التحليل النفسي وتطبيقاته المعرفية 76


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 8249 - 2025 / 2 / 10 - 00:12
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

غريزة الموت
عندما قدم فرويد مفهومه عن غريزة الموت في كتابه "ما وراء مبدأ اللذة"
Beyond the Pleasure Principle (1920)
https://www.sas.upenn.edu/~cavitch/pdf-library/Freud_Beyond_P_P.pdf
فقد حل ثلاث مشاكل نظرية لم يكن من الممكن تفسيرها بنظرية الدافع الواحد: المازوخية، وإجبار التكرار-تكرار فعل نفس الشيء رغم انه مدمر، ورد الفعل العلاجي السلبي. وظل مفهوم الغريزتين المتعارضتين, غريزتي الحياة والموت, جوهرياً أحد أكثر أجزاء نظرية فرويد إثارة للجدال. وبالنسبة للمحللة ميلاني كلاين، كانت فكرة فرويد عن غريزة الموت أداة قوية في حل أعظم مشاكلها المتمثلة في دمج الأدلة السريرية التي أثبتت وجود الأنا العليا القاسية في وقت سابق. وحسب فرويد، ان الأنا العليا هي مظهر لغريزة الموت اثناء ولادة الشخص التي تعمل على تدميره. وعلى هذا النحو، وضعت كلاين ـ كما يذكر هينشيلوود ـ "اللحم على عظام نظرية فرويد عن غريزة الموت". سأصف ادناه تطور نظرية فرويد وكيف تم تحويرها من قبل كلاين وأتباعها, مثل بيون وإستر بيك وسيجال وروزنفيلد, ومن خلال مشاهد سريرية أيضا
-------
نموذج فرويد للعقل هو نموذج ديناميكي - أي أنه يفهم العقل على أنه في حركة مستمرة وصراع بين الاندفاعات الناشئة في منطقة واحدة، جنبًا إلى جنب مع الدفاعات ضد هذه الاندفاعات او النبضات. طور فرويد نموذجين للعقل: الطوبوغرافي والهيكلي، وعدلّهما بمادته السريرية وفقًا لفهمه للعمل العلاجي مع مرضاه باعتباره بحثًا في العقل البشري - "الجهاز النفسي"، كما أطلق عليه في البداية.

النموذج الطوبوغرافي للعقل
كان النموذج الأول لفرويد قائمًا على القمع، والذي يحدث عندما لا تكون الأفكار أو الرغبات مقبولة لدى الشخص، الذي يتعلم بالتالي قمعها من قبل الوعي. اللاوعي يُنظر إليه عادة مجازيًا على أنه أعمق من الوعي. إن الأفكار المكبوتة هي طبقة من العقل تحاول إعادة هذه الأفكار إلى الوعي. فالأفكار المكبوتة تحفز الأحلام، وتُستَخدَم في النكات، وتتسبب في "الزلات الفرويدية" ونسيان الأشياء، وتوضح الأفكار الإبداعية، وتسبب في نشوء الأعراض المرضية. وقد وصف فرويد عودة الأفكار المكبوتة في كتابه "علم النفس المرضي للحياة اليومية" بطريقة مدهشة ومقنعة.

