وقف إطلاق النَّار ووحدة السَّاحات وإسناد غزَّة
سعود قبيلات
الحوار المتمدن
-
العدد: 8179 - 2024 / 12 / 2 - 18:48
المحور:
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
سمح كثيرون، لأنفسهم، بكلِّ خفَّة وسهولة، وهم جالسون خلف شاشات كمبيوتراتهم أو تلفوناتهم الخلويَّة، أنْ يُصدروا أحكاماً ظالمة على «حزب الله» والمقاومة اللبنانيَّة، ما إنْ أُعلِنَ عن اتِّفاق وقف إطلاق النَّار على الجبهة اللبنانيَّة..
لقد سمح هؤلاء، لأنفسهم، وهم جالسو في بيوتهم وفي شروط مريحة (نسبيَّاً على الأقلّ)، وبينما هم لا يُبدون أدنى استعداد للتَّضحية، بأنْ يحكموا على أُناس ضحّوا بالغالي والرَّخيص، وأبدوا شجاعةً نادرة في المواجهة، ولقَّنوا العدوّ دروساً قاسية لن يكون بإمكانه القفز عنها مستقبلاً.
وكان الحكم المبرم لهؤلاء بأنَّ حزب الله تخلَّى عن غزَّة وعن وحدة السَّاحات، وخضع لشروط العدوّ!
أوَّلاً: وحدة السَّاحات ليست مقصورة على حزب الله؛ فهي تشمل، أيضاً، «أنصار الله» في اليمن والمقاومة العراقيَّة، ويُفتَرض أنْ تشمل آخرين كُثُر.. لكنَّهم متقاعسون عن القيام بواجباتهم؛
ثانياً: للإنصاف، يجب أنْ نتذكَّر أنَّ «حزب الله» دخل الحرب، في 8 تشرين الأوَّل (أُكتوبر) 2023، رغم أنَّه لم يعلم بقرار «حماس» إطلاق عمليَّة 7 تشرين (أُكتوبر) البطوليَّة إلَّا بعد وقوعها.
وكان قائد الحزب الأسطوريّ، الشَّهيد السَّيِّد حسن نصر الله، واضحاً تماماً في خطابه، الَّذي ألقاه بعد دخول الحرب؛ إذ قال إنَّ غاية الحزب مِنْ دخول الحرب هي المساندة فقط لـ «حماس»، وإنَّ هذه ليست حرب تحرير فلسطين؛ فحرب تحرير فلسطين تحتاج إلى المزيد من الإعداد، وتحتاج إلى الظَّرف المناسب؛
ثالثاً: لقد خاطر حزب الله وقيادته، بل ومحور المقاومة بمجمله، بدخولهم الحرب في وقت لم يحدِّدوه هم، أي أنَّه لم يكن الوقت المناسب لهم؛ وفي سياق هذه المخاطرة، خسر «حزب الله» قائده التَّاريخيّ وعدداً مِنْ قادته الأساسيين والكثير مِنْ كوادره ومقاتليه، وتعرَّض الحوثيُّون للعديد من الضّربات الأميركيَّة والبريطانيَّة و«الإسرائيليَّة» المؤلمة، والأمر نفسه حدث للمقاومة العراقيَّة.
وفي المقابل، كان من اللافت، بل من المستهجن، أنَّ «الإخوان المسلمين» امتنعوا عن نعي الشَّهيد حسن نصر الله والقادة الشُّهداء الآخرين، ورفضوا أنْ يعدّوهم من الشَّهداء؛ مع أنَّهم كانوا، بكُلّ سهولة، يُكرِّسون كُلَّ مَنْ قُتِلَ، مِنْ الجماعات التَّكفيريَّة، في الصِّراع في سوريا وليبا ومصر والعراق، شهيداً.
وقد أثار هذا الأمر استنكاراً واسعاً مِنْ جميع أنصار المقاومة ومحور المقاومة، وترك مرارةً كبيرة لدى الشِّيعة في لبنان وأصدقاء «حزب الله» هناك مِنْ مختلف التَّوجّهات والطَّوائف والمذاهب.
