التحليل النفسي وتطبيقاته المعرفية 75


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 8038 - 2024 / 7 / 14 - 00:39
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

جرونباوم: مشاكل منهجية!

كما ذكرت في الحلقة السابقة ان فيلسوف العلم ادولف جرونباوم, اعتقد, على عكس كارل بوبر, إن فرضيات التحليل النفسي يمكن تكذيبها. ولذلك برأي جرونباوم ان التحليل النفسي علم وليس علما زائفًا كما يزعم بوبر.

احدى فرضيات فرويد التي يرى جرونباوم انه يمكن تكذيبها ذات علاقة بما يسمى:
البارانويا: الشعور بالعدوانية والاضطهاد والملاحقة او المتابعة من قبل الآخرين مثل جهات أمنية او سرية او اجرامية او حتى من قبل اشخاص مقربين كالعائلة مثلا. وهذا الشعور قد يكون له ما يبرره في الحياة الواقعية. اي ان ليس الشعور بالملاحقة هو المحك, ولكن كيفية الملاحقة او العدوانية هي الأهم. فمثلا, شخص (أسميه ساير هنا وهو ليس اسمه الحقيقي) من اصل أفريقي يعمل كعامل لحيم في احدى الدول الأوربية. يقطن ساير في شقة صغيرة (مساحتها لا تزيد عن عشرين متر مربع ) في عمارة من عدة طوابق يسكنها عمال آخرون او عاطلون عن العمل والبعض منهم يتناول المخدرات ومدمن على الكحول وتنشب شجارات عنيفة دوما بين قاطني العمارة. يقول ساير ان اشخاص من الشرطة السرية (!) للبلد الاوربي الذي يقطن فيه يتسللون الى شقته في جنح الظلام ويحقنونه بأدوية في الوريد تؤثر سلبا على سلوكه وتشتت تفكيره وتضعف تركيزه وتؤدي به الى ارتكاب مخالفات مرورية كان من الممكن أن تودي بحياته او بحياة آخرين. وعند الاستفسار اكثر عن كيفية تسلل هؤلاء الاشخاص الى شقته في الليل وبدون كسر قفل او باب الشقة التي اغلقت من الداخل او بدون عمل ضجة تجلب انتباه الآخرين القاطنين في العمارة المزدحمة جدا بساكنيها او إيقاظهم من نومهم, يجبب ساير بان هؤلاء محترفون ومدربون بشكل خاص على مثل هذه الاعمال وبدون اثارة ضجة. وعند سؤالنا, لماذا يجهد اشخاص من اجهزة الدولة السرية بالقيام بمثل هذه الافعال (المتكررة برأيه) وتحت جنح الظلام وإعطاءه حقن في الوريد للتأثير على سلوكه, يجيب ساير بأن هؤلاء يريدون التأثير على عقله كي يرتكب جريمة لتبرير ارجاعه الى موطنه الأصلي.
ويعزي ساير هذه الافعال "الاضطهادية", بالرغم من حمله الاوراق الاصولية للإقامة والعمل في هذا البلد الأوربي, الى العنصرية ومعاداة الاجانب. وكما نلاحظ هنا ان الملاحقة والعنصرية قد تكون صحيحة ولكن طرق تنفيذها تبدو غير معقولة. وليس هنالك اية ادلة تثبت التلاعب بقفل الباب او بوجود اي أثر لحقن وريدية. كما ان ياسر يرفض تبليغ الشرطة بحجة ان هذا سيفاقم من الملاحقة والعدوانية بحقه. الجدير بالذكر ان ياسر كان قد تجاوز الخمسين من عمره وكان اعزبا وليس له علاقات مع نساء, يكثر من شرب البيرة وان كان ليس مدمنا على الكحول ولا يتعاطى المخدرات.

فرويد يعتقد ان البانورانيا لها علاقة بمعاقرة الخمرة او الإدمان عليها.
A REVIEW OF FREUD S EARLY REMARKS ON ADDICTION:
Introduction
FROM AN IDEAL TO MASTURBATION
https://esource.dbs.ie/server/api/core/bitstreams/6a064346-30f5-424e-a810-81f8fbdb875b/content
الرجل يجتمعون في بار او حانة لتعاطي الخمرة للتعبير عن مثلية مكبوتة.

بالنسبة الى فرويد تنشأ البارانويا من جنسية مثلية مكبوتة كالتالي:
1. اني منجذب اليه: شعور الشخص ذا المثلية المكبوتة هذا هو شعور غير مقبول اجتماعيا في العديد من المجتمعات او في زمن فرويد او من قبل الأنا العليا (الضمير ). فيتحول هذا الشعور في العقل الباطن الى نفيضه باسقاطه على الآخر:
2. انه منجذب الي: وهذا شعور غير مقبول أيضا يحيله العقل الباطن الى
3. انه يكرهني ويضطهدني, لربما كما في المثل اعلاه.

