الأناركية التبادلية وأناركية يسار السوق
سامح سعيد عبود
الحوار المتمدن
-
العدد: 5615 - 2017 / 8 / 20 - 10:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الأناركية التبادلية:
ترجع جذور الأناركية التبادلية لبيير جوزيف برودون الذي تبنى نظرية القيمة في العمل الاقتصادية التي تقول إنَّ السعر الحقيقي للشيء أو البضاعة (الكلفة الحقيقية) هيَ مقدار العمل أو الجهد البشري الذي استنفذ في إنتاجه. بالتالي فإنَّ أيَّ شخص يريد بيع أيِّ منتج أو بضاعة لا يجب أنْ يتقاضى أكثر من قيمة العمل الذي بذل في عملية الإنتاج. فحسب أنصار النظرية ومنهم برودون: “فإنه العمل والعمل فقط، هو المنتج لكل عناصر المال والثروة..وكان برودون حريصا أيضا على أنْ يسدي نصيحته القيمة بهذا الخصوص بأن: “قيمة العمل عبارة عن تعبير شخصي، وهو أيضا ترقب للنتيجة من السبب”.
أثرت تبادلية برودون بشكل كبير على أناركي أمريكا الفرديين بالأخص في تجارب جوسيا وارين وبنيامين توكر الذي قام بترجمة أعمال برودون إلى الإنكليزية.
كما قام برودون أيضا بالتأكيد على التشارك بين المنتجين، ولذلك طور نظرية التنظيم التلقائي في المجتمع، حيث تنشأ المنظمات بدون سلطة مركزية، أيْ بشكل “أناركية إيجابية” تنشأ عندما يقوم كل فرد بما يحب القيام به فقط لصالح خدمة المجتمع بكل ما فيه. وقد رأي الأناركية على أنها:
شكل من أشكال الحكومات أو الدساتير (المواثيق الجمعية)، يكون فيه الوعيُ الخاص والعام، المتشكل عبر تطور العلوم والقانون، كافيا وحده للحفاظ على تنظيم العمل والحفاظ على كل الحريات. وفي هذا النظام الجديد، تتقلص المؤسسات السياسية ومؤسسات الشرطة والطرق القمعية والترهيبية والمناصب الحكومية إلخ..ليتم اختفاء المركزية الشديدة، ويستبدل الحكم المركزي الأحادي بمؤسسات اتحادية لا مركزية، وأنماط من الحياة تعتمد على أنشطة المجتمع المباشرة.
كانت معارضة برودون لكل من الرأسمالية والدولة والدين المنظم هي الأفكار الموحية لمن تلاه من الأناركيين، مما جعل منه أحد قادة الفكر الاشتراكي في عصره. ومع ذلك فقد كان معارضا لأفكار الشيوعية، سواء كانت ذات طبيعة طوباوية أو التنويعات الماركسية لفكرة الشيوعية. وكان انتقاده الأساسي لها هو تحطيمها لفكرة الحرية، وإنكارها حرية المرء في التحكم بوسائل إنتاجه الخاصة. فالأناركية التبادلية تقع في موقع متوسط بين الفردية والجمعية.
كتب برودون في كتابه الأساسي“ما هي الملكية؟” المقولة الشهيرة:“الملكية هي السرقة”،وعارض قانونية مؤسسة “الملكية”التي تقوم على أنَّ أصحاب الملكية لهم كامل الحقوق في“استخدام واستغلال ممتلكاتهم والتصرف فيها كما يشاؤون”. وقارن حق الملكية الخاصة مع ما وصفه بحق “الحيازة” أو الملكية المحدودة للموارد والسلع المشروطة بالاستخدام المتواصل لها فقط. وفي وقت لاحق أضاف برودون “إنَّ الملكية هي الحرية”، وقال أنَّها حصنٌ للفرد ضد سلطة الدولة.
