ترامب والمد الرجعي العالمي، تغييرات في النظام السياسي البرجوازي


مؤيد احمد
الحوار المتمدن - العدد: 8296 - 2025 / 3 / 29 - 02:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


صعود ترامب للمرة الثانية الى سدة الحكم في أمريكا، عن طريق فوزه في انتخابات تشرين الثاني 2024، وفوز حزبه الجمهوري بأغلبية مقاعد المجلس والشيوخ في هذا البلد، وقيامه خلال اكثر بقليل من شهرين من تولي كرسي الرئاسة، بدءً من 20 كانون الثاني 2025، بتنفيذ سياسات وأوامر رئاسية كثيرة معدة مسبقا، قد احدثت هزة سياسية كبيرة ليس داخل امريكا فحسب، بل أيضا على الصعيد العالمي، وبالأخص على صعيد النظام السياسي البرجوازي العالمي.
وعليه، يمكن القول بان العالم الرأسمالي، مع صعود ترامب، بدأ يدخل حقبة جديدة من تصاعد الرجعية السياسية النيو فاشية، وسباق محتدم في التسلح، وهجمة برجوازية شرسة متعددة الابعاد على معيشة وظروف عمل الطبقة العاملة والمضطهدين والتحررين ومكاسبهم من الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية، ومن الحقوق والحريات السياسية والمدنية والثقافية، في امريكا وبلدان العالم المتعددة.
وهي حقبة تتميز باشتداد وتوسيع نطاق السياسات الرأسمالية، وفق نمطها النيو ليبرالي الاقتصادي، المناهض للطبقة العاملة وسائر المضطهدين، وبتصاعد السياسات الاقتصادية البرجوازية القومية، أي الانعزالية الاقتصادية القومية، وبتفاقم ازمة النظام السياسي البرجوازي داخل أمريكا وعلى الصعيد العالمي، وباشتداد الصراعات الجيو سياسية والجيو اقتصادية والعسكرية.
ان ما حدث وسيحدث ليس نتاج هذا الفوز والقوة القاهرة لترامب وحزبه وتياره حصرا، وكقوة قائمة مستقلة بذاتها، انما الفوز نفسه وشخص ترامب والتيار هم انفسهم نتاج عملية مسبقة تاريخية ضرورية جارية داخل أمريكا وعلى الصعيد العالمي، وذلك حتى قبل صعود ترامب داخل الحزب الجمهوري، دع جانبا فوزه في الدورة الانتخابية الاولى والثانية.
وعليه، فان ترامب ليس سوى صدفة وعامل ذاتي ضمن هذه العملية التاريخية الموضوعية؛ فلو لم يكن هناك ترامب لدفعت هذه العملية المادية بشخص آخر، بمواصفات اقل او اكثر رداءة او شراسة من ترامب، او اقل او اكثر كفاءة منه، الى المسرح الاجتماعي والسياسي والفكري والى سدة الحكم. وهذا يعني، انه من الضروري وقبل كل شيء ان نفهم المحور الأساس لتلك العملية التاريخية التي أدت الى ظهور هذا التحول في السياسة في امريكا وهذا التغيير في اتجاه النظام السياسي البرجوازي العالمي والذي جسده ظهور ترامب.
وهذا لا ينفي، بطبيعة الحال، أهمية دور ترامب وتياره وحزبه الجمهوري وبكلمة Trumpismالترامبية ، كعامل ذاتي، من حيث تأثيره وتفاعله مع العملية التاريخية المشار اليها أعلاه، أي لما تركوه وسيتركون من تأثير على مسار هذه العملية نفسها، ليس فقط من ناحية دوره على إيجاد الشكل المحدد الذي يعبر عنه الطور الجديد في هذه العملية التاريخية، بل على المسار والعملية نفسها. وبالتالي فانه من الأهمية بمكان فهم وتحليل دور ترامب كفرد والترمبية كتيار وحزب وحركة سياسية وفكرية ايضا، في تقوية المد الرجعي العالمي الحالي في المجالات المختلفة التي ذكرناها.

ازمة رأس المال الأمريكي وظهور الترمبية
لم تعد الرأسمالية الامبريالية الامريكية تحتل اليوم تلك المكانة التي كانت تتمتع بها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، في بداية التسعينيات من القرن الماضي، كالدولة الامبريالية العظمى الوحيدة التي كانت تقود العالم الرأسمالي، وذلك بالرغم من انها لا تزال اكبر دولة رأسمالية في العالم اقتصاديا وعسكريا ونفوذا على النظام السياسي البرجوازي العالمي.
