|
كتاب يهجو الطغاة ويعرض لصريخ الضحايا -مصاطب الآلهة- مجموعة -محمود جنداري القصصية1-
سلام إبراهيم
روائي
(Salam Ibrahim)
الحوار المتمدن-العدد: 1898 - 2007 / 4 / 27 - 11:22
المحور:
الادب والفن
فرضت ظروف الإرهاب والقمع، ثم الحرب على المبدع العراقي داخل الوطن ممن لم يلقِ ضميره جانباً، فتحاشى كتابة نصوص تبرر وتمجد الحرب وظروف القهر، على البحث عن بنية قصصية تستبطن ما يجري من أهوال مع المحافظة على سلامة وجوده، فلم يجد غير التاريخ مجالاً حيوياً يستطيع من خلاله القول والتعليق في نصوص بدت ظاهرا وكأنها لا تمت بصلة للحاضر مما أدى إلى ولادة بنية قصصية جديدة أغنت النص العراقي والعربي. وهنا أشير إلى نصوص أبرز كتاب جيل الستينات، محمد خضير في "رؤيا الخريف"، ومحمود جنداري في "مصاطب الآلهة" التي صدرت بعد موته في 14 تموز 1995 مباشرة بعد فترة قصيرة من إطلاق سراحه وكان قد أتهم بمشاركته بمؤامرة للإطاحة بالنظام.
رغم إعلان الكاتب في محاضرة ألقاها في اتحاد أدباء العراق ببغداد عام 1994 بأن نصوصه "تستبعد وتزيح كل ما يوحي بشيء مركزي، حدثاً، أو ثيمه تطغي على بقية الجوانب"(ص11). إلا أن مع القراءة المتأنية سوف تتضح لبنات النص وتيمته المركزية رغم تخفيه خلف أقنعة التاريخ وأسلوب سرده المختلف الذي يمزج بين السرد والوصف والتعليق الفلسفي في نسق جديد أفضى في المحصلة إلى إلقاء الضوء الكاشف، لا بل الشديد السطوع على طبيعة الطغاة القتلة المتناسلين منذ فجر السلالات وحتى اللحظة الراهنة وذلك في جميع نصوص الكتاب السبعة.
تأتي الحبكة والحدث في نصوص "جنداري" عن طريق تراكم السرد المفتوح ولكنه سردٌ يركز على حدث ومكان محدد وموضوع محدد أيضاً لذلك يؤدي بالمحصلة إلى الشيء المركزي الذي أنكره أو لم يعيه الكاتب في محاضرته التي أشرت إليها. ففي أول نصوص الكتاب "القلعة" يحدد عنوان النص طبيعة المكان الذي سيكون مدار السرد، ونتعرف فعلاً من خلال تراكم السرد التاريخي والمازج بين الأساطير القديمة والتاريخ السياسي للمكان منذُ أقدم الأزمنة مركزاً على ما جرى للمكان من أهوال، حروب، قتل، قمع، وتغير سلطات، منتقياً بعض الوقائع التاريخية بما يناسب تعميق ثيمة النص التي أشرت إليها وذلك بحفر مسار أخر لتلك الوقائع والأساطير كما يفعل في حانة الأسود السبعة وأقفاصها واختلاف الناس على عبادتها مثلاً، كما أنه يحشد عدداً كبيراً من أسماء كان لها دور في التاريخ، كالإسكندر، بطليموس، يافت، إبراهيم، ليجاورها مع أسماء معاصرة كالحمزاوي وغيره من الأسماء العراقية المستخدمة الآن. بعد أن يبني القلعة جوار الحانة، يبني لنا السرد المدينة التي نشأت حول تلك القلعة ومحنة نهرها الجاف " هذا هو نهر اربخا يظل جافاً طوال السنة، طوال القرون، ولكنه صنع لنفسه طريقا عميقا حفره حفراً بالماء مرة، وبالدم مرات عبر آلاف من العصور السحيقة. ابتداءً من السلالات الحجرية الأولى وحتى المسيح. عصر أثر عصر، قتال ودماء وأرواح تزهق، وجماجم وسبايا وزنا ودعارة وأنهار من دم"(ص23). كما أن البنية مشدودة بحبكتها الخفية من خلال الجملة الابتدائية التي تشير أن حانة الأسود السبعة أبوبها مغلقة منذ ربع قرن، في إشارة واضحة لزمن العراقي المتوقف من لحظة استلام الطاغية للسلطة عام 1968 حتى زمن كتابة النص ما بين عام 1987ـ 1995، بجملة الختام التي يعمق فيها دلالة النص من خلال نعت طوابق البناء الأخيرة بالورقية، والكل ينتظر منذ ربع قرن تلك الجمرة التي ستخترق طابق الورق الأخيرة، كي تعود دورة الزمن المتوقف.
