الخيار الثوري المدني في سورية
هيثم مناع
الحوار المتمدن
-
العدد: 3593 - 2011 / 12 / 31 - 16:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وافقت السلطات السورية على خطة العمل العربية، وكذلك فعلت أهم أطراف المعارضة السورية. وهكذا -ولأول مرة منذ انطلاقة ثورة الكرامة- تتفق أهم أطراف الصراع السورية على خطة عمل واحدة.
ورغم أن السلطات السورية عودتنا على فصام مزمن بين القول والفعل، فقد كان من واجب كل حريص العودة إلى الخطاب السياسي بعد أن قضى الحل الأمني العسكري على المفاهيم الناظمة للعقلانية السياسية عند الثائر والفاجر. اعترفت السلطة السورية علنا بضرورة وضع حد للحل الأمني العسكري، وبذلك، أقرت علنا بأن عسكرتها للثورة ليست ضرورة بقدر ما هي خطيئة، ترتقي عند المدافعين عن الحقوق الإنسانية إلى الجريمة الجسيمة.
وأقرت في الوقت نفسه، بأنها عاجزة عن القيام بأي مفاوضات مع المجتمعيْن السياسي والأهلي داخل البلاد وبدون توسط أطراف مقبولة (الجامعة العربية في حالتنا هذه)، أي أنها اعتبرت الجامعة العربية طرفا في مناقشة قضايا سيادية تتعلق بمستقبل سوريا عبر إقرارها بفكرة المؤتمر السوري العام للمعارضة تحت مظلة الجامعة العربية، لتتفاوض الهيئة المنبثقة عنه مع السلطات السورية في سمات المرحلة الانتقالية للديمقراطية وسمات الجمهورية السورية الثانية.
لقد كنت أول المراهنين على الحل العربي لعدة أسباب، أولها، كوني في موقع يسمح لي بمعاينة سقف التدويل. وبدون أي تحفظات دبلوماسية في التعابير، سمحت لي إقامتي في فرنسا لأكثر من ثلاثة عقود بفهم عميق للدبلوماسية الفرنسية. وطالما تابعت تناقضات هذه الدبلوماسية في الملف السوري.
ولا أنسى جملة الفقيد جبران التويني: “شيراك يعتقد أن خروج سوريا من لبنان يعني سقوط الأسد في أقل من أسبوع، وسندفع نحن وأنتم ثمن هذا التصور المبسط حتى السذاجة”. ويمكنني أن أستعمل بحق وزير الخارجية الفرنسية آلان جوبيه التعبير نفسه. لقد تابعت المسار الليبي في الدبلوماسية الفرنسية، وكيف تم تناول الملف الليبي وكأنه انتصار فرنسي، ولعل هذه المتابعة أيضا سمحت لي بالتيقن من محدودية الرؤية الفرنسية، واستحالة إعادة الأنموذج الليبي في المثل السوري.
فبناء هياكل صلبة لمعارضة ديمقراطية مدنية قادرة على إسقاط النظام لا يتم فحسب عبر تعويم بعض الأشخاص مع ملحقات ديكورية مشهدية، كاستئجار طائرة خاصة لهم بين فينة وأخرى، أو وضعهم تحت حماية البوليس الفرنسي، مع مشاريع تقدم لمجلس الأمن من أجل تدخل إنساني يفتح الباب لتدخل عسكري، كذلك لم يعد بإمكان أي حكومة غربية أن تثق بخزعبلات أي شلبي عربي بعد التراجيديا العراقية.
لا يمكن التعويل على التأييد الأميركي، فمنذ حقبة بوش الابن كان الرئيس ونائبه على استعداد لاستقبال أي عابر سبيل يدعي قدرته على قلب النظام في دمشق. وقوانين محاسبة ومعاقبة سوريا صارت تنال الإنسان قبل أن تؤثر على السلطان، وقد أصاب هوس الفصل السابع بعض المعارضين السوريين بحيث صاروا يحلمون بطائرات الناتو تقصف في عمليات جراحية ذكية.