النموذج الهيكلي للعقل
لقد بدأ فرويد بعد ذلك في تصور العقل باعتباره يتألف من قوى أو هياكل: الأنا، والأنا الأعلى، والهو. ويتوافق الهو تقريباً مع الكثير مما كان يشمله مفهوم اللاوعي في السابق. ويمكن اعتباره منطقة تحتوي على العناصر الغريزية البدائية، التي يهيمن عليها مبدأ اللذة وتعمل وفقاً للعملية الأولية Primary Process -
Primary Process Thinking
https://www.science-dir-ect.com/topics/psychology/primary-process-thinking
كما في الأحلام او أفكار الأطفال او حالات الذهان او
في العمل الابداعي, التي كلها لا تخضع للمنطق الشكلي او منطق ارسطو: مثلا بعض المبدعين يستخدمون مواد مخدرة للثورة على قيود المنطق الشكلي وتجاوزه من اجل انجاز عمل مبتكر وغير مألوف. وبعض العلماء الحائزين على جائزة نوبل فعلوا الشيء نفسه.
"من المثير للدهشة تنوع الأفراد الذين يعزون نجاحهم إلى استخدام المواد المخدرة. ومن بين هؤلاء الحائز على جائزة نوبل فرانسيس كريك الذي ادعى في صحيفة ميل أون صنداي أنه كان تحت تأثير عقار إل إس دي عندما اكتشف بنية الحمض النووي. كاري موليس هو حائز آخر على جائزة نوبل والذي استخدم عقار إل إس دي. في كتابه "الرقص عارياً في حقل الألغام"، يعزو موليس اكتشافه لتفاعل البوليميراز المتسلسل (PCR) إلى تجاربه مع عقار إل إس دي.
ذكرت مقالة في وكالة أسوشيتد برس الإخبارية أن مبتكر التكنولوجيا ستيف جوبز تناول عقار إل إس دي عندما كان صغيرا لتحفيز إبداعه. وفي وقت لاحق، وصف جوبز استخدامه للـLSD باعتباره واحداً من أهم شيئين أو ثلاثة أشياء قام بها في حياته. ويعترف أيضًا عدد كبير من الموسيقيين والممثلين والكوميديين والفنانين والمؤلفين باستخدام المواد المخدرة.
وقد تمتد الفوائد إلى ما هو أبعد من أفكارنا التقليدية حول الأنشطة الإبداعية، حيث يعتقد العديد من الرياضيين المحترفين أيضًا أن المواد المخدرة تساهم في تحسين أدائهم. على سبيل المثال، صرح آرون رودجرز، نجم بطولة السوبر بول، في مؤتمر الجمعية متعددة التخصصات لدراسات المواد المخدرة في دنفر، كولورادو، في يونيو 2023، أن تناول الأياهواسكا (خليط من عدد كبير من النباتات يسبب الهلوسة, ط.ا.) مع زملائه في الفريق كان "يغير حياته بشكل جذري". ويرى رودجرز أن تناول الأياهواسكا ساعده على تحسين أدائه في الملعب."
Enhancing Creativity With Psychedelics
https://www.psychologytoday.com/intl/blog/the-leading-edge/202404/enhancing-creativity-with-psychedelics#:~:text=Another%20study%20conducted%20by%20researchers,have%20also%20demonstrated%20positive%20effects.
وفرويد نفسه استخدم الكوكائين (وكان مدمنا عليه)
What You May Not Know About Freud and His Biggest Addiction
https://psychcentral.com/health/freud-and-his-biggest-addiction
وحسب النموذج الهيكلي للعقل, تشكل الأنا الجزء العقلاني من العقل الذي يتواصل مع العالم الخارجي، والذي يحاول التوسط بين رغباتنا والواقع حتى نتمكن من التوقف عن الإصرار على المستحيل، والاكتفاء بما هو موجود ـ وبالتالي تأجيل تحقيق الدوافع: الفلسفة الرواقية (سينيكا او ماركوس اوريليوس, مثلا) تدعونا الى التحلي بالحكمة في ان نميز بين ما يمكن تغييره وبين ما لا يمكن تغييره.
-10 مهارات يجب أن نتعلمها في الحياة | الفلسفة الرواقية-
https://www.youtube.com/watch?v=yB29p251yMM
لأن العمل من اجل ما يكمن تغييره قد يكون من مشتقات غريزة الحياة, والعمل من أجل أمر لا يمكن تغييره قد يكون اهدارا للوقت والطاقة وقد يكون عملا انتحاريا-وان كان قد يكتسب صفة القداسة للبعض من المتدينبن, ودليلا على ثورية لا متناهية لدى بعض الثوريين (ولو شكلا), وقد يشكل عجزا عن فعل الحياة او عدم القدرة على التراضي مع مشاعر عدم اليقين, وبالتالي يمكن اعتباره احد مشتقات غريزة الموت.
أما الأنا الأعلى فهو قوة نصف غريزية غير عقلانية وغير معقولة لا تمنح إلا إشباعاً جزئياً أو حتى تقمع الدوافع الغريزية. يذكر ساندلر
"أن ... هذا السلوك تطور كنوع من الطبقة الداخلية أو بقايا الصراعات المبكرة للطفل فيما يتعلق بوالديه". ص. 27.
Freud s Models of the Mind
An Introduction
https://www.taylorfrancis.com/books/mono/10.4324/9780429475061/freud-models-mind-anna-ursula-dreher-joseph-sandler-alex-holder-christopher-dare
كان من الصعب الحفاظ على فكرة أننا نتصرف وفقًا لمبدأ المتعة عندما اكتشف فرويد دافع التكرار، ورد الفعل العلاجي السلبي، والمازوخية/السادية.