ان هذا الواقع الجديد وهذا التراجع النسبي في الموقع العالمي لأمريكا، يحمل دلالات غاية في الأهمية ويعتبر تطورا نوعيا في مسار تاريخ الرأسمالية العالمية وعملية نمو تناقضاتها. ان هذا التغيير في موقع امريكا لم يحدث على حين غفلة، بل كان نتاج لعملية طويلة، على مدار اكثر من أربعة عقود، من تطور النظام الرأسمالي نفسه، مع ما رافق ذلك من الحروب والاحداث الكبيرة، بما فيها انهيار الاتحاد السوفيتي وانضمام روسيا وبلدان "الكتلة الشرقية" الى فلك الرأسمالية الامبريالية الغربية وديناميكية تراكم وحركة راس المال على الصعيد العالمي بقيادة امريكا.
وهكذا، فان هذا الوضع الجديد الذي تعيشه الان أمريكا، قد انبثق داخل حركة راس المال العالمي والنمو المتباين للاقتصاد الرأسمالي لبلدان العالم المختلفة، وفي مسار تطور النظام الرأسمالي العالمي نفسه، وخلال عملية تطوره عبر عقود. بعبارة أخرى، فان موقع أمريكا الحالي هو نفسه نتاج عقود من عولمة راس المال وحركته وتراكمه وتطور رأسمالية السوق الحرة على هذا النطاق العالمي، مدعومة بسياسات اقتصادية نيو ليبرالية تبنتها الدول الرأسمالية بقيادة الرأسمالية الامبريالية الامريكية.
لقد كان البرنامج واللاحة السياسية والاقتصادية للبرجوازية الامبريالية العالمية خلال تلك الحقبة، يتمحور حول توسيع رقعة الخصخصة في ميدان الإنتاج والخدمات والاتصالات والنقل وغيرها، وإزالة ضوابط وقيود الدولة البرجوازية ومؤسساتها امام تراكم راس المال، وفتح الأسواق والحدود وكسر القيود على نطاق العالم امام حركة راس المال عموما وراس المال المالي على وجه الخصوص، والقيام بشن حرب طبقية شرسة عالميا، وبشكل متزامن، على الطبقة العاملة ومنظماتها ونضالاتها الجماعية، وسلب مكاسب هذه الطبقة من الحقوق والحريات والتحسن في مستوى معيشتها وظروف وفرص عملها، وتجريدها عما تمتعت بها من الخدمات العامة التعليمية والصحية والاجتماعية، وذلك منذ بدايات الثمانينيات من القرن الماضي ولحد الان.
في خضم هذه العملية، باتت دول واقتصاديات أخرى تنمو وتحتل المكان على المسرح العالمي اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وانبثقت تكتلات اقتصادية ودولية من أمثال الاتحاد الأوروبي وبريكس وتكتلات اقتصادية في شرق آسيا، كما واعادت روسيا مكانتها كدولة عسكرية مقتدرة في النظام البرجوازي الدولي، وتطورت الصين اقتصاديا وعسكريا وسياسيا بوتائر متسارعة و بمعدلات نمو اقتصادي متميز وبشكل حتى أصبحت الدولة العظمى الثانية بعد أمريكا في العالم اقتصاديا وعسكريا، وبالتالي اصبح النظام العالمي يتسم بتعدد الأقطاب. وهكذا شهد دور أمريكا تراجعا خلال هذه الفترة وبالأخص مقارنة مع الصين، وباتت تواجه دولا واقطابا عسكرية وكتل اقتصادية أخرى صاعدة ضمن عملية تطور الرأسمالية. ان استراتيجية وبرنامج وسياسات ترامب والترامبية هي في جانب أساسي منها هي الرد على موقع راس المال الأمريكي والرأسمالية الامبريالية الامريكية هذا، في خضم ديناميكية وتفاقم تناقضات العالم الحالي.
ومن هنا فان جواب ترامب والترامبية على هذا الموقع للرأسمالية الامريكية وهذا التراجع النسبي في موقعها عالميا، يشكل جوهر سياساته واجندته، ولكن هذه الاجندة وقبل كل شيء هي اجندة رأسمالية مناهضة للعمال داخل أمريكا وعلى الصعيد العالمي، وهذا ما سنأتي عليه في سياق المقال.

الترامبية كتيار وجناح وكفئة اوليغارشية رأسمالية،
وعلاقتها بالرأسمال الاجتماعي وبالطبقة العاملة
قبل الخوض في تفاصيل سياسات ترامب تجاه الاقتصاد الرأسمالي في أمريكا، ورده على معضلات هذا النظام، وإستراتيجيته وسياساته على نطاق النظام الرأسمالي العالمي، فانه من المهم وقبل كل شيء تحديد علاقة هذا الجناح وهذه الفئة البرجوازية الامبريالية وهذا التيار السياسي والفكري النيو فاشي بالرأسمال الاجتماعي في أمريكا، والأهم من ذلك علاقته بالطبقة العاملة والصراع الطبقي الجاري في هذا البلد.
