سورية والوضع الثوري العربي
هيثم مناع
الحوار المتمدن
-
العدد: 3296 - 2011 / 3 / 5 - 09:55
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تلقيت من شخص عزيز هذه الرسالة، بعد مقالتي على الجزيرة نت (هل بدأت حقبة الثورة العربية) وإعلان تأييدي لحركة شباب 17 نيسان للتغيير الديمقراطي في سورية:
"بمنتهى الحرية والديمقراطية وحرية الفكر، أخالفك الرأي بطرحك لمجرد فكرة الثورة في بلدي الحبيب سوريا. لأنني أؤمن بالنهضة البناءه التي ينطلق بها المرء من نفسه من كينونته ولا أؤمن أبدا بسياسة الهدم الكلي من أجل تصدع جزئي في البنية والبنيان... أحب بلدي وكل صغيرة وكبيرة في بلدي هي محراب لصلاتي... لا يمكن أن أؤيد ولا عمالقة الفكر، في كفاح ذوي القربى ما أشده من كفر سفاح ذوي القربى.... ليتكم جيشتم الشعوب لاستعادة فلسطين.... لكن الذي تبغونه من تلك القيامة بعيد كل البعد عن الوطنيه وقدس الانتماء .... أرجوك لا تستاء من كلماتي أنت من أطلق العنان للفكر وكان على مدار الوقت رئة للكل على اختلاف مواقعهم وأطيافهم... من خلالكم أنتم الشخص الأكثر تميزا وتفوقا في نظري... أعتذر من فلسطين وما أدراك ما فلسطين بلد لكل حر.. صادق.. أمين....أعتذر من دير ياسين وما أدراك ما دير ياسين مذبحة في الوجدان يأخذني اليها الحنين....أعتذر من بشارة سرحان وما أدراك من بشارة سرحان وطن بجسد إنسان... أعتذر من الجنوب ومن نائحات الجنوب.. أعتذر من الجولان ومن طيب وحزن الجولان.... أعتذر من كل المظلومين والمسحوقين تحت نعال اسرائيل وأمريكا.... على امتداد الوطن العربي أعتذر منهم لأن الياسمين والفل لم يزرع لنصرتهم بل زرع على قبور الاحتلال ليحي موتى سايكس بيكو... ويعيدوا الأمه ألف عام للوراء وقد يسلموها باليد لانتداب جديد بقبضة من حديد......؟؟؟؟؟ أدعو الله أن يجنب سوريتي الحبيبة زحف غضوب ملؤه الشغب والدمار ومخترق حتى العظم..... الحر لا يسمح للعدو أن يمتطي مظلمته ليجتاح بها برعونة ضغائنه وجه بلده الحبيب ..... دمتم ودام الخير والسلام في بلدي... إن لم يكن من أجلنا فمن أجل أبنائنا ... وأحفادنا
تحيا سوريا..........المجد لسوريا.....النهضة تكون من الأنا وبالبناء والعمار...لا يمكن لثورة ولا لشارع أن ينهضوا ببلد.... مع حبي الكبير لك رغم معاندتي القطعية لطرحك هذا.".
لقد استوقفتني هذه الرسالة كثيرا وأعدت قراءتها مرات عديدة. فمنذ 14/1/2011، ورحيل الدكتاتور بن علي عن تونس، تسلمت آلاف الرسائل من أبناء سورية في الداخل والمنفى، كلها حول موضوع التغيير في سورية. ولا شك بأن نجاح الشعب التونسي في ثورة سلمية مدنية غير حزبية وبدون أصنام، قد حرك وجدان كل إنسان يصبو للحرية والكرامة في المنطقة بل والعالم. اكتشف الشياب أن الشباب أكثر نضجا وحكمة. وأن الدكتاتورية لم تنجح في استئصال الحلم والحق في الأمل. بعض المعارضين السوريين حمل بضاعته الطائفية البغيضة يظنها السلاح الأجدى للتعبير عن الغضب، والبعض الآخر بدأ يتحدث عن خلافة وإمارة وهمية رأينا بعضا من خرابها الداخلي والخارجي في أكثر من مكان، وآخر بدأ الحركات البهلوانية بحكومات سميت قبل التحركات. قفز مجرم ضد الإنسانية يتحدث في الثورة السورية، ولحقه أحد رموز الفساد والاستبداد ليعطي دروسا في الديمقراطية، وقد تسلمت أكثر من عشر فيديوهات لأشخاص يعلنون ثورتهم الفيسبوكية بشكل مرعب ومخيف لكل مواطن حريص على أن يكون التغيير في سورية للأمام لا للخلف. وقد خلق خطاب الانتقام والثأر والحقد في العديد من المواقع وعند عدد من المسعورين حالة خوف عامة. واتصل بي الأستاذ الكبير عصام العطار ليعبر لي عن قلقه العميق من خطاب غير مسؤول ينتشر بقدرة قادر، يحاول أن يختصر الحالة الجديدة بصور قاتمة وغير بناءة للمجتمع السوري. كذلك تواصل معي عدد كبير من الشباب من مختلف المدن السورية ليقولوا ليس هذا ما نطمح إليه ونأمل به لسورية. فطالبتهم بأن يكتبوا تصورهم الخاص وكيف يبصرون برنامج التغيير وعملية التغيير. فوصلتني رسائل في غاية النضج والوعي لتلك العلاقة الحميمية بين فكرة الوطن، بالمعنى السامي للكلمة، وفكرة المواطن، بالمفهوم الحقوقي والسياسي الحديث. فأبصرت ذاك البون الشاسع بين طموحات شباب سورية ولغة المتسكعين على أبواب السفارات وأغنياء السرقات. لهذا تحدثت بكل ثقة، عن أن نويات التغيير الشابة في سورية فرصة تاريخية للشعب السوري بكل مكوناته من أجل الخروج من حالة الإنسداد والاستعصاء المستنقعية الراهنة.