ومع ذلك، فقد تعالي الحزب على هذه الطَّعنة في الظَّهر، واستمرَّ في خوض معركة إسناد «حماس» وغزَّة؛ لكنَّ هذا تركه في موقف غير مريح أمام أنصاره وقاعدته الاجتماعيَّة الَّتي كانت تواصل دفع الأثمان الباهظة، في حربٍ لم تخترها، وبينما هي ترى كُلَّ هذا التَّنكُّر والخذلان من الَّذين كانت تتوقَّع منهم أنْ يكونوا شاكرين مقدِّرين؛
رابعاً: بعد استشهاد السَّيِّد حسن نصر الله والقادة الآخرين، وبعد هذا الخذلان الأليم، تكرَّس في لبنان واقع جديد؛ فرأينا نبيه برِّي، ونجيب ميقاتي، ووليد جنبلاط، يظهرون وهم مصطفِّون معاً، في مشهدٍ شديد الدَّلالة، ليُعلنوا أنَّ أولويَّة لبنان هي وقف إطلاق النَّار ونُقطة. وأصبح هذا الموقف هو موقف الغالبيَّة العُظمى من الطَّوائف والمذاهب والقوى السِّياسيَّة اللبنانيَّة.
حدث هذا والمقاومة جريحة ومكلومة، وقيادتها الجديدة لم تثبِّتْ أقدامها بعد، ولم تُثبت حُضورها الَّذي يمنحها ثقلاً وتأثيراً على الحياة السِّياسيَّة في لبنان. ومفروغ منه أنَّه لو كان القائد السَّيِّد حسن نصر الله لا يزال على قيد الحياة، لما كان ممكناً لهذا الاصطفاف أنْ يحدث.
وهكذا، وجدت المقاومة نفسَها في وضع غير مريح مع قاعدتها الاجتماعيَّة، الَّتي شعرتْ بخذلانٍ شديد مِنْ موقف «الإخوان المسلمين» تجاه استشهاد السَّيِّد حسن نصر الله وقادة المقاومة الأخرين، ومن التَّقاعس الشَّعبيّ العربيّ، وتجاه مواقف الغالبيَّة العُظمى من القوى السِّياسيَّة اللبنانيَّة، والطَّوائف والمذاهب اللبنانيَّة؛ وبناء عليه، فلم يكن بإمكانها أنْ تركب رأسها وتتصرَّف بانعزالٍ تامٍّ عن هذا الوضع الكبير الضَّاغط؛ وإلَّا لكانت ذهبت إلى الانتحار؛ لذلك، اختارت أهون الشُّرور.
وأهون الشُّرور، في هذه الحالة، هو موافقة المقاومة على وقف إطلاق النَّار، لكن بشروطها. وأهمّ هذه الشُّروط هو أنْ لا يمسّ هذا القرار بالسِّيادة اللبنانيَّة، وأنْ لا يمسّ بقدرات المقاومة وحضورها ودورها.
وهكذا، كان اتِّفاق وقف إطلاق النَّار، حصيلةً لمعادلاتٍ لبنانيَّة محليَّة وعربيَّة ودوليَّة؛ بيد أنَّ أهمّ العوامل، الَّتي أوصلت إلى هذا الاتِّفاق، هو القصف المتواصل الَّذي وجَّهه حزب الله إلى «المدن» والمستوطنات الصّهيونيَّة، والخسائر الفادحة الَّتي أوقعها في قوّات العدوّ أثناء محاولاتها اكتساح لبنان عبر الحرب البرِّيَّة، الأمر الَّذي اضطرّ الكيان الصّهيونيّ، في النِّهاية، إلى التَّنازل عن أهدافه المعلنة بخصوص لبنان، والقبول بالشُّروط اللبنانيَّة لوقف إطلاق النَّار.