في "عصر المدن" يسرد لنا الراوي ببنية نص مفتوح تاريخ الذبح والقتل الذي ترسخ مع نشوء المدن وتطور الدولة الإسلامية مستعرضاً في مدخل النص غفوة المدن القديمة لحين بزوغ الفجر الإسلامي متخذاً من شخصية "طويس" المغني حبكة تضفر السرد وتعمق تيمته "الطغاة المتناسلين والحروب ميزة الحضارات الجوهرية" فها هو " طويس" الشاب ينهض منذ السطور الأولى للنص ناقراً بدفه وموقظاً المدن " فاستخرج طويس من راحلته دفاً مصنوعا من جلد جدي، ونقر عليه برشاقة شيطانية بثلاثة من أصابعه، فنهضت مدن/ مدن من الرمل، ومدن من الماء، ومدن من الدم/ نهضت/ بعد يثرب، بعد البصرة،بعد الكوفة، بعد دمشق"(ص28). ومن هذه النقطة تبدأ رحلة النص مع تاريخ القهر والذبح العربي مستعرضاً طرق التنكيل بكل ثوار ذلك العصر من عبد الله بن الزبير، الحلاج، ومصوراً مشاهد قتل تلك الشخصيات المفصلية في تاريخ المعارضة الإسلامية، ثم يستعرض السرد مشاهد الحروب العشائرية، ثم حروب اليهود مع العرب حتى حرب العبور "تشرين" معلقاً على هذه المشاهد الغارقة بالدماء والألم. " طشت من نحاس، أو طبق من مرمر تقدّم فيه رؤوس الصديقين والأنبياء، عن مقاصل الخشب المرنحة أبداً من يوم عيسى حتى يوم القيامة"(38). ليحّكم حبكة النص بشخصية طويس المغنى الذي تحول في أخر عمره إلى قاتل أيضاً يحمل فأسه الملوثة بالدم اليابس إلى جوار دف الغناء(ص41).
في "العصور الأخيرة" بنية النص حميمة تقيم علاقتها مع القارئ من خلال خطاب بضمير المتكلم موجه إلى التاريخ، إلى ذات كلية القدرة، وتستعير من بنية الأدعية الدينية في المعابد، والمساجد، ومن بنية القصيدة العامية العراقية الحديثة التي دأبت على مخاطبة غائب مجهول لتبصره بما يجري في زمنها من أهوال وآلام وتعاتبه على ذلك الغياب ولا مبالاته كما في قصائد "علي الشباني" و "عزيز سماوي" المتحولة في بعض مفاصلها إلى صراخ يائس كما هو حال نصوص جنداري في هذا الكتاب، نماذج من الخطاب المستنجد:
" أنتشر الدم فأنقذني يا مولاي/ أنقذني" (ص60). "فك عني هاجس الخيانة/ والتزييف/ انتشلني من الخوف الشديد والهول العظيم ولا تمتحني ولا تبتليني"(ص64).
وهذه عينات من خطاب العتاب الذي تكتظ به الأدعية الشيعية:
"شهدنا معاً، أنت تعلم وأنا أرى/ أنت تعلم ولا ترى وأنا أرى ولا أعلم/ شهدنا، كيف تسلخ جلودهم.. الضعفاء/ وأنت لا يطرف لك جفن/ كيف ينقلون من النوبة والحبشة والكونغو/ وأنا لا ترف لي رئة/ هل تعودنا على الصمت؟/ لم نتعاهد على الصمت/ لكننا لم نجد غيره"(ص51).