تحاول أنظمة الدكتاتورية العربية كافة، أن تصور التغيير الحاصل في بعض البلدان العربية اليوم، باعتباره بأحسن الأحوال غير ذي جدوى، وبأسوأ الأحوال فتنة لتمزيق العباد والبلاد وبث الشر والخراب. فمن الذي يعطينا في هذا الدروس؟ أليسوا من مارس الإستبداد وسرق المال العام أو تواطأ معهم وآزرهم بالقلم وعلى المنابر، إعلامية كانت أو دينية. لنستعرض مع هؤلاء مواصفات النظام العربي السائد منذ نصف قرن:
على خلاف طبيعة السلطات وتكوينها ووسيلة الاستمرار، سعودية كانت أم قذافية، مباركية أم بعثية، ملكية أم جملكية، كان هناك منظومة تسلطية عربية للحكم مشتركة في مواصفات رئيسية يمكن تلخيصها بالتالي: تأميم السلطة التنفيذية للفضائين العام والخاص والسلطات التشريعية والقضائية والرابعة، اعتبار المال العام مزرعة خاصة لبطانة الحاكم، رفض فكرة وحقوق المواطنة، ربط الدفاع عن حقوق الناس بالخارج والغرب والمؤامرة، التعامل الأمني في كل القضايا السياسية والمدنية، فرض سياسات اقتصادية واجتماعية من فوق يتخللها مكارم للحكام من وقت لآخر لا تغني عن فقر ولا تستجيب لحاجات التنمية، تجهيل المجتمع، اختزال مفهوم السيادة في طمئنة القوى الكبرى بأن مصالحها ومطاليبها في قمة أجندة قمة السلطة.
أمام هذه الصورة القاتمة، ومهما حدث واستشرست قوى النظام القديم كما يحدث في ليبيا اليوم، لن يكون المستقبل إلا أحسن مما كان. وبالتالي كل من يحدثنا عن مخاوف الفراغ والإنقطاع والفوضى إلخ.. يستحضر موضوعة العبد الخائف من حريته.
لا يوجد في ميراث الدكتاتورية العربية ما نبكي عليه. في حين تحمل ثورات الشباب في العالم العربي للبشرية صفحة عظيمة جديدة، فمقاومتها مدنية، ووسائل نضالها سلمية، وقد تحررت من الحزبية الضيقة والإيديولوجية المقيدة، وهي تؤكد على هويتها الحضارية المدنية وضرورة تأصيل الديمقراطية وتوظيف كل خيرات البلاد لأهلها وليس لعصابات السراق فيها. بحيث تتكون معالم المستقبل الجديد بشكل جماعي ومن كل الطاقات دون استثناء أو استقصاء أو تهميش أو تمييز.. لقد وضعت الثورة التونسية وبعدها المصرية حدا لحالة الربط العضوي في الذاكرة الإنسانية بين الثورات والقتل دفاعا عن النفس أو انتقاما ممن أذل وقتل، بحقنها دماء الجميع واعتبارها العدل معيارا للتعامل مع الماضي وليس الثأر. وحدها أجهزة النظام الدكتاتوري القديم كانت تمارس البلطجة والقتل وتوظف المرتزقة، والمثل الليبي أبلغ تعبير عن وحشية الحاكم وجاهزيته لكل الجرائم من أجل الاحتفاظ بالسلطة.