ان ترامب وتياره، وعلى العكس من ادعاءاتهم "الديماغوجية" والخطابات "الشعبوية" حول الدفاع عن مصالح العمال في أمريكا ومساعيهم لتوفير فرص العمل لهم بأجور عالية، واخراجهم من قبضة الفقر والتهميش، هم من اشد مناهضي الطبقة العاملة واكثر المدافعين شراسة عن راس المال الأمريكي والفئة البرجوازية الكبيرة في هذا البلد. وهذا يتجلى في سياساته وتركيبة حكومته ومختلف اجراءاته وأوامره المناهضة للعمال والشبيبة والنساء والطلبة ومعظم الجماهير.
ان ترامب يمثل تيارا سياسيا وجناحا نيو فاشيا ضمن الطبقة البرجوازية الامبريالية الامريكية وتياراتها الاجتماعية والسياسية والفكرية، وهو في الوقت نفسه، وبعد ان مر ببعض التحولات، يمثل بشكل مباشر ورئيسي مصالح راس المال الاوليغارشيي في قطاع المالية والطاقة والتكنلوجيا العالية والتكنلوجيا العسكرية والعقارات، ضمن الرأسمال الاجتماعي في هذا البلد، وبهذا المعنى يعد ممثلا مباشرا لفئة معينة من الرأسماليين. وهذا واضح وجلي ولم يخفيه ترامب عن احد، ويعكسه في مجمل سياساته وخطاباته وأوامره وإجراءاته وفي الامتيازات التي يعطيها لهذه الفئة لإدارة البلاد في مختلف الميادين الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية داخل أمريكا وخارجها. يضم الان 13 ملياردير في هيئات مختلفة لأدارته ومجموع ثروات اكبر الأغنياء منهم تتجاوز 460 مليار دولار بمن فيهم (ايلان موسك).*
لقد تبنى ترامب وتياره استراتيجية وسياسة محورها الرئيسي تقوية دور أمريكا الاقتصادي والسياسي والعسكري على النطاق العالمي، وذلك عن طريق خلق ظروف استغلال اشد للطبقة العاملة ومحيط استثمار اكثر ربحية للراس المال داخل أمريكا، ودعم سباق التسلح والاستثمار الرأسمالي المتزايد في القطاع العسكري والصناعات الحربية، وتطوير "التكنولوجيا العسكرية العالية"، وصولا الى استخدام الذكاء الاصطناعي في الاستثمار الرأسمالي ولتطوير آلة الدولة الحربية لتأمين تفوق امريكا العسكري بوجه رقبائها على الصعيد العالمي وبشكل خاص بوجه الصين. **
لتحقيق هذه الأهداف الرأسمالية الامبريالية، سواء على صعيد امريكا او على الصعيد العالمي، فان الترامبية وهذه الفئة البرجوازية المتحكمة الان بمصير المجتمع، كتيار وتقليد سياسي فكري برجوازي قومي نيو فاشي، تبنت برنامج واستراتيجية سياسية نيو فاشية، ليس هذا فحسب، بل بدأت تعمل على إرساء نظام سياسي برجوازي ذو ايديولوجيا فاشية مناهضة بشراسة للشيوعية والحرية والمساواة، وللحقوق والحريات المدنية والسياسية للأفراد، ومناهضة للنساء وتحررها، والغارقة في ممارسة العنصرية والتمييز على أساس لون البشرة والعرق والمعتقد والجنسية، وباختصار مناهضة لكل ما يمت بصلة بتحرر الانسان وكل ما كسبته الطبقة العاملة والتحررين في هذه الميادين.
هذا البرنامج، وهذه الاستراتيجية النيو فاشية، هي الوسيلة والسياسة والخطة العملية لهذا الجناح الرأسمالي لإعادة ترتيب بيت راس المال الاجتماعي في أمريكا وضمان استمرار سيادة هذا الرأسمال على مقدرات المجتمع وتطوير مصالحه في قلب الرأسمالية العالمية المتأزمة وتناقضاتها، وهي الرد السياسي والايديولوجي على معضلات راس المال الامريكي في العالم الرأسمالي الحالي الذي يسوده تفاقم التناقضات واشتداد المنافسة والصراعات الجيو سياسية والجيو اقتصادية والجيو استراتيجية المتفاقمة باضطراد.
