الاغتصاب كجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية
هيثم مناع
الحوار المتمدن
-
العدد: 5456 - 2017 / 3 / 10 - 10:19
المحور:
ملف 8 آذار / مارس يوم المرأة العالمي 2017 - أثر النزاعات المسلحة والحروب على المرأة
بعد أن أصبحت تتكرر جملة "الجيش الأسدي" الذي يقتحم البيوت ويقتل الأطفال ويغتصب النساء في سورية، تواصلت معي عدة منظمات دولية وعربية لحقوق المرأة وحقوق الإنسان ومناهضة العنف تطالبنا بمعلومات عما يقوله السياسيون والناشطون. وكونني تابعت ملف الاغتصاب في ثلاث مناطق وكانت النساء فيهن مسلمات (كشمير، البوسنة، دارفور)، فقد حاولت الحديث مع أكثر من حقوقي ومناضل ميداني وسياسي في ضرورة التوثيق لهذه الجريمة البشعة التي ترقى لمصاف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. ولما لم يهتم أحدا بذلك بدواعي مختلفة أهمها الصمت العار على عار المجرم، بدأت أميل لأن غياب الممارسة المنهجية والمعممة هو سبب ذلك. خاصة وأن مسائل كهذه لا يمكن أن يتم التستر عليها.
في 23 شباط 1991 وقع في قرية كونان بوشورا في كشمير عملية اعتداء من الجنود الهنود على نساء كشميريات. بعد عامين كلفت مع ثلاثة خبراء دوليين بالتحقيق في قضايا الاغتصاب ومنعتنا الهند من دخول أراضيها فذهبنا لمخيمات اللاجئين في آزاد كشمير. وأعددت تقريرا عن ذلك بالاسم والحدث، وخلصنا فيه إلى وقوع حوادث اغتصاب ولكن اغتصاب النساء المسلمات في كشمير ليس ممارسة مبرمجة ومعممة، وهي تمارس فقط من قبل القوات المسلحة الهندية. وقد كان من نتائج عملنا معاقبة عدد من مرتكبي الجريمة وتراجع الظاهرة. بعد ثلاثة أعوام قمت بمهمة لمتابعة الاغتصاب من قبل الميليشيات الصربية للمسلمات في البوسنة. وأعددت تقريرا عن ذلك. وتوصلنا إلى الاغتصاب في البوسنة ممارسة منهجية عند الميليشيات الصربية، وضمت ملفات الملاحقين أمام المحكمة الخاصة بيوغسلافيا السابقة حالات موثقة رافقها أحكام هامة لمن تورط أو تواطأ أو شجع هذه الممارسات.
لم يعد الاغتصاب في المجتمع الإسلامي موضوعا محرما، ويجب فضح المجرم ومعاقبته. وفي سورية منذ انطلاقة ثورة الكرامة توثيق لجريمة التعذيب والمعاملة اللا إنسانية أو المشينة واعتداءات جنسية متفرقة وإن تجاوز الأمر ذلك فالأمر يحتاج لمعالجة مختلفة في الأسلوب والأداء. فالحديث عن قوة احتلال تقوم بممارسات كهذه بشكل منهجي يعني مواجهة اجتماعية وعسكرية وثقافية مفتوحة للخلاص من هذا الجيش بكل من فيه كمؤسسة وعناصر. لأن تصوير كل الجيش السوري جيشا قاتلا مغتصبا برسم عائلة الأسد يعزز بوعي أو بدون وعي فكرة تحطيم الجيش والدولة. هنا الهدف لم يعد عند أصحاب هذه الأطروحة اسقاط النظام بل الدخول في سيناريو بريمر في العراق. وفي هذا خطر كبير على الثورة والمجتمع ووحدة سورية أرضا وشعبا. وكوننا ممن يعتقد أن هذا الجيش مرآة للمجتمع فيه الفاضل والعاطل والمحايد والقاتل.. بل فيه من هو روحا وسلوكا مع الثورة (الانشقاقات لم تأت من المريخ بل من هذا الجيش!!). من هنا طالبت أكثر من مرة بتوصيف جرائم الحل الأمني العسكري بدقة لأن النتائج المترتبة عليها تتعدى قضية المواجهة بين الجيش والمجتمع إلى حالة عداء مستأصلة تضع المجتمع في مواجهة مفتوحة مع الجيش تضرب الجيش والمجتمع والوحدة الوطنية في سورية. وقد انطلقت حملة هستيرية عفوية ومنتظمة ردا على مطالبتي بالتوثيق لحوادث الاغتصاب حتى يصبح بالإمكان تقييمها كمنهجية ومعممة الأمر الذي يعني جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية. فقد اعتبر القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في المادة السابعة الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو أي شكل من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة إذا ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي وعن علم مسبق جريمة ضد الإنسانية واعتبرت كذلك المادة الثامنة ما يحدث عندما يقع في قتال جريمة حرب. وقد أصدر مجلس الأمن في القرن الواحد والعشرين قرارا يسمح بملاحقة كل من يرتكب جريمة الاغتصاب المنهجية أينما كان أمام المحكمة الوطنية والإقليمية والدولية المختصة بذلك في توسيع لنطاق الاختصاص الجنائي العالمي.