لقد رفضتُ بحزم، أي تدخل أجنبي في شؤون سورية. وبصقت في وجه كل من حمل مغرياته المادية أو المعنوية طامعا في أن يكون الاستعباد الخارجي ثمنا للخلاص من الاستبداد الداخلي. وجاء المثل التونسي والمصري فدفنا المثل العراقي حتى في بغداد حيث أيام الغضب تواجه الاحتلال والفساد الذي أوجده. وأثبتا للعالم أن دعم كل قوى العالم لطاغية لا تنجيه من قيامة شعبه. وتحول في شهر، مشروع آل مبارك لسرقة السلطة والثروة في مصر إلى رماد. دون أن يحمل الشباب بندقية أو سكينا، ودون اللجوء إلى أي شكل من أشكال العنف. جرى كشف صفقات الغاز للإسرائيلي على حساب قوت الإنسان المصري، وفضح سرقات تعادل المساعدة الأمريكية لمصر لخمسة وثلاثين عام قادمة. فهل كان ما يحدث هداما وضارا بالشعب المصري والعربي والقضية الفلسطينية أم وضع الأسس الصحيحة للمواجهة مع الكيان الإسرائيلي؟
لقد عبر شباب سورية في بيان "حركة 17 نيسان للتغيير الديمقراطي" الأخير عن واقع الحال في البلاد، وكون هذا الواقع لا يعطي ما يسمى بالشرعية الوطنية قوة الحضور في غياب الإنسان، صانع المقاومة وصانع التغيير وصانع المستقبل، عندما قالوا:
"هل الحريات في سورية أحسن حالا منها في ظل الطاغية بن علي والمستبد صالح؟
هل الفساد والمحسوبيات في سورية أقل منها في مصر؟
ألم تدخل العائلية الحكم عندنا قبل جمال مبارك وسيف القذافي؟
أليس الدستور عندنا معد لحزب واحد لا لوطن واحد ويجب تغييره؟
أليس هناك مظالم في حقوق الجماعات والأفراد قد تأصلت وخلقت شروخا تخيفنا جميعا لأننا نبصر حدود سورية ناقصة فلا نقبل أن تصبح أيضا مجزأة".
وصولا للقول:
لقد فتحت الثورة العربية كل آفاق الخروج من النفق الدكتاتوري العربي من بغداد إلى الرباط، وسورية لن تكون خارج السرب وهي في لغة الحاكم والمحكوم (قلب العروبة النابض). فقلب العروبة لا يكتفي بدعم ثوراتها، بل يحق له الثورة على كل أشكال الفساد المتأصل والقمع المستشري والتخلف الإداري والحكومي والسرطان الأمني الذي يرفض التعامل معنا كبشر.
كم من الشباب ممنوع من السفر وما هو ثمن جواز السفر في سوق الفساد؟ كم من الشباب ممنوع من العمل وما هي تسعيرة وعد بالعمل في مؤسسة حكومية؟ كم منا عاطل صارت الهجرة حلمه؟ كم منا صامت من أجل وصول لقمة العيش لأهله؟ هل هذا قدرنا..؟؟
في العالم العربي كله اليوم نداء واحد للحكام: إما أن تغيروا أو تتغيروا
ونحن كشباب سوري، لا نقبل بأن تكون صورتنا عن الوطن والإنسانية أقل من ثورة التغيير العربية، ونرفض استمرار فصول المأساة التي نعيشها. لن نقبل بعد اليوم باستباحة كرامتنا وحقنا بالتعبير والنضال والتغيير. لقد أطلقنا على أنفسنا اسم حركة شباب 17 نيسان للتغيير لأننا في وعينا أمانة الاستقلال وفي طموحنا استكمال هذا الاستقلال في الحرية والكرامة والحكومة المدنية والعدالة الاجتماعية والوحدة.
لقد ولدنا في ظل حالة الطوارئ ونرفض أن نموت تحت الأحكام الاستثنائية
ولدنا نبصر الجولان محتلا ونرفض أن نموت وأرضنا محتلة
ولدنا وفلسطين كلها محتلة ونرفض أن نموت والقدس تحت حراب الإسرائيليين
ولدنا في ظل حكم يتجدد باستفتاء تضحك علينا فيه الأمم ونريد انتخابات حرة
ولدنا في ظل حزب تحول إلى مؤسسة إدارة الفساد والقمع في البلاد ونرفض أن نموت في هذا الوضع".
لا يحق لأحد الشك في وطنية هؤلاء الشباب، ولا يحق لأحد أن يواجههم بالإعتقال والملاحقة. وقد عبروا عن واقع الحال الثوري اليوم بالقول: إما أن تغيروا أو تتغيروا. فالكرة ليست في ملعب أنصار التغيير الديمقراطي، بل في معسكر النظام القديم. الذي يستمر في حملات الاعتقال للمواطنين، ويقيد الحق في التعبير والتنظيم والتجمهر، ويجعل من جواز السفر ورقة ضغط على البشر، ويمنع المعارضة الوطنية من المنتديات والملتقيات حتى في البيوت.
لقد اختارت السلطات السورية معسكر مواجهة الاحتلال الأمريكي وتضامنت مع المقاومتين الفلسطينية واللبنانية. ووقفت أغلبية المجتمع السوري معها في هذا الخيار، وقد تمكنت من كسب عدة معارك إقليمية هامة تسمح بإعطاء هوامش جديدة للمجتمع الذي دفع الثمن الأغلى والتضحيات الأهم في المرحلة الماضية. وللأسف، وعوضا عن تحقيق إصلاحات سياسية ومدنية جوهرية وضرورية، لم تبادر السلطات السورية لأي انفراج ديمقراطي في البلاد، أو تخفيف في القيود والملاحقات بحق أصحاب الرأي المخالف. وإذا لم تبادر السلطات اليوم، لقرارات جريئة وهامة على صعيد فك الارتباط بالنهج التسلطي للحكم، ومنظومة الفساد السائدة، فهي المسؤولة المباشرة عن دخول سورية في مرحلة المجهول، وليس الشباب الرافض لأن يبقى خارج المكان والزمان والحياة والأمل.