ويمكن القول إن البريطانيين يمتلكون حسا عمليا أقوى من باقي نظرائهم الغربيين، وأن المعادلة السورية تحتاج لجرأة في الطرح وصدق وأمانة في التناول، خاصة فيما يتعلق بأسطورة التدويل وصالونات التجميل المروجة له.
جرأة تحتاج لغزو نقاط ارتكاز الدبلوماسية للسلطة نفسها، أي شرقا لا غربا، وجنوبا لا شمالا. مع التأكيد على الاتزان في العلاقة مع الآخر للرد على سياسات المحاور والمحاور المضادة، التي حولت بعض أطراف المعارضة السورية لسلعة من سلع سوق عكاظ في الدبلوماسية الدولية.
لا شك في أن العلاقة مع الجارين التركي والإيراني ضرورية جدا لسوريا الجديدة، ولا شك في أن الدور التركي والإيراني على طرفيْ نقيض في المعطيات الحالية. ويأتي فتح ملف المذبحة الأرمنية من قبل ساركوزي (لأسباب انتخابية داخلية، وأسباب تتعلق بسد الطريق على صفقات اقتصادية تركية في ليبيا) ليضع الخارجية الفرنسية في موقف لا تحسد عليه مع انغلاق ممرها الأول للملف السوري، ويجعل من الصعب على وزارة دفاعه مد المسلحين المنشقين من الجيش السوري الموجودين على الأراضي التركية بأي مساعدات من أي نوع.
لذا لا يمكن للديمقراطيين السوريين التعويل كثيرا على تعاون فرنسي/تركي في ملفهم في الأشهر القادمة، هذا إذا قبلنا من حيث المبدأ بأي دور خاص لهما في القضية السورية، الأمر الذي يشكل موضوع خلاف كبير بين أطراف المعارضة، ويشكل عامل تمزق في معسكر الثورة قبل أن يهز معسكر السلطة.
من هنا ضرورة التذكير -دون كلل- بأن رهاننا على المقاربة العربية هو ابن دراسة حسية وبراغماتية، وليس فقط رغبتنا المبدئية في تطوير آليات وتعبيرات الفعل السياسي والقضائي والاقتصادي والثقافي العربي، كمهمة من مهمات الربيع العربي في عالم الكيانات الكبيرة.
ورغم كل محاولات التحجيم والتقزيم لعملية وصول 65 مراقبا ومراقبة إلى سوريا مساء 26/12/2011، فمن الضروري القول إن الجامعة العربية قد نجحت فيما فشل فيه مجلس حقوق الإنسان والمفوضية السامية لحقوق الإنسان والاتحاد الأوروبي والأمين العام للأمم المتحدة.
من الضروري التذكير بأن السلطة السورية هي أكثر التكوينات الحاكمة في الشرق الأوسط تعقيدا، وأن رهانات البقاء والسقوط، الاستمرارية والانقطاع، كذلك الهدم والبناء، مرتبطة بعدة عوامل داخلية وإقليمية ودولية.
وما زالت المعارضة السياسية -على أكثر من صعيد للأسف- دون مستوى تصورات إستراتيجية مؤثرة وفاعلة، ومن المؤسف الاعتراف بأن السلطة الأمنية تكتسب قوة البقاء ليس فقط من القتل اليومي للمواطنين، وإنما أيضا من الفراغ الناجم عن غياب قيادات كبيرة قادرة على استقطاب أغلبية حقيقية في المجتمع الواسع، وليس فقط أغلبية منظورة في بؤر الحراك الثوري أو في إعلام لم تعد الموضوعية هاجسه الأول.
من هنا إصرارنا على مبارزة تدنيس الوعي في صفوف الثورة والثوار، لتعزيز فرص تجاوز منظومتيْ الفساد والاستبداد في النضال والبرنامج، وابتكار عهد مؤسس للجمهورية الثانية يشكل نقطة اللقاء الضرورية بين الثوار في الميدان ومن يراقبهم من على مدرجات الخوف على الذات والخوف من التغيير، نقطة لقاء لا يمكن التهرب منها في معمعان حراك يتجنب مواقف مبدئية كبيرة، خوفا من خسارة وسيلة إعلام هنا أو فصيل متطرف هناك، أو ممول يخفف من أعباء النزيف الاقتصادي في حياة واحتياجات الثوار.