معضلة الاغتصاب قديمة قدم الإنسان. وهي للأسف عالمية، أي غير محصورة بشعب أو دين أو لون أو قبيلة. كذلك هي ممتدة في الزمان والمكان.
لقرون طويلة، اعتبر الاغتصاب في الحروب حقا مشروعا للمقاتل. باعتبار المرأة موضوعا من موضوعات الغلبة، أو سلطة رمزية في ثنائية الشرف والعار. وقد تجاوز الأمر عملية الاغتصاب اللحظية إلى الامتلاك الإجباري الكامل (الرق). وذلك في صيغة السبايا التي عرفت من ما قبل ديانات التوحيد إلى ما بعد تشريعات إلغاء العبودية. إنما منذ تحريمه في القانون الدولي، وهنا المفارقة، استمر اللجوء للاغتصاب كوسيلة من وسائل الضغط وإخضاع الأفراد والجماعات والإذلال والسيطرة والتخويف والتفريق وتهجير المدنيين بالقوة. بل ولاحظنا في ظل احتلال العراق، أن الاعتداء الجنسي قد استخدم كوسيلة من وسائل ما يسمى "الحرب على الإرهاب". وبدعوى الضغط على الجماعات الإرهابية والحصول على معلومات ذات فائدة، جرى الاعتداء الجنسي في المعتقلات بحق الجنسين دون تمييز بين بالغ أو قاصر.
ورغم ولادة ثقافة عالمية جديدة مناهضة لأي شكل من أشكال العنف والعدوان على المرأة نجد القانون الجنائي في العديد من الدول العربية يحصر قضية الاغتصاب بتعريف بعض الفقهاء للزنا بالإكراه (الإتصال الجنسي التام بين المرأة وبين الرجل بأن يلج عضوه التناسلي في عضوها التناسلي ايلاجا ولو جزئيا ولو لمرة واحدة، ولا يعتبر اغتصابا اتيان المرأة من الخلف أو عدم حدوث إيلاج). في حين أظهرت الدراسات مدى تأثير العنف الجنسي، بما فيه الأشكال الأقل عنفاً والتي لا تتعدى كيل الكلام البذيء أو فرض رؤية الصور الخلاعية أو التحرش الجنسي القسري أو عدم احترام الحميمية الشخصية وما شاكل، على الصحة النفسية للضحايا وإمكانية حمل عقابيل ذلك طوال حياتهم.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، بنيت ترسانة قانونية قوية ضد الاغتصاب في زمن الحرب. ولدينا من النصوص في القانون الدولي الإنساني وقرارات المحكمة الجنائية الخاصة بنورنبرغ ورواندا ويوغسلافيا السابقة وسيراليون وكذلك ميثاق روما، ما يضع الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي (تحديدا الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري أو التعقيم القسري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة) في خانة جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية وكذلك الجرائم المتعلقة بالإبادة الجماعية.
ومنذ عام 2000 اعترف مجلس الأمن من حيث المبدأ بأن كل ما له صلة بالعنف الجنسي، يعتبر جزءا من عمله، عندما تبنى القرار رقم 1325 الخاص بالنساء والسلام والأمن. رغم ذلك، لم تقع محاسبة أو محاكمة واحد بالمائة ممن ارتكب هذه الجريمة. بل ويمكن الحديث عن تردي في أوضاع العنف الممارس على النساء في زمن الحرب. ومن السهل أن نرصد في العشرين عاما الأخيرة وقوع حالات الاعتداء الجنسي في أوقات النزاع المسلح في كشمير وأفغانستان وكولومبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وراوندا وسيراليون والصومال ودارفور ويوغسلافيا السابقة والعراق. وإن كان لاحتجاج المنظمات غير الحكومية دورا كبيرا في لجم بعض الحالات (كالوضع في كشمير مثلا)، إلا أن الأمور خرجت عن السيطرة الحكومية وغير الحكومية في أوضاع كثيرة. ويمكن للمثل لا للحصر التذكير بأنه في رواندا اغتصب أكثر من نصف مليون امرأة خلال حملات التطهير العرقي عام 1994. ووصل العدد إلى 60 ألف في كرواتيا والبوسنة والهرسك. بينما يقدر عدد النساء اللاتي تعرضن لعنف جنسي في سيراليون بحوالي 64 ألف. وهناك عدة تقارير عن نساء وبنات دارفور اللواتي عانين أشكالا متعددة من العنف ارتكبته المليشيات وقوات الأمن. وقد اقترفت جمهورية الكونغو الديمقراطية جرائم عنف جنسي بشكل عشوائي جعل منظمات حقوق الإنسان تتحدث عن "وباء الاغتصاب".