غير ان هذا الشكل السياسي والايديولوجي مبني على أساس المزيد من توطيد وتوسيع رقعة سيادة علاقة راس المال ونظام العمل المأجور والملكية الخاصة البرجوازية لوسائل الإنتاج الاجتماعي. وهذا ما يربطه مباشرة، وبأواصر قوية، بالقيم والمفاهيم الليبرالية البرجوازية التي تقدس الملكية الخاصة البرجوازية للإنتاج الاجتماعي. وبهذا المعنى فان الترامبية استمرار لليبرالية البرجوازية وحتى للحزب الديمقراطي الأمريكي من حيث الأرضية الطبقية البرجوازية ومن حيث أساسيات منظومة المفاهيم البرجوازية الليبرالية وايديولوجيتها وفلسفتها الاساسية، ولا تتميز عنها سوى بالاستراتيجية السياسية والشكل السياسي والأيديولوجي المحدد، النيو فاشي، الذي باتت تتخذه الترامبية للرد على معضلات راس المال الاجتماعي في هذه الحقبة التاريخية.
ان التمييز بين جناحين وتيارين وحزبين ضمن معسكر البرجوازية، او التشابه بينهما، لا يكفي لتحديد علاقة أي منهما بالرأس المال الاجتماعي، اذ نحتاج الى ادخال عنصر آخر وهو القطب الطبقي المضاد، أي الطبقة العاملة، في البحث والتحليل لدرك ذلك بوضوح.
ان الجواب على السؤال؛ أي علاقة يقيمها ترامب وتياره مع راس المال الاجتماعي في أمريكا، واقصد مع المصالح العامة للطبقة البرجوازية في أمريكا؟ نجده في تشخيص علاقة الترامبية بالطبقة العاملة.
ولذا فان الجواب على هذا السؤال، يكمن ليس في تبيان الأرقام والشواهد فيما يخص مدى تمثيل ترامب و تياره لمصالح احاد راس المال وفئات راس المال المتعددة والكثيرة المقسم عليها راس المال الاجتماعي، أي راس المال الأمريكي، بالتفصيل، بالرغم من ان ذلك مهم جدا، انما يكمن بالأساس في معرفة العلاقة التي يقيمها ترامب وتياره تجاه القطب المضاد داخل الرأسمال الاجتماعي، والذي لا يمكن للرأسمال فك الارتباط معه، أي مع العمل، وبالتالي مع الطبقة العاملة. وبكلمة يمكن إيجاد الجواب على السؤال في العلاقة التناحرية الفعلية لتيار ترامب بالطبقة العاملة كطبقة اجتماعية بأكملها.
وفي هذا السياق نرى انه، وبالرغم من كل الادعاءات لترامب وناشطي حركته، حول كونهم من داعمي الطبقة العاملة، وبالأخص ما ينشرونه حول دفاعهم عن فئة معينة منهم، "العمال البيض" و" العمال المتضررين" من وقع الاثار المدمرة للعولمة وحكم البرجوازيين الليبراليين والمؤسسات الليبرالية الحاكمة في أمريكا، وحكم ممثلهم الرئيسي الحزب الديمقراطي الأمريكي، فان سياساتهم الاقتصادية الرئيسية واستراتيجيتهم السياسية والفكرية المحورية هي مناهضة الطبقة العاملة في جميع الجبهات وعلى مختلف الصعد وهي:
سلب حقوق الطبقة العاملة وشل طاقاتها النضالية المنظمة والجماعية، وشد الخناق على نقاباتها واتحاداتها واعمالها النضالية؛ من الاضرابات والتظاهرات والاحتجاجات، وتخفيض الضرائب على الرأسماليين الكبار بالأخص على الفئة المحيطة بترامب، والتخلي شبه الكامل عن الدعم الاجتماعي والضمان الصحي وغلق وزارة التعليم، وطرد العمال والموظفين في دوائر الدولة الفيدرالية، وشق صفوف نضال العمال الطبقي على أساس اللون والعنصر والجنس، وتدمير كل ما تبقى من آثار الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية لجماهير الشغيلة، وخصخصة ما تبقى من القطاع العام من الخدمات، وبشكل متزامن مع ذلك، توسيع نطاق قمع الدولة واجراءاتها البوليسية وازالة الآليات القانونية التي تحد من ذلك، وهذا ما يتبين بوضوح في مجمل سياساته واساليبه النيو فاشية.
وهكذا فان الترامبية، هي مرحلة تفاقم واشتداد استغلال الطبقة العاملة وفرض المزيد من التراجع عليها، وسلب حقوقها وحرياتها ومكاسبها التاريخية، وبالتالي وضع عبء الأزمة التي تمر بها الرأسمالية الإمبريالية في أمريكا على عاتق الطبقة العاملة الأمريكية والعالمية على حد سواء.
