بحر الأرواح


حميد كشكولي
الحوار المتمدن - العدد: 8004 - 2024 / 6 / 10 - 00:25
المحور: الادب والفن     

في قرية صغيرة، حيث تتمايل الأشجار على أنغام الريح وتتراقص أوراقها في هدوء، كان هناك قبر قديم يقبع في زاوية منسية من المقبرة. لم يزره أحد منذ سنوات، وقد غطته طبقة سميكة من الغبار والنسيان. لكن في ليلة لا تشبه الليالي، حدث شيء لم يكن في الحسبان، إذ أخذت حجارة القبر تتحرك ببطء مع كل نداء للمؤذن يصدح في الفضاء. فانزاح الغبار، وكأنه يفسح المجال لشيء جديد أن يولد من رحم القديم. ومن بين الشقوق، سقطت ورقات متهالكة كانت قد نُسيت هناك منذ زمن بعيد.
من تحت الأرض، شرعت يد تخرج ببطء، تنقب في تراب الأرض كمن يبحث عن كنز ثمين. كانت أصابعها تشبه الزبدة في نعومتها، وهي تداعب خصر الأرض، تطلب منها الماء. كان هناك عطش لا ينتهي، عطش الموتى الذين تركوا وراءهم حكايات وجروحًا تحتاج لمن يطرزها من جديد.
انحنى الرجل الذي خرج من القبر على ضلوعه، وفي قلبه الفارغ، بدأت تلوح سفينة. كان ذاك دعوة لمن يريد الإبحار، لمن يريد الذهاب إلى مكان لا يعرفه أحد. وقد كان الفضاء القاسي في هذه اللحظة، يحمل شموعًا زكية، تضيء دروبًا تحت الأرض لمن يجرؤ على الدخول.
كسر الرجل ستائر الغبار قليلاً، وأخذ يتفرج على الموتى. كان يبارك لهم مسيرهم ويسألهم أسئلة لا يعرف أحد إجاباتها. هل انتهى الموت لما ماتوا؟ هل يذكرون الأحياء الذين كانوا معهم يومًا ما؟ هل مواعيد العشاء لا تزال كما كانت أم أنهم لم يعودوا يأكلون؟
كان الموتى ينامون على ضلع وارد من معاني أرق الأحياء، يمتصون دموعهم ويحولونها إلى لبن قاتم. وعندما يحل الليل الأسود، يبحرون في رحلة لا يعلم مداها إلا القدر.
وهكذا، في كل ليلة، يبحر الرجل مع الموتى، يبحث عن إجابات في عالم لا يعرفه سوى من جرب الموت. وتستمر الحكاية، تتوارثها الأجيال، حكاية إبحار الموتى.
كان الرجل يُدعى "عمران"، وقد عُرف في حياته بحبه للبحر والمغامرة. كان صيادًا ماهرًا، يعرف كيف يقرأ أسرار الأمواج ويتنبأ بالعواصف قبل وصولها. لكنه لم يكن مجرد صياد، بل كان يحمل في قلبه شغفًا بالقصص والأساطير، وكان يؤمن بأن البحر يخفي في أعماقه عوالم أخرى لم يكتشفها الإنسان بعد.
أما السفينة التي ظهرت في قلبه الفارغ، فكانت تُدعى "ماريا"، وهي سفينة أسطورية تُقال إنها تظهر للموتى فقط. كانت تحمل شراعًا واحدًا عريضًا يلتقط أنفاس الأرواح الراحلة ليدفعها قُدمًا. كانت مصنوعة من خشب الأرز العتيق الذي لا يتأثر بالزمن ولا بالماء، وكانت نقوشها تحكي قصصًا من العصور الغابرة.
وعلى متن "ماريا"، كان عمران يقف بثبات، ينظر إلى الأفق البعيد، وهو يحمل في يده بوصلة قديمة تُرشده إلى العوالم التي لم يرها بعد. كانت السفينة تبحر به في بحر من الضباب، حيث الحدود بين الحياة والموت تصبح غير واضحة، وحيث الأسرار تنتظر من يكتشفها.
وكان في كل رحلة، يتعلم شيئًا جديدًا عن الحياة والموت، وعن العالم الذي يقبع خلف الستار. ومع كل إبحار، كان يترك وراءه دموع الأحياء التي تحولت إلى حبر يكتب به قصته الجديدة، قصة رجل يبحر مع الموتى بحثًا عن الحقيقة والمعنى في عالم لا يعرفه سوى القليلون.
في إحدى رحلاته، واجه عمران "بحر الأرواح"، حيث تتلاطم أمواجه بصخب، وكل موجة تحمل صدى أرواح مضت. كان عليه أن يتعلم كيفية التنقل بين هذه الأمواج دون أن يغرق في حزنها العميق. وفي لحظة من اللحظات، وجد نفسه يتحدث إلى روح قديمة كانت تبحث عن السلام، ومن خلال حديثه معها، تعلم عمران درسًا قيمًا عن الإباء والسماحة.
واكتشف في رحلة أخرى، "جزيرة الأحلام المنسية"، حيث تتجسد أحلام البشر التي لم تتحقق، في صورة أشجار وأزهار ومخلوقات غريبة. كانت الجزيرة مليئة بالألوان والأصوات، ولكنها كانت أيضًا مليئة بالحنين والأسى. واجه هناك تحديًا جديدًا: كيف يمكنه مساعدة هذه الأحلام على إيجاد معنى جديد حتى بعد أن تخلى عنها أصحابها.
وفي مغامرة مثيرة، عبر "مضيق الزمن المعكوس"، حيث يسير الزمن إلى الوراء وتعود الأحداث لتتكرر. شاهد عمران لحظات من حياته السابقة، لحظات الفرح والحزن، وكان عليه أن يختار: هل يعيش في الماضي أم يواصل رحلته نحو المستقبل؟
وكانت "نورا"، روحاً غامضة تظهر في أكثر اللحظات غير المتوقعة. إنه لا يعرف الكثير عن "نورا"، لكنها تبدو كمرشدة تعرف أسرار الأرواح والعوالم التي يبحر فيها. ولديها قدرة خاصة على التواصل مع الأرواح التي يلتقي بها عمران في رحلاته. تساعده على فهم رسائلهم وتعلم الدروس من تجاربهم. كما أن لها دورًا في توجيه السفينة عبر الأمواج العاتية والمواقف الصعبة التي يواجهها عمران.

تتميز نورا بشخصيتها الهادئة والحكيمة، وغالبًا ما تظهر عندما يكون عمران في أمس الحاجة إلى النصح أو الدعم. وعلى الرغم من أنها تبقى غامضة ولا يمكن التنبؤ بتصرفاتها، إلا أن وجودها يُشعر عمران بالأمان والثقة أثناء إبحاره في العالم الآخر.
يبدأ عمران في اكتشاف أن نورا ليست مجرد روح عابرة، بل هي جزء لا يتجزأ من رحلته ومن سفينة "ماريا" نفسها. تُصبح علاقتهما أعمق مع كل رحلة، ويتعلم كل منهما من الآخر دروسًا قيمة عن الحياة، الحب، والوجود. وعند انتهاء موسم الرحلات تنتشر روح الثلاثة، عمران والسفينة "ماريا" و"نورا" في الفضاء ولا يرى أحد شيئاَ منهم سوى قبر يهجع فيه رفات إنسان واحد للكائنات الثلاثة.

مالمو
2024-06-09