مفهوم غريزة الموت (ثاناتوس)، وغريزة الحياة (إيروس)، كغريزتين أساسيتين.
لقد قدم فرويد فكرة غريزة الموت في عام 1920 في كتابه "ما وراء مبدأ اللذة" باعتبارها دافعاً بيولوجياً، ثم توسع في أهميتها النفسية في عام 1923 في كتابه "الأنا والهو". ويرى سبيليوس وآخرون في كتاب "الأنا والهو" أن "بعض غريزة الموت تنحرف تحت تأثير غريزة الحياة في شكل هجوم على موضوع العدوان" ص. 298. (وكما يقول المثل الشعبي في العراق: اتغدى بيه قبل ما يتعشى بي: التهمه قبل ان يلتهمني- العدبد من الطغاة في منطقتنا وخارجها يعملون وفق هذا المبدأ)
His view is that under the influence of the life instinct some of the death instinct is deflected out in the form of an attack on the object
Spillius, E.B., Milton, J., Garvey, P., Couve, C., Steiner, D. (2011) The New Dictionary of Kleinian Thought, London and New York: Routledge
https://www.routledge.com/The-New-Dictionary-of-Kleinian-Thought/BottSpillius-Milton-Garvey-Couve-Steiner/p/book/9780415592598?srsltid=AfmBOopAHuUK88ojUFB3ckCqklAK-L4-rgvJoXs8ys7UtzlN02-hOWWu

يكتب فرويد:
"فإلى جانب غريزة الحفاظ على المادة الحية والتجمع في وحدات أكبر حجماً، لابد وأن توجد غريزة أخرى معاكسة تسعى إلى إذابة تلك الوحدات وإعادتها إلى حالتها غير العضوية البدائية. وهذا يعني أنه إلى جانب غريزة الحياة كانت هناك غريزة الموت. ومن الممكن تفسير ظاهرة الحياة من خلال العمل المتزامن أو المتعارض لهاتين الغريزتين... حيث يتحول جزء من غريزة (الموت) نحو العالم الخارجي ويظهر للعلن كغريزة عدوانية وتدميرية. وعلى هذا النحو يمكن دفع الغريزة نفسها لخدمة غريزة الحياة، بحيث يدمر الكائن الحي شيئاً آخر، حياً كان أم غير حي، بدلاً من تدمير نفسه. وعلى العكس من ذلك، فإن أي تقييد لعدوانيته الموجهة نحو الخارج من شأنه أن يؤدي حتماً إلى زيادة تدمير الذات، وهو ما يحدث في كل الأحوال." "وفي الوقت نفسه يمكننا أن نشتبه من هذا المثال أن النوعين من الغرائز نادرًا ما يظهران بمعزل عن بعضهما البعض - وربما لا يظهران أبدًا - بل يختلطان ببعضهما البعض بنسب متفاوتة ومختلفة جدًا وبالتالي يصبحان غير قابلين للتعرف عليهما في حكمنا." ص. 119.
Freud, S. (1930) Civilization and its Discontents, Standard Edition 21, London: Hogarth Press, pp. 57-175

يميز فرويد بين اتجاهين عامين جدًا أشار إليهما باسم الرغبة الجنسية أو ايروس (الجنس بمعناه الاوسع, اي الحياة والابداع والابتكار والتحابب بين البشر وتعاضدهم), من ناحية. وعدوان او عنف، والتي صاغها كتعبير عن غريزة الموت (ثاناتوس), من ناحية أخرى.
Freud s Concepts of Thanatos and Eros
https://www.verywellmind.com/life-and-death-instincts-2795847
تتجلى الغريزة الجنسية أو الإيروس في جميع العمليات، الفسيولوجية والنفسية، التي تدفع نحو التوليف-مفهوم فرويد حول الصراع بين غريزتيّ الحياة والموت الذي قد ينتهي (موقتا حتى) في توليفة يذكرنا بديالكتيك هيغل في الصراع ببن الاطروحة والاطروحة المضادة كخوارزمية للتطور, وان كان مآل الصراع بين الغريزتين قد يكون شيئا آخرا وليس التطور بمفهومه النفسي, بل قد يكون انتكاسا. افترض فرويد أن غريزة الموت تبقى في الداخل .بعض غريزة الموت المتبقية يندمج مع الغريزة الجنسية لتشكيل المازوخية الجنسية. تحدث اندماجات أخرى، مما يؤدي على سبيل المثال إلى "المازوخية الأخلاقية"، لكن بعضها يظل غير مندمج باعتباره "سادية بدائية", عندما يمنح الفعل القاسي بحق الآخرين المتعة والشهوة.
حسب المحلل النفسي الماركسي اريك فروم, ان المازوخية والسادية وجهان لعملة واحدة ويشكلان تربة خصبة لنشوء الفاشية.
Escape from Freedom
"هروب من حرية"
https://www.sas.upenn.edu/~cavitch/pdf-library/Fromm_Mechanisms_of_Escape.pdf
تشكل غريزة الموت أو مبدأ النيرفانا الجانب الأكثر جوهرية للحياة الغريزية: العودة إلى حالة سابقة، "Ruhe des Anorganischen" المطلق (راحة غير العضوي-الموت كراحة أبدية), وبالتالي فهي مبدأ اقتصادي يقلل الطاقة إلى الصفر ويزيد الانتروبي الى اعلى حد.
Entropy, aging and death
https://onlinelibrary.wiley.com/doi/abs/10.1002/sres.3850040406#:~:text=Real%20processes%20tend%20to%20go,a%20state%20of%20maximum%20entropy.
تعمل غريزة الموت بصمت في الخلفية ولا يمكن تلمسها في المادة السريرية.

