المشكِّكون ودرس المقاومة البليغ..
سعود قبيلات
الحوار المتمدن
-
العدد: 6909 - 2021 / 5 / 25 - 18:14
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
مع الأسف، في بلادنا العربيَّة، كلّما اشتد الصّراع مع العدوّ الصّهيونيّ، فاشتدَّت معه الحاجة إلى الوحدة والتَّأكيد عليها والتَّمسّك بها، انبرى البعض إلى نبش أسباب الفرقة والانقسام، وتأجيجها، والإلحاح عليها. بعضهم يفعل ذلك عن غفلة، وبعضهم الآخر يفعله عن سوء نيَّة.
لقد حدث هذا أثناء حرب تمّوز 2006، الَّتي شنَّها العدوّ الصَّهيونيّ على لبنان ودامت 34 يوماً، وحدث أيضاً إبّان الانتفاضة الفلسطينيّة المجيدة غير المسبوقة في شمولها وتنوّع وسائلها الَّتي اندلعت في شهر أيَّار الجاري 2021.
في تمّوز 2006، كان يمكن اختزال خطاب المشكِّكين بالقول إنَّ المقاومة (حزب الله) تسبَّبت باستدعاء عدوانٍ صهيونيٍّ غاشم على لبنان، ما أدَّى إلى تدمير البنية التَّحتيّة وقتل وجرح عددٍ كبيرٍ من المواطنين اللبنانيين؛ لقد نسي أولئك (وبعضهم تناسى) أنَّ العدوّ الصّهيونيّ طالما استباح سماء لبنان وأرضه.. قبل نشوء حزب الله ومِنْ دون أي مبرِّر سوى الرَّغبة في فرض هيمنته والتَّعبير عن أطماعه وغطرسته. ونسي بعضهم أيضاً، وتناسى بعضهم الآخر، حقّ (وواجب) مقاومة المحتلّ وتحرير الأرض والشّعب منه، وأنَّ لذلك كلفته الباهظة، وأنَّ كسب الحروب (وخسارتها) لا يُقاسان بالخسائر الَّتي تسبِّبها، بل بالأهداف الوطنيّة الَّتي تحقِّقها.
آنذاك، قال السَّيِّد حسن نصر الله مخاطباً بعض الحكّام العرب الَّذين أكثروا من انتقاد المقاومة وصمتوا عن انتقاد جرائم العدوان الصّهيونيّ: لا نريد منكم شيئاً؛ فقط كفّوا أذاكم عنّا.
أمَّا هذه المرَّة، فقد انقسم أصحاب هذه العادة السِّيئة إلى قسمين؛ القِسم الأوَّل قال إنَّ صواريخ غزَّة عتَّمتْ على انتفاضة أهلنا البواسل في الشَّيخ جرَّاح والأقصى، وأضعفت التَّضامن العالميّ (خصوصاً في الغرب) مع الشَّعب الفلسطينيّ بعدما كان قد عاد إلى زخمه القديم خلال هذه الانتفاضة المجيدة.
ونقول لهؤلاء:
أوّلاً، هذا المنطق هو منطق «إمّا أو» الصّوريّ القاصر.. إمّا هذا الشّكل من المقاومة أو ذاك ولا يجوز لهما أن يجتمعا.. إمّا المقاومة الشَّعبيّة السِّلميّة وإمّا المقاومة المسلّحة.. أحدهما صحيح بالمطلق والثَّاني خطأ بالمطلق. وهذا مع أنَّ تجارب كثير من الشّعوب أثبتت جدوى استخدام أساليب مختلفة للنِّضال والمقاومة.
وفي ما يخصّ وضع التَّضامن مع الشَّعب الفلسطينيّ في الغرب، فثمّة موقفان، كما هو معروف؛ موقف الحكومات الغربيّة، وموقف شعوب تلك البلدان؛ موقف الحكومات – كما هو دائماً – مؤازر للعدوّ الصّهيوني وينتصر له «ظالماً أو مظلوماً» على الشَّعب الفلسطينيّ الأعزل، سواء انطلقت صواريخ غزَّة أم بقيت الأمور في إطار التَّظاهر السِّلميّ. وفي أقل الأحول سوءاً، فإنَّ موقف بعض هذه الحكومات يقتصر على توجيه الدّعوة إلى طرفي الصِّراع مِنْ أجل «الحفاظ على ضبط النَّفس»! أمَّا الشّعوب، فقد أظهرت، في الغرب وفي مختلف أنحاء العالم، زخماً كبيراً في تضامنها مع الشّعب الفلسطينيّ وإدانتها للعدوّ الصّهيونيّ.. على نحوٍ يذكِّر بما كان سائداً خلال عقدي السّتينيّات والسَّبعينيّات، ولم يتغيَّر موقفها هذا بعد دخول صواريخ غزَّة على خطّ الانتفاضة السِّلميَّة. وفوق ذلك، فقد امتدَّت الانتفاضة الشَّعبيَّة بزخمٍ كبير إلى الأراضي الفلسطينيّة الَّتي اُحتُلَّتْ في العام 1948.