"يتبع برنامج ترامب السيناريو الوارد في مشروع 2025 سيئ السمعة، الذي صاغته مؤسسة هيريتيج، التي تأسست عام 1973، في بداية العولمة الرأسمالية والثورة المضادة النيوليبرالية. يدعو هذا السيناريو إلى تحطيم ما تبقى من ضوابط الدولة Regulatory State؛ وخصخصة ما تبقى من المجال العام؛ وخفض الإنفاق الاجتماعي بشكل كبير، بما في ذلك التهديد بخفض وخصخصة الضمان الاجتماعي؛ وخفض الضرائب على رأس المال والأغنياء؛ وتوسيع نطاق جهاز الدولة للقمع والمراقبة؛ وفرض كل هذا من خلال تجاوز الآليات القليلة المتبقية للمساءلة الديمقراطية".***

ترامب والمزيد من النيو ليبرالية الاقتصادية،
وتناقضات الانعزالية الاقتصادية القومية
الترامبية من الناحية الاقتصادية ليست سوى توسيع وتعميق اكثر للتاجرية والريغانية، ولكن في عهد آخر وبشكل اكثر دمارا، أي تطبيق النيو ليبرالية الاقتصادية بشكل مضاعف وفي مختلف النواحي والمجالات. وان أولى أولويات ترامب، هو المزيد من هذه السياسات والهجمات على جماهير الشغيلة وسائر المضطهدين ومعظم الجماهير، وبالتالي على المجتمع، وتحويل الدولة الى أداة اضطهاد طبقي صارخ لخدمة راس المال والرأسمالية والتراكم الرأسمالي بدون أي التزام تجاه رفاهية الطبقة العاملة وعامة المواطنين.
ان شعار ترامب الرئيسي بـ "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، ووعوده بتوفير فرص العمل للعمال وتنمية اقتصاد أمريكا، وذلك بتشجيع التصنيع المحلي وعودة راس المال الأمريكي ورؤوس أموال "متعددة الجنسيات" الى الاستثمار داخل أمريكا، بالإضافة الى كونها امتداد لسياسات كان يتبناها الحزبان الحاكمان في أمريكا وكذلك الأحزاب الأخرى في مختلف البلدان الرأسمالية على الدوام، وذلك من ناحية إعطاء الامتيازات والاعفاءات الضريبية والتسهيلات القانونية للشركات و رؤوس الأموال الامريكية والدولية للاستثمار داخل أمريكا وتلك الدول، فان تحقيق ذلك عن طريق فرض الضرائب على البضائع المستوردة، سياسة مليئة بالتعقيدات والتناقضات وتؤدي الى تفاقم الوضع المعيشي المتردي اصلا للعمال.
ان السياسة الانعزالية الاقتصادية القومية، بفرض الضرائب على البضائع المستوردة وسد الطريق امام حرية حركة راس المال والبضائع، هي من حيث الجوهر سياسات لرأسمالية متأزمة، فلا يمكنها الجواب على المعضلة الأساسية والتناقض الكامن في نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه، وعملية تراكم راس المال ومعضلات تراكمه. ان تطبيق هذه السياسة الاقتصادية سوف لن تسفر سوى عن وضع عبئ الازمة الرأسمالية الامريكية على كاهل الطبقة العاملة وتدهور مستوى معيشتها عبر التضخم وغلاء المعيشة.
ان عودة راس المال "الأمريكي" وتشجيع راس المال "الأجنبي" الى الاستثمار داخل أمريكا يتحقق بقدر ما تكون ظروف استغلال عمل العمال اشد ومستوى أجورهم اقل ومستوى معيشتهم ادنى. لذا، فان علاقة سياسات ترامب الاقتصادية بالعمال والكادحين ليست سوى علاقة الاستغلال والاستثمار الوحشي لهذه الطبقة في مختلف المجالات بحيث يجعلها عرضة للاستغلال البشع امام الرأسماليين.
ان إثارة الأفكار الشوفينية والعنصرية من قبل الترامبية وتبنيها للتعصب الديني المسيحي وممارسة الشوفينية الدينية بوجه المهاجرين واللاجئين، وخلق الشقاق بين مختلف فئات الطبقة العاملة، تأتي ضمن هذه الاستراتيجية الرجعية المناهضة للطبقة العاملة وجميع الشغيلة في أمريكا.