من خلال مفهوم غريزة الموت تمكن فرويد من حل ثلاثة ألغاز وشرح التناقضات فيما يتعلق بمبدأ اللذة والرغبة الجنسية كمصدر للقوة الأولية.

أولاً، كان لا بد من إعطاء بعض الاعتبار لظاهرة "الإجبار على التكرار" ـ تكرار التجارب غير السارة من الحياة السابقة دون وعي بدلاً من التغلب عليها ـ وهي قوة لا يمكن كبتها ولا تعتمد على مبدأ اللذة. انه ميل أساسي لدى كل كائن حي للعودة إلى الحالة غير العضوية". ويحدث الإجبار على التكرار في علاقة تفاعل المريض مع المحلل النفسي، وأنماط التفكير والشعور والسلوك من الحياة السابقةـ والتي قد تكون مؤلمة ومحزنة. ويحدث الإجبار على التكرار أيضاً خارج التحليل النفسي، في العلاقات الطبيعية وكذلك في العلاقات المرضية ـ وقد شبهه فرويد بغريزة الموت في كتاباته اللاحقة. وهذا ما نجده, مثلا, في تكرار حزب شيوعي لنفس الأخطاء: ان هذا بعرف فرويد انصياع لغريزة الموت!

كان اللغز الثاني الذي يتعين حله هو مفهوم السادية والمازوخية والكراهية. فمنذ البداية، بدا لفرويد أنه من المستحيل أن تنبع الكراهية، من الناحية الميتانفسية (دراسة الحالة النفسية خارج النطاق التجريبي)، من خلال الغريزة الجنسية.

كان اللغز الثالث هو رد الفعل العلاجي السلبي، والذي يعني أن بعض المرضى تفاعلوا بشكل سيئ مع التفسيرات التحليلية للمحلل النفسي حتى بعد أن اعترفوا بدقتها. يبدأ المرء باعتبار هذا تحديًا ومحاولة لإثبات تفوقهم على الطبيب، ولكن في وقت لاحق يصل إلى اتخاذ وجهة نظر أعمق وأكثر عدالة. يصبح المرء مقتنعًا، ليس فقط أن مثل هؤلاء الأشخاص لا يمكنهم تحمل أي مديح أو تقدير للمحلل ولكنهم يتفاعلون بشكل عكسي مع تقدم العلاج, يؤدي التعليق المؤقت للأعراض لديهم إلى تفاقم مرضهم؛ يزدادون سوءًا أثناء العلاج بدلاً من التحسن . شرح فرويد رد الفعل العلاجي السلبي بطريقتين: كتعبير عن الشعور بالذنب اللاواعي أو كهجوم حاسد على المحلل.

ربما تكون غريزة الموت هي الافتراض الأكثر إثارة للجدل لفرويد. فقد تعرضت لانتقادات شديدة من قبل المحللين النفسيين وغيرهم، وقد تم تقديرها بشكل كبير وتطويرها من قبل هربرت روزنفيلد وبيتي جوزيف وهانا سيجال - مدرسة العلاقة بالموضوع. ولكن عموما كان من الصعب على مجتمع علم النفس قبول غريزة الموت، لأن فرويد اعتقد أن مظهر غريزة الموت كان صامتًا، مما يعني أنه لا يمكن للمرء التحقق فيها من خلال المواد السريرية حيث يتم دمج الغريزتين وتفكيكهما مع النتيجة التي يمكن ملاحظتها في عدد من الحالات العقلية المختلفة، على سبيل المثال الخوف من الانهيار والتفكك الذاتي، والتدمير الذاتي، والتدمير، والحسد، والسادية.
يتبع