فرضية فرويد التي يعتقد جرونباوم في امكانية تكذيبها هي
ان البارانويا حصيلة مثلية مكبوتة. ويمكن تكذيبها عند الغاء قمع المثلية ليؤدي ذلك الى التقليل من الشعور بالبارانويا -العدوانية على مستوى الفرد او المجتمع, أو عدمه.

كلام جرونباوم بامكانية تكذيب فرضية فرويد بالطبع صحيح من ناحية نظرية. ولكن تكتنف عملية التكذيب تجريبيًا مشاكل منهجية جمة, لربما لم تخلد في بال جرونباوم لأنه فيلسوف علم وليس عالم جنس sexologist.

احدى هذه المشاكل المنهجية, واني لست بصدد ايراد كل المشاكل, هو ما يمسى مقياس كينزي من تصميم الفريد كينزي . كينزي كان مصنفا بيولوجيا taxonomist وعالم جنس أمريكي, درس السلوك الجنسي في الرجال
Sexual Behavior in the Human Male
https://www.jstor.org/stable/j.ctt173zmh5
والنساء
Sexual Behavior in the Human Female
https://www.jstor.org/stable/j.ctt173zmgn
في الولايات المتحدة في اربعينيات القرن الماضي.
(هنالك فيلم يصور قصة حياته)
https://www.moviepilot.de/movies/kinsey)
كينزي, بالرغم من كونه داروينيا
عتيدا, الا انه اثبت في بحوثه
“nearly all the so-called sexual perversions fall within the range of biological normality.”
"ان جميع الانحرافات الجنسية المزعومة تقع تقريبًا ضمن نطاق الطبيعي البيولوجي."
Alfred C. Kinsey: A Pioneer Of Sex Research
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC1447862/#r3

احدى المشاكل المنهجية في اعتقاد جرونباوم بامكانبة تكذيب فرضية فرويد اعلاه بخصوص العلاقة بين البارانويا والمثلية المستترة هو مقياس كينزي للآخرية hetrosexuality و المثلية homosexuality.
فقد اكد كينزي انه من الخطأ بمكان التحدت عن الأشخاص باعتارهم اما جنسيين آخرين ( اي ممارسة الجنس بين رجل وامرأة) او جنسيين مثليين. فالعديد من الناس يحتل موقعا بين ألأثنتين, الآخرية او المتغايرة من جهة والمثلية من جهة اخرى على مقياسه.
Kinsey Scale
وان هذا الموقع غير ثابت ويتغير بالتسبة للشخص نفسه في مراحل مختلفة من حياته.
http://www.kinseyinstitute.org/resources/ak-hhscale.html

واني اعتقد ان ابحاث كينزي البيولوجية تفند مزاعم مؤسس حزب العمال وزعيم المعارضة في بريطانيا جورج جالاوي
(رغم حبي له واعجابي الشديد به لمناصرته القوية للقضية الفلسطينية وشعب غزة
ومناهضته الشديدة للرأسمالية), والمناقضة لآراء رئيس حزب العمال السابق جيرمي كوربين, بخصوص ان المثلية لا طبيعية لأنها, برأي جالاوي, تهدد وجود الجنس البشري بالانقراض, علما ان جالاوي ليس عالم بيولوجيا وليس داروينيا لأنه كاثوليكي ويؤيد تعاليم كينستة على حد تعبيره في هذا الفيديو
George Galloway’s Plan to DESTROY the Labour Party
https://www.youtube.com/watch?v=sw4cjsiBLw8

ولم يفسر لنا جالاوي لماذا لم ينقرض الجنس البشري بالرغم من وجود المثلية طوال العصور, بل ان البعض من انصار الرأسمالية لربما يتحدث عن انفجار سكاني. بالطبع نحن لا نشكك قيد شعرة في صدق ونزاهة معاداة جالاوي للرأسمالية وعمله جاهدا بالضد منها.
ولكن هذا لا يمنعنا بقدر ما يحملنا على التساؤل: اليس خطر انقراض البشرية المحتمل الآن, اكثر من اي وقت مضى, يتأتى من خطر تحويل النزاع في اوكرانيا الى نزاع مسلح نووي من قبل الأطراف المتحاربة وكلها رأسمالية, بغض النظر عن توجيه اللوم لهذا الطرف او ذاك بخصوص التسبب في قيام الحرب او ادامتها.

اعتراض جرونباوم على فرويد اعتراض من نوع آخر لما هو عند بوبر, وهو معقد بعض الشيء ولذا سأسعى الى شرحه في الحلقة القادمة.
يتبع