لقد أظهرت التصريحات المتناقضة والمشوشة وأحيانا المضحكة، التي رافقت وصول المراقبين العرب إلى سوريا، هزال ثقافة حقوق الإنسان عند السلطة وقطاعات هامة من المعارضة. ووصل الأمر أحيانا لتصنيفات مخيفة تتأرجح بين العمالة للسلطة السورية والرضوخ لإملاءات مجلس التعاون الخليجي. بحيث صار هؤلاء النشطاء -في أقل من يومين- جزءا من ديماغوجية الخطاب السياسي المرافق للملف السوري، والذي لا يبرره لا توحش ودجل السلطات الأمنية، ولا أمية وجهل بعض السياسيين وشهود العيان.
ومن اللافت للنظر أن تصير كلمات مثل قطع اللسان وقطع اليد والإعدام جزءا من كلامولوجيا الحاكم والمحكوم. وأن يطلب لبعثة مهمتها تقصي الأوضاع في المناطق الساخنة زيارة حمص أو درعا (كذا!).
وقد وصل الأمر بالبعض، وللحفاظ على حضور إعلامي، أن يصرح بالجملة وعكسها ومناقضة الذات بين الصباح والمساء. هناك خوف واضح من نقص تسعيرة الأسهم السياسية التي يقررها الإعلام وتنظيمات يعرف الجميع أنها افتراضية، وخوف من انقطاع التمويل، خوف من الغياب عن الشاشات، خوف من الرجم في ساحات التظاهر، خوف من لوحات مسرحية توضع من وراء ظهر المتظاهرين، خوف من انفجار البيت التنظيمي الداخلي..، كلمة واحدة لم تعد ترد في الخاطر أو القاموس: الخوف على مستقبل الثورة.
يتطلب نجاح الخيار الثوري ترجمة النضال الميداني في خطاب سياسي وبرنامج سياسي. وعوضا عن استعراضات القوة ومزايدات اللحظة الصحفية، لا بد من التوقف عن الإسهال الإعلامي الذي يحول خطاب الثوار إلى بروباغندا مضادة لا تختلف في قواعد لعبتها عن بروباغندا الدكتاتورية.
فنحن بأمس الحاجة للدفاع عن قيم أساسية أعطت الحراك الثوري قوته وشعبيته، مثل السلمية والمواجهة الجريئة مع الطائفية.
وقد أظهر انفجارا دمشق الإجراميان أن أي تفجير أو استعمال للعنف يصب حكما في خدمة الدكتاتورية، إن لم يكن عناصرها طرفا مباشرا فيه. ألم تسكت المعارضة السياسية عن ضرب مقر المخابرات الجوية في حرستا؟ ألم يتجنب الكثيرون إدانة عمليات عسكرية خلقت حالة تطبيع مع العنف؟ ألم يصبح التنسيق مع الجيش الحر أهم من التنسيق مع القوى الديمقراطية عند البعض؟ ألم يصمت ديمقراطيون وحقوقيون عن اختطاف أو قتل مواطنين أبرياء بدواعٍ طائفية؟
لاءات حماية الثورة تحتاج إلى تصورات واضحة لمستقبلها تشكل منارة لكل مواطن سوري لم يعد ينتمي للماضي الذي مات وينتظر المولود الذي لم يأت بعد. الأمر الذي يتطلب منا تثبيت مبادئ عامة للمرحلة الانتقالية (أي الفترة الواقعة بين قيام سلطة ائتلافية إثر سقوط النظام وقيام مؤسسات الدولة وفق دستور دائم يقره الشعب). ومن حسن الحظ أن أهم فصائل المعارضة الديمقراطية تتفق اليوم على التزام مؤسسات الدولة والسلطة السياسية بما يلي:
أ- الشعب مصدر السلطات وأساس الشرعية.