وفي حين أنَّه عارض مبدأ التوزيع حسب الحاجة الشيوعي، مفضلا عنه مبدأ التعويض عن العمل، إلَّا أنَّه عارض أيضا نظام العمل المأجور الرأسمالي (أيْ التربح من عمل شخص آخر). كما أنَّه عارض كلًا من الإيجار، والفائدة، والربح، وهيَ عوائد رأسالمال، كمصادر للدخل الشخصي، كما عارض الضرائب كمصدر للدخل الحكومي، واعتبرها ما تنهبه الدولة لا لترعى مصالح المواطنين، ولكن كيْ تدافع عن مصالحها في مواجهتهم. وأيد نظاما اقتصاديا يسمى تبادل المنافع والمصالح المعروف بـ (التبادلية أو التنافع)، وحث العمال “على تجميع أنفسهم في جماعات تعاونية ديمقراطية، ذات ظروف متساوية لجميع الأعضاء”. وقال إنَّه في ظل الرأسمالية، فإنَّ الموظفين المأجورين “خاضعين ومستغلين”وفي“حالة دائمة من الطاعة”، لأصحاب العمل والمدراء” مثلهم مثل العبيد”. وأثرت أفكار برودون في حركة الطبقة العاملة الفرنسية، وكان أتباعه فاعلين في ثورة 1848 في فرنسا، فضلا عن كومونة باريس عام 1871. واختلف الأناركيون الشيوعيون، مثل كروبوتكين، في وقت لاحق مع برودون لدعمه “الملكية الخاصة “لمنتجات العمل (أيْ الأجور، أو”المكافأة عن العمل المنجز”) بدلا من التوزيع المجاني لمنتجات العمل.
بدأ تيار تبادل المنافع والمصالح في القرن الـ18في الحركات العمالية الإنجليزية والفرنسية قبل اتخاذ شكله الأناركي المرتبط ببيير جوزيف برودون في فرنسا،والمقترح من غيره في الولايات المتحدة،قبل أنْ يربطه برودون بالأناركية، حيث رأى أنْ ينشأ التنظيم العفوي للجماعات دون سلطة مركزية، ويطرح نظام “الأناركية الايجابية” حيث يفعل الجميع“ما يتمنوه وما يشاءون” وحيث“تكون المعاملات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية والتبادلية وحدها هيَ التي تنتج النظام الاجتماعي”.
ومن المهم أنْ ندرك أنَّ برودون ميز بين الأفكار السياسية المثالية التي تبناها ودافع عنها، وبين ممارسته السياسية العملية في الحياة العامة. ولهذا السبب، نرصد الكثير من التناقضات بين بعض تصريحاته النظرية النهائية المتعلقة بعفوية الحكم الذاتي، وحقيقة أنَّ برودون كان منخرطا بشدة في السياسة البرلمانية الفرنسية، ومتحالفا في نفس الوقت ليس مع الأناركيين الآخرين فحسب، ولكن مع فصائل الاشتراكيين الدولتيين، وحركات العمال الإصلاحية، وبالإضافة إلى دعوته لمواثيق حماية الدولة للتعاونيات المملوكة للعمال، وترويجه لخطط تأميم معينة خلال حياته في العمل العام.
تهتم الأناركية التبادلية بمبدأ المعاملة بالمثل، وحرية تكوين الجمعيات التعاونية، والتعاقد الطوعي، والاتحادية في البنية الاجتماعية، وإصلاح الائتمان للقضاء على الربا، وربط العملة بوقت العمل. ووفقا للتبادلي الأمريكي وليام باتشلدر جرين، فإنَّ كل عامل في نظام تبادلي سوف يتلقى “فقط الأجر المحدد لعمله، وخدمات مساوية في التكلفة يمكن تبادلها مع خدمات مماثلة في التكلفة، دون ربح أو خصم”. وبهذا فتبادل المنافع والمصالح يتميز بموقع متوسط عقائديا بين الأشكال الفردية والجمعية للأناركية. وميز برودون هدفه بأنه “شكل ثالث من المجتمع، يركب بين الشيوعية والملكية الخاصة”.
وطور برودون في كتابه ما هيَ الملكية؟ مفهوم “الحرية”، ليعادل مفهوم “الأناركية”، “والتوليف جدليا بين الشيوعية والملكية الخاصة”، وأن تبادل المنافع والمصالح تركيب بين ثلاث رؤى: الشيوعية والرأسمالية والاشتراكية، واستخدم الأناركيون الفرديون في وقت لاحق تعبير تبادل المنافع والمصالح، لكنهم أبقوا على القليل من التركيز على التوليف، في حين أنَّ الأناركيين الجماعيين يرون أنَّ تبادل المنافع والمصالح هيَ مجموعة فرعية من التقليد الأناركي الفردي.