وفي ما يخصّ القسم الثَّاني مِنْ أنماط النَّاس السَّلبيين، فهم ما إن انطلقت صواريخ غزَّة، حتَّى أخذوا يتصايحون مشكِّكين: أين صواريخ حزب الله؟ أين محور المقاومة؟
كأنَّهم لم يكونوا قد ملأوا الدّنيا صياحاً، طوال السَّنوات الماضية، محاولين إثبات مزاعمهم بأنَّ محور المقاومة ليس مقاوماً في الحقيقة ولا هو حتَّى ممانع، وأنَّه بالنِّسبة لهم خصمٌ، بل عدوّ.. حتَّى قبل العدوّ الصَّهيونيّ! فكيف لهم أن يسألوا عنه الآن وعن صواريخه باستهجان؟!
ثمَّ هل توصَّل هؤلاء القوم إلى أنَّه آن الأوان لإشعال حربٍ شاملةٍ.. على مستوى المنطقة على الأقلّ؟ لم نسمع أحداً يتكلَّم عن هذا.. حتَّى مِنْ أطراف المقاومة في غزّة بمَنْ فيهم كتائب القسَّام.
إذاً، ماذا كانت الغاية من المطالبة بتوسيع نطاق الحرب إلى هذه المستويات الخطيرة؟ أم أنَّها عادة إطلاق الكلام على عواهنه وبلا مسؤوليَّة؛ باعتبار أنَّه مجَّاني (وما في عليه جمرك)؟!
هل المبرِّر هو الخسائر المادّيّة والبشريّة الباهظة في غزَّة؟
هذه الخسائر عزيزة وغالية؛ ولكن هل يكون الرَّدّ بخلق المزيد مِنْ أسباب الخسائر على مستوى المنطقة ومِنْ دون أن تكون قد وُضِعَتْ لهذه العمليّة أهداف تبرِّر مثل هذا الحجم الإضافيّ من الخسائر الَّتي ستكون هائلة؟
في حرب تمّوز 2006، قاتل حزب الله وحده 34 يوماً، مدعوماً بالعواطف وحدها.. أعني عواطف أنصار المقاومة ضدّ العدوّ الصّهيونيّ والإمبرياليّ في لبنان وفي بقيّة البلاد العربيّة والعالم. ولم يطلب أحدٌ انطلاق الصَّواريخ مِنْ أيّ مكانٍ آخر سوى لبنان. ومع ذلك، فبنتيجة صمود المقاومة اللبنانيّة وبسالتها، دخلت «إسرائيل» في أزمة وجوديّة مستعصية.. مِنْذ ذاك وحتَّى الآن؛ أحد مظاهرها أنَّه فُرِضَتْ على الكيان الصَّهيونيّ لأوَّل مرَّة معادلة ردعٍ حازمة لا تزال قواعدها راسية حتَّى الآن.
وأمَّا في الانتفاضة الفلسطينيّة الأخيرة (بكلّ أشكالها ومواقعها)، فأُسقِطتْ جميع الرِّهانات على المشاريع الاستسلاميّة، وأُسقِطتْ كذلك مشاريع التَّآمر الأخرى التَّي استهدفت القضيَّة الفلسطينيّة في السَّنوات الأخيرة، ووُضِعَ العدوّ الصّهيونيّ، ورعاته في واشنطن وحلف الأطلسيّ، وأدواته وتوابعه من الأنظمة التَّابعة، في مأزقٍ كبيرٍ لا يُحسَدون عليه. وطوال أيَّام هذا الصِّراع العنيف، لم تقل فصائل المقاومة في غزَّة إنَّها استنفدت إمكاناتها كاملةً للمواجهة والرَّدّ على العدوّ وضربه وإيلامه، أو إنَّ ظروفها وأحوالها تردَّتْ إلى حدٍّ يستدعي تدخّلاً عسكريّاً خارجيّاً لإنقاذها؛ فماذا كانت الغاية، إذاً، من الدَّعوة إلى فتح جبهاتٍ جديدة ستقود حتماً إلى حربٍ واسعة نتائجها غير محسوبة؟!