كما وان تحالف تيار ترامب ودعمه المستميت للنيو فاشيين في أوروبا وبلدان امريكا الجنوبية وفي جنوب شرق اسيا وبقية بلدان العالم، جزء من استراتيجيته البرجوازية النيو فاشية المعادية للبروليتاريا والشيوعية. وفي هذا السياق فان تيار ترامب لا يسعى فقط لنشر النيو فاشية في جميع بلدان العالم ويتحالف مع احزابها وتياراتها ويدعمها بكل السبل، بل يناهض كل ما بقى من آثار المساومة الطبقية للطبقة الحاكمة البرجوازية وبالأخص في أوروبا تجاه الطبقة العاملة والتحررين سعيا منه لطي ملف النظام السياسي المسمى بـ"الاشتراكي الديمقراطي" في بعض بلدان هذه القارة.

ترامب والصراعات الجيو سياسية وحلف الناتو
من الواضح ان ترامب يريد لملمة قوى واقتدار أمريكا باعتبارها اكبر دولة امبريالية في العالم، حسب برنامجه واولياته، فان تراجع دور أمريكا على صعيد العالمي يستلزم عليه وعلى تياره ان يأتيان بسياسات وخطط متطابقة مع هذا الوضع الجديد. فمن وجهة نظر ترامب وهذا التيار، وكما يتبين من السياسات والمشاريع والخطط التي يطرحونها، فانهم يريدون ان يقلصوا الديون الهائلة على الدولة والواصلة الى عدة تريليونات، وفي هذا السياق يقدمون على قطع كل ما هو "زائد" و"غير ضروري"، والتخلي عن التزامات أمريكا العسكرية والأمنية والمالية تجاه تأمين "الامن الدولي" لحلفائها، ومن ضمنهم دول حلف الشمال الأطلسي (الناتو). كما ان الترامبية تركز على تقوية موقع الرأسمالية الامريكية ودولتها في محيطها القاري، وذلك بالضغط على كندا وبنما والسعي لشراء جزيرة (غرين لاند) وغيرها من الإجراءات والتي بمجملها سياسات تعكس الدور المتراجع لأمريكا والتركيز على المناطق المحيطة بها. وفي نفس هذا السياق التخلص من التزامات أمريكا تجاه توفير الامن للآخرين على حساب مصالح الراس المال القومي الأمريكي.
ان سياسات ترامب تجاه مناطق مختلفة في العالم وأولوياته، وبالرغم من بعض الاستثناءات، وبالأخص فيما يخص إسرائيل ومواجهة النظام في ايران، مبنية على أولوية الصراع مع الصين، وتطوير القدرة التكنلوجية والعسكرية لأمريكا وازدياد ميزانية الصرف في هذه المجالات ضمن سياق الاعداد لمواجهة الصين.
آخذين كل ذلك بنظر الاعتبار، فان سياسة ترامب من هذه الناحية لا تختلف كثيرا عن اولويات المؤسسة الحاكمة في أمريكا، اذ ان هذه المؤسسة والحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي متفقين على استراتيجية أولوية الصراع مع الصين، بالرغم من ان الديمقراطيين لم يتخلوا عن انخراطهم العسكري والمالي في بلدان العالم العديدة.
ان تحرك ترامب على انهاء الحرب في أوكرانيا والتنازل لروسيا وعقده صفقة معها، بمعزل عن الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وأعضاء حلف الناتو، وانسحابها من توفير حماية اوروبا العسكري في صراعها الجيو سياسي مع روسيا وغيرها من التهديدات، يشكل بمجمله تغييرات كبيرة وانبثاق حالة نوعية في العلاقات الدولية وفي موقع حلف الشمال الأطلسي.
ان الترامبية والسياسات التي يتبناها على الصعيد الجيو سياسي والاقتصادي والجيو استراتيجي، احدثت هزة كبيرة في بنيان النظام السياسي الدولي البرجوازي الذي بات سائدا منذ نهاية حرب العالمية الثانية، وهو تعبير عن مرحلة تراجع قيادة امريكا للرأسمالية العالمية والتحالفات الدولية والنظام السياسي البرجوازي العالمي المعتاد.