ويدَّعي كلارنس لي شوارتز:“إنَّ كلمة (تبادل المنافع والمصالح) يبدو أنَّه قد تم استخدامها لأول مرة من قبل جون جراي، وهو كاتب إنجليزي، في عام 1832”. عندما نشر جون جراي 1825 محاضرة عن السعادة البشرية، وألحق الناشرون لأول مرة في الولايات المتحدة في عام 1826، المصطلح في ديباجة دستور الرابطة الودية للمصالح المتبادلة، في وادي فورج في كندال، أوهايو.
في وقت مبكر من ثلاثينات القرن 19، أطلق أعضاء منظمة العمل في ليون، في فرنسا، على أنفسهم اسم “التبادليون”، واعتمد بيير جوزيف برودون لاحقا اسم التبادلية لوصف تعاليمه. وعارض امتيازات الحكومة التي تحمي مصالح الرأسماليين والبنوك وملاك الأرض، وتراكم أو حيازة الممتلكات (وأيَّ شكل من أشكال القسر التي أدت إلى ذلك) التي يعتقد أنها تعيق المنافسة، وتحافظ على الثروة في أيدي قلة من الناس.
وفضل برودون حق الأفراد في الاحتفاظ بنتاج عملهم مثل ممتلكاتهم الخاصة، ولكنه يعتقد أنَّ أيَّ ممتلكات أبعد من تلك التي ينتجها الفرد بنفسه، ويمكن أنْ تمتلك تصبح غير شرعية. هكذا رأى أنَّ الملكية الخاصة أساسية لتحقيق الحرية، وطريق للاستبداد في نفس الوقت، على حد سواء، في الحالة الأولى عندما تنتج عن العمل ومطلوبة للعمل وعائده الأجر تحقق الحرية، وفي الحالة الثانية عندما تؤدي إلى الاستغلال وعوائده ( الربح والفوائد والإيجار والضرائب) فتكون طريقا للاستبداد. وعموما فإنَّ“الحيازة للاستخدام والانتفاع فقط” تحقق الحرية... أما “الملكية الخاصة” بإضافة حقَّيِّ التصرف والاستغلال لحق الانتفاع والاستخدام، للصناعة واسعة النطاق فتؤسس للاستبداد، فمن يملك يتحكم في المحروم، برغم المساواة القانونية بين المالك الحاكم، والمحروم المحكوم، فمن يملك الطعام قادر على إجبار الجائع على تنفيذ ما يريده هو لا ما يريد الجائع، والذي لابد وأن يقبل شروط مالك الطعام حتى يعطيه ما يملأ معدته، ويستطيع الجائع أنْ يخدع نفسه بأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وهذا صحيح، ولكن بشرط توافر الخبز أولا، فحتى يستطيع الإنسان ممارسة أيِّ نشاط آخر غير الأكل، عليه أولا أنْ يملأ معدته بالطعام، وإلا لن يكون باستطاعته الحياة ليمارس أيَّ نشاط. ولذلك أيد برودون جمعيات العمال لتحل محل نظام العمل المأجور، وعارض ملكية الأرض في نفس الوقت.
ويعتبر يوشيا وارن الأناركي الأميركي الأول، وقد حرر صحيفة أسبوعية من أربع صفحات خلال عام 1833، كانت أول دورية أناركية منشورة على نطاق واسع. وصاغ يوشيا وارن عبارة “تحديد السعر بالتكلفة”، “التكلفة”هنا لا تشير إلى السعر النقدي المدفوع، ولكن إلى وحدة العمل المبذولة لإنتاج شىء. لذلك اقترح نظاما للدفع والتبادل وفق شهادات تشير إلى طول ساعات العمل التي استغرقها إنتاج السلعة، فما يملكه الناس هو شهادات مساوية في قيمتها لعدد ساعات العمل التي أنفقوها في العمل، وبها يشترون ما يحتاجونه من سلع وخدمات يحدد سعرها بالزمن الذي احتاجته لتنتج أو تقدم. ويمكن تبادل تلك الشهادات في مخازن الزمن المحلية بما يساوي السلع التي أخذت نفس المقدار من الوقت للإنتاج”.