مِنْ ناحية أخرى، يتناسى هؤلاء المشكِّكون مَنْ سلَّح غزَّة ودَعَمَها فعلاً.. يتناسون أنَّ سوريّة كانت قد أقامت غرفة عمليّات في اللاذقيّة في العام 2008 لدعم غزّة بالسَّلاح، وأنَّ حزب الله قدَّم مائة شهيد في تسعينيّات القرن الماضي لإيصال السِّلاح إلى غزَّة، وإحدى الخلايا الَّتي كانت تنقل ذلك السِّلاح ألقى الأمن المصريّ القبض عليها، وقضيَّتها مشهورة..
نذكِّر، هنا، الَّذين نسوا (أو تناسوا) بقضيَّة «خليَّة سامي شهاب» (سُمِّيَتْ بالاسم الحركيّ لقائدها) الَّتي اُعتُقلت في سيناء أيّام حسنى مبارك وهي تحاول إيصال السَّلاح إلى غزّة. الإعلام المصريّ والعربيّ والأجنبيّ غطَّى، في حينه، أخبار اعتقال تلك الخليّة ومحاكمتها على نطاقٍ واسعٍ، وتحدَّث – في السِّياق نفسه – عن الدَّور الَّذي كان يقوم به حزب الله لتسليح غزَّة.
وعلى أيَّة حال، العديد مِنْ قادة المقاومة في غزَّة تحدَّثوا عن الدَّعم الكبير الَّذي طالما تلقَّته غزَّة مِنْ محور المقاومة. ومؤخَّراً، أصبحوا جميعاً يتحدَّثون باعتبارهم جزءاً مِنْ هذا المحور.
والآن، انظروا إلى هذه المفارقة اللافتة: لقد دأب هؤلاء المشكِّكون على اتِّهام إيران وحزب الله بدعم الحوثيين في اليمن بالسِّلاح وبأنَّهما يقفان وراء تطوير قدرات التَّصنيع العسكريّ لدى الحوثيين.. الخ؛ لكن، حين يتعلَّق الأمر بغزّة وحماس ومَنْ سلَّحهم ومَنْ طوَّر تصنيعهم العسكريّ، نجدهم إمَّا يصمتون صمت القبور، أو يتصايحون بفجائعيّة زائفة: أين صواريخ حزب الله؟ وأين محور المقاومة؟!
وهم، بالطَّبع، لا يتساءلون مطلقاً عن صواريخ قطر وتركيا والسّعوديّة وسواها من الأنظمة المرتبطة بالغرب أو (أو بحلف الأطلسيّ) والتَّابعة له.
مؤسّف أن نضطرّ، في مثل هذا الظَّرف الدَّقيق، إلى التَّورّط بمناقشة أمور بديهيّة كهذه.
على أيَّة حال، بالنِّسبة لي ولآخرين كُثُر سواي، فنحن لا نتَّفق مطلقاً مع الأيديولوجيا الدِّينيّة.. لا إذا كانت لحزب الله، ولا إذا كانت لحماس أو الجهاد الإسلاميّ، ولا إذا كانت لإيران؛ ولكن لأنَّ بوصلتنا تؤشِّر دائماً على العداء للإمبرياليّة والصّهيونيّة، فإنَّنا نتناسى اعتراضاتنا على الأيديولوجيا دائماً، ونقف مع كلّ مَنْ يقاوم.. كائناً مَنْ كان، ولا يخطر في بالنا مطلقاً أن نصادق النَّاس أو نعاديهم على أساس أنَّهم سنّة أو شيعة أو مسلمون أو مسيحيّون أو سوى ذلك من التَّصنيفات الغريزيّة البدائيّة.
ما لم نرتقِ جميعاً إلى مستوى الموقف الوطنيّ والقوميّ والإنسانيّ الَّذي لا تشوبه شائبة، وما لم تكن بوصلتنا صحيحة فتؤشِّر على العدوّ والصَّديق بدقّة، فسنظلّ ندور في حلقة مفرغة من الإحباطات والهزائم إلى ما لا نهاية.
نأمل أن نستوعب جميعاً (وأخيراً) درس المقاومة.. المقاومة في غزَّة أو في باقي فلسطين المحتلّة أو في لبنان أو في أيِّ مكانٍ آخر مِنْ هذا العالم المنكوب بالهيمنة الإمبرياليّة والصّهيونيّة.