الأزمة الرأسمالية واجندة الترامبية،
موقع أمريكا في النظام الرأسمالي العالمي
ان قسما من الليبراليين البرجوازيين المنظمين في الحزب الديمقراطي الأمريكي وتيارهم، يتوهمون وينتظرون ان تنتهي فترة حكم ترامب بأمل ان تمر عاصفة أوامره وقراراته بـ "سلام"، ولكنهم في ذات الوقت، وفي قرارة انفسهم، مترددون، اذ يدركون ان الترامبية تطرح برنامجا واستراتيجية معينة لحل معضلات الرأسمالية المعاصرة في أمريكا، واستطاعت ان تجر، ليس قسما من المجتمع نتيجة للتوهيم بسياساتها "الشعبوية"، بل حتى قسما مؤثرا من أوساط الطبقة الحاكمة البرجوازية، دع جانبا صفا بعد الآخر من الاوليغارشييين الماليين والتكنولوجيين وغيرهم. ان تيار ترامب بات الخط السائد للبرجوازية المنظمة في الحزب الجمهوري وداخل أوساط قسم كبير من البرجوازية الامبريالية الامريكية مع ما تترتب عن ذلك من تداعيات على صعيد امريكا وعلى مستوى العالم.
وهذا يعني ضمن ما يعني بان الترامبية ظاهرة اشمل واهم من الفوز في الانتخابات او الهزيمة فيها، وذلك ببساطة لان صعود ترامب هو نفسه انعكاس لتفاقم الصراع الطبقي الجاري داخل أمريكا وعلى صعيد المجتمع باسره. انه صراع على أي نوع من السياسات والاستراتيجيات هي التي تلبي متطلبات حل معضلات الرأسمالية الامريكية في خضم العالم الحالي.
وبهذا المعنى، فان ما يقوم به الان ترامب وتياره، ليس مجرد اجراءات وسياسات لدورة برلمانية معينة للحزب الجمهوري، انما جواب على معضلات نمو وتطور راس المال الأمريكي، لذا فان البرجوازية الليبرالية المتمثلة بالحزب الديمقراطي لا تستطيع الصمود امام موجة التغييرات التي يحدثها برنامج واستراتيجية ترامب. ان هذه التغييرات ستكون لها تبعات ليس داخل امريكا فحسب، بل أيضا على الصعيد العالمي. وفي هذا السياق يمكن الإشارة الى ان ما حدث ويحدث للناتو ودور امريكا فيه حيث نرى انه من غير الممكن اعادته الى سابق عهده، فلا يمكن تجميع أجزاء الصخرة الصلبة التي تكسرت والتي كان يقف عليها الناتو والنظام الأمني والسياسي للإمبريالية الغربية، فان تحالفهم بحاجة الى صخرة أخرى وبالتأكيد ستكون هشة كذلك.
هناك شواهد تاريخية في مسار السياسات والتغييرات التي يحدثها جناح معين من البرجوازية لتنظيم وحماية النظام الرأسمالي. فتوني بلير في بريطانيا، وبيل كلنتون في أمريكا وبعد فوزهما على المحافظين والحزب الجمهوري كل في بلده، لم يغيرا من البرنامج الاقتصادي للتاجرية والريغانية، بل بالعكس طبقا نفس البرنامج حتى بدون تعديلات شكلية جديرة بالذكر وسموها "الطريق الثالث".
بمعزل عن التغيير في الظروف والزمان، فان نفس الظاهرة تبدو وكأنها ستتكرر، لقد أصبحت الترامبية، بشكل او باخر، برنامج واستراتيجية وبلاتفورم(لائحة) البرجوازية الامبريالية في الغرب وعلى صعيد بلدان العالم المتحالفة معها. ان الأحزاب الليبرالية البرجوازية في أوروبا وغيرها من البلدان سوف تقوم بنفس الدور الذي تقوم به الان، وهو اجهاض أي تحرك ثوري لإسقاط سلطة راس المال والنظام البرجوازي العالمي من قبل البروليتاريا في خضم الازمة الرأسمالية العالمية الحالية، وتتبنى في الوقت ذاته البلاتفورم الاقتصادي للترامبية مع بعض التعديلات الصورية.

البديل البروليتاري الاشتراكي الاممي
والترامبية
ان أزمة الرأسمالية المعاصرة تكمن بالدرجة الأساس في تفاقم تناقض التطور الهائل للقوى المنتجة المادية مع علاقات الإنتاج الرأسمالية التي تتحكم بها. ان هذه الحقيقة البسيطة التي عبر عنها ماركس قبل 177 سنة في البيان الشيوعي باتت واقعا مؤلما ومزريا بالنسبة لعدة مليارات من شغيلة العالم اليوم والتي تعاني كل يوم وكل لحظة من وقع الافقار والاستغلال والبطالة، وتشكل اهم سمات النظام الرأسمالي العالمي المعاصر.