ب- استقلال سوريا وسيادتها ووحدتها، شعبا وأرضا.
ج- تأصيل فصل السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.
د- حماية أسس الديمقراطية المدنية (وبشكل أساسي حرية التعبير والتنظيم والتجمهر والتعددية السياسية والتداول على السلطة، واللا مركزية الإدارية).
هـ- التأكيد على أن الوجود القومي الكردي جزء أساسي وتاريخي من النسيج الوطني السوري.
و- المواطنون متساوون أمام القانون في الواجبات والحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. حرية الدين والاعتقاد مكفولة في الدستور، وتحترم الشعائر والطقوس الدينية والمذهبية، مع نزع القداسة عن العمل السياسي والمدني.
ز- نبذ العنف والتمييز القومي والطائفي والديني والجنسي، والوقوف ضد الإرهاب والاستئصال والفساد، وكذلك ضد الانتقام والثأر. وإلغاء القوانين والقرارات الاستثنائية الصادرة في ظل الدكتاتورية، ومباشرة العمل لمعالجة آثارها في إطار لجنة مصالحة وإنصاف وطنية.
ح- التمسك بالتراب الوطني وتحرير الأرض السورية، وإقامة علاقات أخوة وتعاون مع الدول العربية، وعلاقات متينة ومتكافئة مع الدول الإقليمية، وتعاون واحترام متبادل مع دول العالم، لتأخذ سوريا الديمقراطية موقعها الفاعل في المجتمع العربي والإقليمي والدولي، بما يخدم المصالح الوطنية العليا والأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
ط- الالتزام بدعم الشعب الفلسطيني وحقّه في إنشاء دولته الحرّة السيّدة المستقلّة وعاصمتها القدس، وكذلك دعم كلّ الشعوب العربية والمظلومة في تطلّعاتها التحررية ومناهضة الاستبداد.
ي- الالتزام بالمواثيق والاتفاقيات الدولية وميثاق الأمم المتحدة وميثاق الجامعة العربية والشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
ك- الاستفادة من كافة الكوادر والطاقات السورية، داخل وخارج البلاد، من أجل إنجاح المرحلة الانتقالية وبناء الديمقراطية في الجمهورية السورية الثانية.
إن تمسك الكتل الكبيرة للمعارضة السورية (هيئة التنسيق الوطنية، المجلس الوطني السوري، الشخصيات العامة الاعتبارية…) بهذه الثوابت يجعل من الممكن الانتقال إلى شكل أرقى للعمل المشترك بين أطراف المعارضة الوطنية السورية.
وكون المؤتمر السوري العام الذي تدعو إليه الجامعة العربية يشكل معينا مشتركا، فهو يسمح ببناء مرجعية سياسية جدية للمرحلة الانتقالية تعتمد ولادة هيئة مشتركة من لدن المؤتمر المقرر للمعارضة، هيئة تمثل المعارضة وتنطق باسمها. وتكون مسؤولة عن تشكيل هيكل يمثل مرجعية السلطة في المرحلة الانتقالية بالتشارك مع من لم تتلوث أيديهم بالدم أو الفساد من كوادر الدولة.
هذا التصور يحتاج أولا إلى التخلي عن الطفولية السياسية والشخصنة وربط مصير الشعب بشخص أو بحزب. وهو يتطلب أيضا الخروج من لغة التحريض من أجل التحريض، والتعبئة من أجل التعبئة، والاتهام الرخيص، والتخوين السهل، والتكفير الأعمى. لأن التعبئة غير المغطاة بثقافة سياسية متماسكة وتصورات عملية للتجاوز تطيل عمر دكتاتورية منهكة ومتعفنة عبر استعمال وسائلها بثياب أخرى.
لا شك في أن العام الجديد يحمل تحديات كبيرة وصعبة، ولكنه أيضا يحمل كل ما يمنحنا إياه الحق في الأمل..، الأمل في أن يسجل التاريخ المعاصر عام 2012 لحظة استثنائية في تاريخ الشعب السوري.