ثم يعود في مواضع أخرى من السرد إلى التضرع وطلب العون. والحبكة في هذا النمط من النصوص هي شبكة العلاقات التي تشد النص من خلال الخطاب الطويل للسارد بضمير المتكلم الذي يستعرض أيضا ما وجده في التاريخ وما يجري الآن من قتل وتعذيب وسحق وعبودية ومسخ، وخراب روحي تحت سلطة الطغاة التي يغمض عنها ذاك المجهول الكلي القدرة رغم علمه، وهذه تيمة جوهرية تتكرر في نصوص الكتاب. وهذه الشبكة الخفية من العلاقات هي من أسرار ارتقاءه إلى مصاف الفن وتفرد أسلوبه السردي الذي عرضت لبعض من تقنياته. سأحلل تلك الحبكة الخفية وعلاقاتها في محاولة لإلقاء الضوء على أسلوب "محمود جنداري". كل جملة في النص السردي ترتبط عضوياً بتيمة النص المنشغل في فضح الطاغية، وهذا يفترض كون السارد لدية رؤية وموقف مغاير ومناقض لما يجري من فضائع ومذابح يسحق فيها البشر الأبرياء، أي بمعنى أخر النص لا يستقيم بنية "ولا سيما أنه يفتقد إلا الحدث المتطور في بنية النص التقليدي" إلا بالكشف عن رؤية السارد المغايرة التي جعلته يرى ما يرى فيوجه خطابه الملتهب إلى الذات كلية القدرة لكنها العاجزة أيضاً من خلال عدم تدخلها في كل الفضائع التي يعددها المخاطب على مد التاريخ. مكونات الحبكة الخفية التي أشرت إليها تتوزع في بنية النص بتقنية ماهرة ومحسوبة بدقة، لكنها لتدفق السرد بلغته الطيعة العميقة تبدو وكأنها شديدة العفوية، وقراءة سطحية للنص سوف تصل أن النص مجرد هذيان لغوي غير مترابط. في مدخل النص يقدم السارد للمخاطب المجهول كشفاً بعلاقتهما التاريخية الحميمة، ثم يبدأ العتاب بشكوى السارد من زمنه الصعب " جعلتني أبصر الناس، صامتين ينوسون كما ينوس النمل/ جعلتني أجيد السير بين كائنات بشرية/ حشود هلامية تنبع من الأرض، من الشوارع والأزقة والمساحات/ عارية من الداخل، عارية من الخارج/ أروحها ملجومة بالحنين إلى الشمس، وأجسادها مكشوطة بالسياط، ومجعدة بالخوف/ لا خارج لها ولا داخل/ لا فرق لديها بين الحياة والموت/ فعلّمني أنني بين كائنات بشرية! كيف؟. طبعاً. فلولا تلك الوجوه الشبيهة بالبشر، لحسبتهم مجرد أفراد مثلما الأرضة والنمل أفراد"(ص48
#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)
Salam_Ibrahim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن معاناة اللاجئين في الشمال الاسكندنافي التأليف بين طبقات
...
-
المنفي كائن مشطور بين ثقافتين العنكبوت- مجموعة -علي عبد العا
...
-
الكتابة والتجربة الكاتب النص الحياة1
-
عراقيون أجناب رواية فيصل عبد الحسن علامات نضوج رواية القرية
...
-
عراقيون أجناب رواية فيصل عبد الحسن علامات نضوج رواية القرية
...
-
المتاهة قصة قصيرة
-
رؤيا المدينة
-
التتر- قصيدة ذات بنية ملحمية متموجة تفضح زمن الطاغية ومن تعا
...
-
التتر- قصيدة ذات بنية ملحمية متموجة تفضح زمن الطاغية ومن تعا
...
-
التتر- قصيدة ذات بنية ملحمية متموجة تفضح زمن الطاغية ومن تعا
...
-
التتر- قصيدة ذات بنية ملحمية متموجة تفضح زمن الطاغية ومن تعا
...
-
السفارة العراقية ومجلس الجالية في الدنمارك: ظروف مريبة في أن
...
-
فلم جلجامش 21 للمخرج العراقي طارق هاشم حكاية العراقي التائ
...
-
رؤيا اليقين
-
بائع خردوات في سوق هرج ومنفي عاجز في غرفة بأسكندنافيا
-
الكاتب النص الحياة الكتابة ليست نزهةً ولا لعبا بالكلمات2
-
الكاتب النص الحياة الكتابة ليست نزهةً ولا لعباً بالكلمات 3
-
الكاتب النص الحياة الكتابة ليست نزهةً ولا لعباً بالكلمات 4
-
الكاتب النص الحياة الكتابة ليست نزهة ولا لعبا بالكلمات 5
-
الكاتب النص الحياة الكتابة ليست نزهة ولا لعبا بالكلمات-1
المزيد.....
-
أسلوب الحكيم.. دراسة في بلاغة القدماء والمحدثين
-
الممثل السعودي إبراهيم الحجاج بمسلسل -يوميات رجل عانس- في رم
...
-
التشدد في ليبيا.. قمع موسيقى الراب والمهرجانات والرقص!
-
التلاعب بالرأي العام - مسرحية ترامبية كلاسيكية
-
بيت المدى يؤبن شيخ المخرجين السينمائيين العراقيين محمد شكري
...
-
مصر.. الحكم بحبس مخرج شهير شهرين
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي بتهم -الاعتداء والسب-
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي شهرين لهذا السبب
-
الكويت توزع جوائز الدولة وتحتفي باختيارها عاصمة للثقافة العر
...
-
حتى المواطنون يفشلون فيها.. اختبارات اللغة الفرنسية تهدد 60
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|