ان جميع تناقضات المجتمع الرأسمالي تتجلى اليوم في العالم بأسطع الاشكال، حيث ان هنالك اموال هائلة بحجم عشرات وعشرات الترليونات من الدولارات في الأسواق المالية والبورصات والبنوك في العالم لا تجد مجالات استثمار مربحة بالنسبة لها، نظرا لميل معدل الربح الرأسمالي الى الانخفاض نتيجة لتطور القوى المنتجة وتكنولوجيا الانتاج في النظام الرأسمالي. أي لكون التركيب العضوي لراس المال اصبح بشكل تشكل نسبة راس المال الثابت التي تصرف على وسائل الإنتاج و التداول بالنسبة للراس المال المتغير الذي يصرف على قوة عمل العمال اكبر بكثير.
ان الازمة الاقتصادية العالمية التي حلت عامي 2008 -2009 وجائحة كورنا، قد شددت من هذه الازمة البنيوية في النظام الرأسمالي العالمي وادت الى تشديد وتوسيع رقعة الصراعات الجيو سياسية والجيو اقتصادية والاستراتيجية على التحكم بالسوق العالمية ومناطق النفوذ فيما بين رؤوس أموال مختلف الدول الرأسمالية. ان الترامبية ليست سوى ظاهرة في قلب هذه التحولات والاشتداد في الصراعات العالمية، وهي ممثلة راس المال الأمريكي في صراعه العالمي من اجل مصالحه وإعادة مكانته العالمية.
ففي الوقت الذي يعلن ترامب عن ادعاءاته الديماغوجية بصدد "السلام" العالمي، ويقدم على انهاء الحرب في أوكرانيا، ولكنه يدعم بشكل فاضح حكومة إسرائيل الفاشية في الاستمرار بمجازرها في غزة وبقية دول المنطقة، ويأمر بشن القوات الامريكية غارات جوية ضد الحوثيين في اليمن، ويسعى من اجل التصفية الجماعية لسكان غزة. بالإضافة الى كل ذلك، فانه يفرض على حلفائه في أوروبا وأعضاء الناتو بازدياد حصة التخصيصات للميزانية العسكرية الى 5% من الناتج القومي الإجمالي المحلي لتلك البلدان. ان ازدياد التسلح هو في الوقت نفسه زرع بذور حروب جديدة والاستعداد لحروب اكثر فتكا.
ان تطور الرأسمالية المعاصرة ونمطها النيو ليبرالي، قد دفع بقسم كبير من البشرية الى قاع الفقر والبطالة والحرمان، وحولهم الى بروليتاريا محرومة من ملكية وسائل الإنتاج ومن ابسط الخدمات والرفاهية الاقتصادية والاجتماعية. كما انه الحق دمارا بالبيئة الصالحة للحياة وفاقم من آثاره الكارثية.
ان الخلاص من هذا النظام يأتي عن طريق نمو حركة بروليتارية اشتراكية واممية قوية و مقتدرة تؤسس، عبر ثورتها الاجتماعية التحررية، بنيان نظام ارقى يستجيب لتطور القوى المنتجة المادية واستثمارها لصالح تحرر الانسان ورفاهيته ومساواته وحماية البيئة الصالحة للحياة من الدمار.
ان تراجع المكانة القيادية لأمريكا في الحفاظ على النظام الرأسمالي يمثل ازمة عميقة وواسعة لأكبر دولة رأسمالية امبريالية على وجه الأرض، وان الترامبية هي نفسها تحمل عناصر هذه الازمة بكامل ابعادها. لذا فان جوابها على معضلات هذا النظام غارق في الرجعية وموجه أساسا من اجل سد الطريق امام احتمالات أي تغيير ثوري اشتراكي قد ينبثق في أمريكا او في بقاع العالم المختلفة.
في خضم الصراع الطبقي العالمي للبروليتاريا بالضد من الرأسمالية، فان الترامبية والمد الرجعي العالمي الذي يمثلها ودور المؤسسة الحاكمة البرجوازية الامبريالية الامريكية، يشكلان عائقا كبيرا امام الثورة الاشتراكية لهذه الطبقة العالمية.
ان تأثيرات هذا المد الرجعي في بلد بقوة وموقع امريكا في النظام الرأسمالي العالمي على بقية العالم، تجعل البرولتياريا العالمية وحركتها الشيوعية في مواجهة هذا المد الرجعي بشكل مباشر وفي كل مكان، وهذا ما يتطلب اكبر درجة من التسلح بنظرية ماركس المادية الجدلية الثورية لفهم ما يحدث، وتحديد موقع الترامبية فيه وتبني السياسة الشيوعية وتطبيقها في خضم الصراع الطبقي الجاري في المجتمعات بكل حزم.
25 آذار(مارس) 2025
*Trump has tapped an unprecedented 13 billionaires for his administration. Here s who they are - ABC News
**The New Age Militarists - TomDispatch.com
***Trump Tariffs Hide Capital’s Warfare Against the Working Class - LA Progressive