لكن السؤال المطروح اليوم: هل سيسمح نقل الملف لإطار حق التدخل لمجلس الأمن منذ قرار 20/6/2008 بمواجهة جدية وفاعلة للموضوع؟ هل يمكن للوفد الأمريكي، الذي شكل عصب التراجع في قضايا مركزية تتعلق بسلامة النفس والجسد (مفهوم التعذيب وممارسته) والمحاسبة (استصدار قرارات تمنع محاسبة المقاتل الأمريكي في قوات الأمم المتحدة، وأخرى تمنع محاسبته في مناطق الاحتلال كما الأمر في العراق، إضافة لاتفاقيات ثنائية تحول دون تسليم الدول للأمريكيين للمحكمة الجنائية الدولية الخ)، هل يمكن لهذا الوفد أن يعطي المثل في ذلك وقضية العنف الجنسي على النساء من الجيش الأمريكي بقيت خارج نطاق أي تحقيق جدي ومثلها جرائم الاعتداء الجنسي التي ارتكبت في العراق؟
لن نلجأ لمقاربة تقوم على "كل شيء أو لا شيء أو على ربط مسيرة طويلة وقرار بلحظة سياسية محددة. بل سننطلق من مبدأ يعتبر أي قرار من أية حكومة أو منظمة دولية أو إقليمية خطوة في الاتجاه الصحيح لمجابهة جريمة ألاغتصاب وأكثر من ذلك أقول، إن موقف كونداليزا رايس في مجلس الأمن من هذا القرار يشكل نقطة بيضاء مشرفة لها في بحر سجل أسود.
لمواجهة هذا العار المتربع على جبين البشرية. وعلى هذا الأساس سنضع مطالبنا كمدافعين عن سلامة النفس والجسد. ليس فقط أمام مجلس الأمن، وإنما أيضا أمام الدول التي لم ترتق بعد لشرف التصدي القانوني والمجتمعي والثقافي لهذه الجريمة:
أولا: لم يعد لأي قرار من معنى إذ لم يشكل نقلة فعلية لنظام وقائي حقيقي يضمن حماية الحد الأدنى للجماعات المستضعفة والنساء في زمن الصراعات المسلحة! هكذا نظام يفترض رفض أي استثناء في الزمان والمكان والدولة والمجتمع والواقعة.
ثانيا: إلى أي حد يمكن الانتقال إلى عصر مؤازرة ومساندة للضحايا، القدرة على الوصول إلى الخدمات الاجتماعية، الحماية، تعزيز طرق المقاضاة والمحاسبة، تحديد مسؤولية المجرمين والجماعة الدولية أيضا عن التعويض المعنوي والمادي، ضمان الرعاية الطبية في عصر أمراض خطيرة يمكن أن يحملها الاعتداء الجنسي؟
ثالثا: أليس من الضروري اتخاذ خطوة بعد قرار لمجلس الأمن، تتعلق بتبني اتفاقية دولية تخرج بنا من كل المناطق الرمادية في التعريف ووسائل الوقاية وحماية الضحايا وإعادة تأهيلهم وتعويضهم والمحاسبة يكفي لدخولها حيث التنفيذ في كل الصراعات المسلحة توقيع عشرين دولة أو تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة عليها؟ فما الذي يمنع أن تكون الترسانة القانونية الدولية في موضوع الاغتصاب بنفس القوة والدرجة لما هي عليه في اتفاقية مناهضة التعذيب؟
إن كانت هذه مطالبنا كمدافعين عن الكرامة البشرية فمن الواجب مواجهة مشكلة أكبر هي صمت الضحايا خاصة في ظروف الاضطرابات والحروب. حيث يتم الترويج لفكرة مفادها أن صمت الشهود والضحايا أرحم من الفضيحة الاجتماعية وأفضل من الإهانة العائلية؟؟ بحيث تحمل الضحية عار مغتصبها. وكأن قدرها أن تكون موضوع الجريمة والعقاب. من هنا نريد القول أن موضوعا حساسا بهذا الشكل لا يجوز تناوله بشكل ديماغوجي كما يفعل بعض السياسيين، وأفضل معالجة له هي المعالجة الصادقة والموثقة. لأن الواجب هو إلباس الجلاد ثوب العار المعلن على الملأ كي يدفع وحده ثمن ممارسة يشكل استمرارها لطخة مهينة للبشرية جمعاء