحلامه على جدار الزمن. وحين حَلُم بمتحف يليق بتاريخ مصر، لم يكتفِ بالترميمات ولا بتوسيع المخازن. بل رامَ وثبةً حضارية تليق بمصرَ، وتكمل مسيرة التاريخ من حيث توقّف الأجداد.
هكذا وُلدت فكرةُ المتحف الكبير. أطلق الفنان "فاروق حسني" مسابقة عالمية للتصميم، جاب العواصمَ، قدّم فكرته للمؤسسات الثقافية، طرق أبواب التمويل، وأصرّ أن يرى المشروعُ النورَ مهما طال الزمن. يومها، لم يكن أحد يتخيّل أن مصر ستضع على عتبات الأهرامات أعظم متحف مصري في العالم. لكن الفنان الذي خبر قيمة الحلم ظلّ يقاوم، يشرح، يخطط، ويقنع. لم يكن مشروعًا هندسيًا فحسب، بل مشروع هوية وطنية.
اليومَ ونحن نتجوّل بين القاعات التي تحتضن كنوزَ الفراعنة، ندرك أن "فاروق حسني" لم يكن وزيرًا برتبة فنان وفقط، بل كان حامل شعلة تنوير. فهو الذي غرس البذرة التي أثمرت هذا الصرح المهيب. ولذا يصبح الحديث عن المتحف الكبير دون ذكر اسمه، ضربًا من جحود الذاكرة. ومصر، كما نعرفها، تزهو بمن يكرّس أمجادها. ولذا قال الله تعالى: "ولا تبخسوا الناسَ أشياءهم”.
كم هو مشرقٌ أن نرى الفنان "فاروق حسني" حاضرًا يوم الافتتاح إلى جوار الرئيس المثقف "عبد الفتاح السيسي"، بين قادة العالم وضيوف مصر، ليقصّا شريط المجد ويشهدا اكتمال الحلم الذي ما عاد حلمًا؛ لكي نخطَّ رسالة إنسانية وأخلاقية تقول للأجيال: إن الأحلام الكبرى تحتاج إلى رجال يحرسونها؛ حتى تغادر خانة الحلم وتسجّل حضورها في خانة الواقع.
المتحف المصري الكبير ليس صرحًا عملاقًا نباهي به الزمان، بل هو تعويذة حضارية، تعيد صياغة علاقة مصر بتاريخها، وتفتح أبواب المستقبل للسياحة والثقافة والاقتصاد. المتحف رؤية معمارية تُحاور المكان لا تنافسه: الهرم في الخلفية، المتحف في الامتداد؛ وكأن الزمن يسير أفقيًا في خط واحد من ماضي مصر إلى مستقبلها. وأما المحتوى، فليس "تجميعًا" لآثار مصر، بل "هندسة معنى”: الفرعون جوار مُعتقده، القطعة جوار سياقها، والنص جوار روحه. وهكذا يُولد المتحف ككتاب مفتوح، لا كصندوق مغلق.
في مثل هذا الصرح العظيم، يصبح الفنُّ معرفة، والمعرفةُ هوية، والهويةُ مشروعًا للمستقبل. وهذا بالضبط ما آمن به الفنان "فاروق حسني" حين حَلُمَ، وما أكدته الدولة المصرية حين أنجزت. لقد تلاقى القلبُ الذي حلم، مع القلم التي خطّط، مع العقل الذي قرر، مع الأيادي التي نفذت؛ فكانت النتيجة صرحًا يليق ببلدٍ كتبت السطرَ الأول في كتاب الحضارة، فإذا ذُكر التاريخ ذُكرت معه.
واليوم، بعد سنوات طوال من التخطيط والبناء والعمل الدؤوب، يأتي الافتتاح الرسمي ليؤكد أن الدولة المصرية تمتلك الآن إرادة ثقافية موازية لإرادتها السياسية والعمرانية والإنسانية. فالمتحف الكبير ليس حدثًا سياحيًا فحسب، بل إعلانُ موقع جديد لمصر على خارطة الوعي الإنساني، يتواكبُ مع اعتلاء البروفيسور المصري “خالد العناني” صرح منظمة اليونسكو. فكما بنت مصر الأهراماتَ لتخاطب المطلق في عمق الزمان، ها هي اليومَ تبني متحفها الكبير لتخاطب عقل العالم الجمعي بروح حديثة عميقة الجذور.
حين زرتُ رأس "نفرتيتي" في "متحف برلين" لأول مرّة، هالني أن قاعةً ضخمة خُصِّصت بكامل أمتارها وحرّاسها وأبوابها ومتاريسها لرأس ملكة مصرية، اختلسها الألمانُ منّا في لحظة غفلة. وكم كنتُ أرجو أن نستعيرها، ولو لبعض يومٍ، في لحظة افتتاح متحفنا الكبير!
المتحف الكبير ردٌّ حضاري هادئ على فوضى العالم الراهن. فحين يتقاتل البشرُ على الخراب، تبني مصرُ المعنى. المتحف الكبير كتابٌ سيغيّر علاقة الأجيال القادمة بحضارتها. كتابٌ تقول فيه مصر للعالم: "هنا وُلد الجمال، وهنا يتجدد”.

***