وبالنَّتيجة، فقد شرع سُكَّان جنوب لبنان بالعودة إلى مُدنهم وقراهم المهدَّمة، فور إعلان وقف إطلاق النَّار؛ في حين أنَّ المستوطنين في شمال فلسطين المحتلَّة، الَّذين اعترف بعض رؤسائهم المحلِّيين بأنَّ سبعين بالمائة مِنْ «أبنيتهم» قد دُمِّر بصواريخ «حزب الله»، لم يعودوا بعد؛ بل إنَّ أكثرهم أكَّدوا ويؤكِّدون أنَّهم لن يعودوا. ونذكِّر، هنا، بأنَّ قرار الحرب الصّهيونيَّة على لبنان قد أُتُّخذ بذريعة إعادة مستوطني شمال فلسطين المحتلَّة إلى تلك المستوطنات؛
خامساً: نعم؛ لقد تعرَّض لبنان، وجمهور حزب الله خصوصاً، لخسائر هائلة؛ لكنَّ المقاومة، بالمقابل، كبَّدت العدوَّ خسائرَ كبيرةً، بل غير مسبوقة، وفرضت على المستوطنين في شمال فلسطين المحتلَّة أنْ يخلوا تلك المستوطنات تماماً، كما فرضت على مستوطني حيفا وتل أبيب أنْ يتحصَّنوا في الملاجئ معظم الوقت، وأنْ يعيشوا في جوٍّ من الرُّعب والحياة الصَّعبة الَّتي لم يعتادوا عليها؛
سادساً: الحرب لا تقوم لذاتها، بل لتحقيق أهداف سياسيَّة، وقد فشل العدوّ في تحقيق أهدافه السِّياسيَّة مِنْ هذه الحرب المدمِّرة الَّتي شنَّها؛ وهذا يُعدُّ نصراً للمقاومة.
سابعاً: هذه الحرب، على عظمها، مجرَّد جولة في الصِّراع بين العدوّ الصّهيونيّ وبين الشُّعوب العربيَّة (وخصوصاً مقاومتها)؛ ومن الواضح أنَّه في كُلِّ جولة تُصبح المقاومة أقوى وأكثر خبرة وأكثر اتِّساعاً؛ ويُصبح العدوّ في وضعٍ أصعب، ووجوده أكثر هشاشة، وثقته بالمستقبل متآكلة؛ ويتأكَّد، أكثر فأكثر، أنَّه لا حلَّ إلَّا المقاومة؛ كما يتأكَّد، بالنَّتيجة، فشلُ الحلول الاستسلاميَّة بكُلِّ أنواعها ومسمَّياتها.
ثامناً: من المؤكَّد أنَّ حزب الله لن يتخلَّى عن إسناد غزَّة، ولا عن نصرة القضيَّة الفلسطينيَّة؛ وسيختار طريقةً مناسبة للوضع الحالّيّ، كي يقوم بذلك.
وهنا، أُريد أنْ أُذكِّر بأنَّ حزب الله كان حتَّى العام 2010، قد قدَّم مئة شهيد لإيصال السِّلاح إلى غزَّة؛ ولمَنْ يريد أنْ يتأكَّد مِنْ هذه المعلومة، أُذكِّر بخليَّة حزب الله المسمَّاة بخليَّة سامي شهاب، الَّتي قبض عليها الأمن المصريّ في عهد حُسني مبارك؛ وقد تحدَّث الإعلامُ الرَّسميّ المصريّ عنها كثيراً، في حينه، وعن محاكمتها أمام القضاء. وظلَّ أعضاء تلك الخليَّة في السُّجون المصريَّة إلى أنْ سقط حُسني مبارك، فهربوا من السِّجن مع الهاربين الآخرين.
وعلى أيَّة حال، اتِّفاق وقف إطلاق النَّار قلق وغير مستقرّ. وقد حذَّرت المقاومة بأنَّها لا يمكن أنْ تسكُت في حال استمرار العدوّ بخرق هذا الاتِّفاق.
وفي النِّهاية، ليس مِنْ مصلحة القضيَّة العربيَّة، ولا القضيَّة الفلسطينيَّة، التَّشكيك في المقاومة أو في أيِّ فصيل مِنْ فصائلها؛ خصوصاً ونحن نشهد الخذلان الَّذي تتعرَّض له هذه الفصائل (أو بعضها على الأقلّ)، ونشهد التَّآمر الَّذي يطالها من النِّظام الرَّسميّ العربيّ. والأولى بالأصوات الوطنيَّة جميعا أنْ تتعالى ضدَّ المسؤولين عن الخذلان، وضدَّ المتآمرين والمتواطئين.