وضع وارن نظرياته على المحك من خلال إنشاء “مخزن العمل مقابل العمل” التجريبي،الذي يسمى مخزن الوقت “سينسيناتي”، حيث تم تسهيل التبادل من خلال الشهادات التي يدعمها وعد لأداء العمل. وأثبت المتجر النجاح وعمل لمدة ثلاث سنوات، وبعد ذلك تم إغلاقه حتى يمكن لوارن مواصلة إقامة المستوطنات على أساس تبادل المنافع والمصالح. وشملت هذه المستوطنات مستوطنتي“المدينة الفاضلة”و”الأزمنة الحديثة”. ونشر ستيفن بيرل أندروز كتاب “علم المجتمع”في عام 1852، وكان الشرح الأكثر وضوحا وكمالا لنظريات وارن الخاصة.
تصور أناركية تبادل المنافع والمصالح مجتمعا يتوافر فيه لكل شخص وسائل الإنتاج، إما بشكل فردي أو جماعي تعاوني، مع تبادل وفق الكميات المعادلة من العمل في السوق الحرة، وكان جزءا لا يتجزأ من النظام تأسيس بنك الائتمان المتبادل الذي سوف يعطي للمنتجين الحد الأدنى من سعر الفائدة ما يكفي فقط لتغطية تكاليف الإدارة. ويستند تبادل المنافع والمصالح على نظرية العمل– القيمة،ولذلك يرى أنصارها أنْ يباع العمل أو منتجاته، في مقابل وقت العمل، ويجب الحصول على السلع أو الخدمات التي تجسد “كمية العمل الضروري لإنتاج مادة مماثلة تماما، وعلى قدم المساواة”.
ويعتقد بعض التبادليين أنَّه إذا لم تتدخل الدولة، فإنه كنتيجة لزيادة المنافسة في السوق، فإنَّ الأفراد سوف لا يحصلون على أيِّ مزيد من الدخل من ذلك إلَّا بما يتناسب مع كمية العمل التي يقومون بها، ويعارض التبادليون فكرة حصول الأفراد على أيِّ دخل من خلال الإقراض أوالاستثمارات أوالتأجير، لأنهم يعتقدون أنَّ هؤلاء الأفراد لا يعملون. ويرى بعضهم أنَّه في حالة توقف تدخل الدولة، فإنَّ هذه الأنواع من الدخل سوف تختفي بسبب زيادة المنافسة في رأس المال.
يؤمن الكثير من الأناركيين التبادليين أنَّ السوق بدون تدخل حكومي ستشهد حالات من الانتعاش الاقتصادي لأن الشركات ستضطر للمنافسة مع بعضها على اليد العاملة كما يتنافس العمال على الشركات، إذا أوقفت الحكومات تدخلها في حماية الاحتكارات، فإنَّ كل عامل سينال فعلا، وبشكل طبيعي قيمة “إنتاجه الكامل” بدون أنْ ينقص من استحقاقات صاحب العمل.. لكن العامل الأقل إنتاجية سينال أقل من العامل الأكثر إنتاجية كما ستكون الملكيات الشخصية والصغيرة محمية ومصانة.
على الرغم من أنَّ برودون يعارض هذا النوع من الدخول سواء من الإقراض أو الاستثمارات أو التأجير، إلَّا أنَّه أعرب عن: “...إنَّه لم يكن يعني أبدا أنْ...يمنع أو يقمع، بمراسيم سيادية، الإيجار العقاري والفائدة على القروض والربح على رأس المال، واعتقد أنَّ كل هذه الأشكال من النشاط البشري يجب أنْ تظل حرة واختيارية للجميع”، حتى تتلاشى بقدر ما يضمن للعمال الحق في الحصول على منتج كامل عملهم، ولذلك يدعم التبادليون الأسواق والملكية الخاصة لنتاج العمل. ومع ذلك، يقولون بالملكية المشروطة والمحدودة بحق الانتفاع والاستخدام، لا حقَّي التصرف والاستغلال، والتي تكتسب الشرعية فقط طالما أنها لا تزال قيد الاستخدام والانتفاع،أيْ ملكية الاستخدام (التي يسميها برودون “الحيازة”).
