كلمات موجزة عن سُخرية التَّاريخ


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 8193 - 2024 / 12 / 16 - 15:04
المحور: السياسة والعلاقات الدولية     

يُقال، في العادة، إنَّ النَّاس يصنعون تاريخهم؛ وهذا صحيح إلى حدٍّ ما وليس بالمطلق؛ فالنَّاس، في أثناء صناعتهم لتاريخهم، يكونون هم أنفسهم مادَّته ووقوده؛ لذلك، فإنَّهم غالباً ما يكونون لاهين عنه بتفاصيل الوقائع الَّتي تواجههم منه.. الوقائع الَّتي تحوِّله وتُشكِّلهم؛ وفوق هذا، فهم لا يملكون شرفةً خارجه، لينظروا إليه منها، فيعرفوا خطَّ سيره الحقيقيّ، ويتناغموا معه، أو يعدِّلوا فيه ويبدِّلوا؛ كُلُّ ما هو متاح لهم، هو أنْ ينظروا إليه مِنْ داخله فقط؛ وكُلُّ ما يمكن أنْ يروه منه، بالنَّتيجة، هو المقطع الصَّغير الَّذي يلوح لهم من النَّافذة الَّتي يطلُّون عليه منها؛ وبالتَّحديد، من الزَّاوية الَّتي يقفون عندها في تلك النَّافذة.

ومِنْ ناحية أخرى، فالنَّاس لا يصنعون تاريخهم من العدم أو في ظروف محايدة؛ بل من الواقع الاقتصاديّ الاجتماعيّ السِّياسيّ الَّذي يعيشونه، وضمن شروطه الخاصَّة ومحدِّداته وضروراته؛ وبالاستناد إلى أحمال تاريخهم وموروثهم وثقافتهم؛ وبحسب تنوّع أنماط تفكيرهم، وتباين مستويات إدراكهم ووعيهم، واختلاف مصالحهم وأهوائهم ورغباتهم.

ومع ذلك، فهم يستطيعون أنْ يكونوا فاعلين في حركة التَّاريخ ومؤثِّرين، إذا درسوا واقعهم وفهموه جيِّداً، وتعرَّفوا بعمق على ملامح اللحظة التَّاريخيَّة الَّتي هم فيها واستشرفوا آفاقها وممكناتها، وعرفوا كيف يمسكون دفَّتها ويتحكّمون بمساراتها واتِّجاهاتها؛ أمَّا بخلاف ذلك، فإنَّهم سيتركون أنفسهم نهباً لرياح التَّاريخ العاتية لتلعب بهم كيفما اتَّفق وتجرفهم في فوضى تقلُّباتها.

وبما أنَّ التَّاريخ يسير حسب جدول أعماله الخاصّ بكلِّ مرحلةٍ مِنْ مراحله، فإنَّ مِنْ واجب الَّذين يتصدّون لمهمَّاته أنْ يعوا جيِّداً جدولَ أعماله المطروح.. في مداه المنظور ومداه البعيد؛ وأن يدركوا ضروراته، ويتعاملوا معها بوعيٍ؛ وأنْ يجيبوا عن أسئلته إجاباتٍ صائبة؛ وإلَّا فإنَّ سيرَه سيكون خبطَ عشواء، وسيجدون أنفسَهم في النِّهاية أمام تحوّلاتٍ لم يتوقَّعوها؛ وفي كثيرٍ من الأحيان، تكون تلك التَّحوّلات أسوأَ احتمالات التَّاريخ وأردأَ ممكناته، وربَّما لا تكون قد خطرت لهم حتَّى في كوابيسهم.

وعندما يغيب الوعي (أو يتمّ تغييبه)، فكثيراً ما يجد النَّاس أنفسهم يدورون في حلقةٍ مفرغة؛ فيهدمون ما تمَّ بناؤه، ثمّ يعيدون بناء ما هدموه للتوّ؛ وغالباً، بصورة أكثر سوءاً ممَّا كان عليه، بدلاً مِنْ إقامة بناء جديد أفضل وأجمل.

وبالنَّتيجة، فكما يقول أنجلز، تالياً، في إحدى رسائله، فـ: «إنَّ الَّذين تباهوا بكونهم قد صنعوا الثَّورة، اقتنعوا دائماً في اليوم التَّالي بأنَّهم لم يكونوا يعرفون ما صنعوه-، بأنَّ الثَّورة المصنوعة لا تشبه البتّة تلك الَّتي أرادوا أنْ يصنعوها. وهذا ما أسماه هيغل بسخرية التَّاريخ، تلك السُّخرية الَّتي تجنّبها عددٌ قليلٌ من الشَّخصيَّات التَّاريخيَّة». («ماركس وأنجلز.. رسائل مختارة» – ص 273- مِنْ رسالة بعثها أنجلز إلى فير إيفانوفنا زاسوليتش.)

ويتحدَّث أنجلز، في المرجع نفسه، عن «حالة من الحالات الاستثنائيّة الَّتي تستطيع فيها حفنه من الأفراد» (...) «أن تجبر على الانهيار، بدفعة غير قويّة، نظاماً كاملاً قائماً في توازن متقلقل جدّاً (إذا استعملتُ مجاز بليخانوف – الإشارة إلى بليخانوف هي مِنْ أنجلز)، وأن تحرِّر بعملٍ تافه بحدّ ذاته، قوى قابلة للانفجار يستحيل بعد ذاك ترويضها».

ويتابع قائلاً: «وما دام البارود سيُشعَل، وما دامت القوى ستتحرَّر، وما دامت الطَّاقة الشَّعبيَّة ستتحوَّل مِنْ طاقة كامنة إلى طاقة حركيَّة (وهذا أيضاً مجاز لبليخانوف مفضَّل وموفَّق جدّاً؛ الإشارة، هنا أيضاً مِنْ أنجلز)، فإنَّ الَّذين سيحرقون الفتيل سيتلقّفهم الانفجار الَّذي سيكون أقوى منهم بألف مرَّة، وسيبحث لنفسه عن مخرج حيثما يمكن، تبعاً للقوى الاقتصاديّة والمقاومة الاقتصاديّة».

وثمَّة رأي لافت، عن التَّاريخ، لميلان كونديرا في روايته «المزحة»؛ حيث يرى أنَّ التَّاريخ مخيفٌ «وهو الَّذي غالباً ما يُستَخدَم ميدان لعبٍ لغير النَّاضجين، ميدان لعبٍ لنيرون فتيّ، لبونابرتْ فتيّ، لحشود الأطفال المكهربة الَّتي تتحوَّل عواطفها المقلّدة وأدوارها المبسّطة إلى حقيقة واقعيَّة كارثيّاً».

ولهذا السَّبب نفسه، فهو يرى أنَّ الشَّبابَ مخيفٌ أيضاً؛ وذلك لأنَّه «مسرحٌ يتحرَّك فيه أطفالٌ على عكَّازاتٍ عالية وبأكثر الألبسة تنوّعاً، ويدلون بصيغٍ متعلَّمَة يفهمونها نصفَ فهم، لكنَّهم يتمسَّكون بها بتعصّب».