ويدعم تبادليو المنافع والمصالح البرودونيون الشركات والجمعيات التعاونية المملوكة للعمال لـ“أننا بلا تردد ليس لدينا أيُّ خيار..فمن الضروري تشكيل جمعية بين العاملين..لأنه من دون ذلك، فسوف تظل العلاقة القائمة بين المرؤوسين والرؤساء، وعلى ذلك سوف يترتب..استمرار وجود طبقات السادة الملاك والعمال الأجراء، وهو أمر بغيض بالنسبة إلى مجتمع حر وديمقراطي”، ولذلك“فإنه يصبح من الضروري على العمال تنظيم أنفسهم في جماعات ديمقراطية، مع ظروف متساوية لجميع الأعضاء”. أما بالنسبة للسلع الرأسمالية (التي من صنع الإنسان؛ “وسائل الإنتاج” غير الأرض)، يختلف رأيُ المتنافعين على ما إذا كانت هذه ينبغي أنْ تدار كالأصول العامة أو الممتلكات الخاصة بشكل عام.
تبادل المنافع والمصالح، كمصطلح، شهد مجموعة متنوعة من الاستخدامات ذات الصلة، وكان شارل فورييه الفرنسي أول من استخدم مصطلح “التبادلية” في عام 1822، على الرغم من أنَّ الإشارة لم تكن إلى نظام اقتصادي. وكان أول استخدام للاسم “متنافع” في مستوطنة نيو هارموني من قبل جريدة أوينتي الأمريكية في 1826.
قبل عام 1846، كان بيير جوزيف برودون يتحدث عن “التبادلية” في كتاباته، وانه استخدم مصطلح “التبادلية”، على الأقل في وقت مبكر عام 1848، في كتابه “البرنامج الثوري”.واستخدم ويليام ب. جرين، في عام 1850، مصطلح “تبادل المنافع والمصالح” لوصف نظام للائتمان المتبادل مماثل لذلك الذي اقترحه برودون. في عام 1850، ونشرت الصحيفة الأمريكية “روح العصر”، الذي حررها وليام هنري تشانينج، مقترحات لـ”بلدة متنافعة” بقلم جوشوا كنج إينجلس وألبرت بريسبان، جنبا إلى جنب مع أعمال برودون، وليام بي. جرين، بيار لورو، وغيرهم.
كتب المؤرخ الأميركي الأناركي يونيس منيتيه شوستر “ومن الواضح...أنَّ الأناركية البرودونية كان يمكن العثور عليها في الولايات المتحدة على الأقل في وقت مبكر من 1848، وأنه لم يكن واعيا للتقارب تجاه الأناركيان يوشيا وارن وستيفن بيرل اندروز...وقدم ويليام ب. جرين تبادل المنافع والمصالح البرودونية في شكل أنقى وأكثر منهجية”...وارتبط تبادل المنافع والمصالح مع نوعين من إصلاح العملة. وقد تمت مناقشة شهادات العمل أولا في الدوائر الأوينية المرتبطة برائد التعاونيات الإنجليزي روبرت أوين، وتلقت أول اختبار عملي لها في عام 1827 في مخزن الوقت الذي أسسه عضو “نيو هارموني” السابق والأناركي الفردي يوشيا وارن. وتهدف المصرفية التبادلية إلى تسييل جميع أشكال الثروة، وتمديد الائتمان الحر، ويرتبط ذلك بشكل وثيق مع ويليام ب. جرين، فضلا عن عمل برودون، وإدوارد كيلوج، ووليام بيك، وكذلك من تقليد بنوك الأراضي.
ويرى التبادليون أنَّ الجمعية التعاونية ضرورية فقط. على سبيل المثال، عند وجود عملية تتطلب لانجازها التخصصات المختلفة، والعديد من العاملين لأداء مهامهم الفردية المختلفة لاستكمال إنتاج منتج موحد، أيْ إنتاج مصنعي. في هذه الحالة، يعتمد العمال بطبيعتهم على بعضهم البعض، ودون اقتران يربطهم على أنهم تابعين ومتبوعين، سادة وعبيد أجرة. أما في الحالة التي يمكن أنْ يقوم بها الفرد دون مساعدة من العمال المتخصصين لا يتطلب الأمر تكوين الجمعيات. وقال برودون أنَّ الفلاحين لا يتطلبون الشكل المجتمعي، وتختلق فقط الجمعية التعاونية لهم لأغراض التضامن بينهم لإلغاء الإيجارات والتسويق والائتمان وشراء مستلزمات الإنتاج، إلخ.
ويرى التبادليون أنَّ الخدمات المصرفية الحرة يجب أنْ تستند على الدعم من قبل الشعب لإنشاء نظم الائتمان الحر. ويؤكدون أنَّ البنوك لديها احتكار على الائتمان، تماما كما أنَّ الرأسماليين يحتكرون الأرض. ويرى كيفن كارسون هو متنافع معاصر، ومؤلف كتاب دراسات في الاقتصاد السياسي المتنافع أنَّ الرأسمالية تأسست على“فعل السرقة الهائلة مثل الإقطاع”، ويقول إنَّ الرأسمالية لا يمكن أنْ توجد في غياب دولة. ويضيف “ تدخل الدولة يميز الرأسمالية عن السوق الحرة”. وكما يلاحظ روبرت غراهام “ ترتبط اشتراكية السوق لبرودون ارتباطا وثيقا بتصوراته للديمقراطية الصناعية والإدارة الذاتية العمالية”. ويلاحظ ك ستيفن فنسنت في تحليله العميق لهذا الجانب من أفكار برودون أنَّ“برودون باستمرار يقدم برنامج الديمقراطية الصناعية التي ستعيد السيطرة للعمال لتوجيه الاقتصاد“. ووفقا لبرودون، “...فإنَّ جمعيات عمال قوية”..من شأنها تمكين العمال لتحديد كيف توجه وتعمل المؤسسة يوما بعد يوم عن طريق الانتخاب “.
أناركية السوق اليسارية:
أناركية السوق اليسارية تؤكد بقوة على الأفكار الليبرالية الكلاسيكية مثل الدفاع عن الملكية الخاصة والأسواق الحرة، واستخدمت استنتاجات الليبراليين المنطقية، باعتبار أنَّ أفكارهم تدعم بقوة مكافحة السيطرة الاجتماعية للمصالح الرأسمالية الخاصة، وتكافح الهرمية، وتؤيد القضايا العمالية، وتعادي الرأسمالية في الاقتصاد، وتعادي الإمبريالية في السياسة الخارجية.
وترتبط أناركية السوق اليسارية بمفكرين يؤكدون على قيمة تحرير الأسواق بصورة جذرية، ويميزون إطلاق سراح الأسواق عن المفهوم الرأسمالي الشائع حيث يعتقدون أنَّ هذا المفهوم يعني تكون الامتيازات الدولتية والرأسمالية على السواء. بالإضافة إلى ذلك يتبنون وجهات نظر ليبرالية تماما أو جذرية فيما يتعلق بالقضايا الثقافية والجنس والجنسية والعرق. ويميل هذا الاتجاه من اليسار التحرري إلى أنْ يجد جذوره في الاقتصاد المتنافع، وفق تصور بيير جوزيف برودون، أو الأناركية الفردانية الأمريكية.
وأخيرا، لا تمثل الأناركيات الفردية والأنانية والتبادلية في النهاية تيارات أغلبية ضمن الأناركيين، فالغالبية العظمى من الأناركيين يفضلون التيارات الاجتماعية، الجمعية أو الشيوعية، أو النقابية، وغالبا ما ساد في أوساط الأناركيين دفاع عن الأناركيات الاجتماعية ومنهج الثورات، وذلك منذ أيام الأممية الأولى وحتى اضمحلال الحركة الأناركية وخسارتها في الحرب الأهلية الإسبانية.