|
خفافيش .. خفافيش
ناظم مزهر
الحوار المتمدن-العدد: 1846 - 2007 / 3 / 6 - 09:21
المحور:
كتابات ساخرة
على غيرِ عادتِها ،راحت خَفافيش اللّيل ، هذه الأيَّام ، تَظْهر مُنْذُ التباشير الأولى للصباح وليس وقت الغروب و تُكثر مِن تواجدها في وضح النهار ، تملأ شوارعنا والجدران ، تتدلى أَينما يَحلو لها ، تلتصق بصوف بطانياتنا وملابسنا كمضغة لِبَّان ، وتزحف كالنمل في كُلِّ مكان . اعتقدنا في بداية الأمر ، حين لاحظنا قِلّة عددها عِنْدَ الغروب ، أنَّها إسوةً بأسْلافِها مِن الديناصورات المجنحة ، قد تركت مهنة الطيران وفي طريقها إلى الزحف ثم الانقراض والنسيان ، لكن يبدو أنها قد تعرضت إلى طفرة وراثية داروينية وراق لها العيش في أراضينا في وضح نهاراتنا بَعْدَ أن كَيَّفت سِيقانها المِعوجَّة واستطالت كأعناق الزرافات وحَلَقَت شَعر رؤوسها ، وراحت تضع على أعينها الجامدة نظَّارات سود وعدسات لاصقة بالألوان ، حتى تطبعت شبكيات أعينها على ضياء نكبتنا وراحت تسرقنا في وضح النهار وهي تسير بكل أمان ، لا أحد يطاردها ولا يجرأ أحد على أن يتظاهر ضدَّها أو يشير إليها بالبنان ،مكشوفة الوجوه قد خلعت قناعها الليلي ، لا خوف ولا وجَل من رؤيتها وهي تحلِّق فوقنا بَعْدَ أن كانت تستتر في زوايا بيوتِنا القديمة وتلتفع حجابات السعالي و جلود الشيطان . فجأة لَمْ تعد تخاف و تهرب من بصيص ضوءٍ عابر أو من صفّارة حارس ليليّ بَعْدَ أن كانت تهرب من نحنحة عجوز أو بكاء طفل و مواء قطة تقفز فوق برميل نفطنا الفارغ أو صرير باب مكسورة عِند الجيران ، هكذا فجأة لَمْ تعد تخاف و أصبح لديها من الشجاعة والوقاحة ما يكفي لاقترابها مِنّا والسير معنا و مصاهرتنا بصفتنا أولاد عمومة و من نسل لبائني واحد فلا مانع لدينا ولديها من مشاركتنا الحياة اليومية تحضر نهار مآتمنا وأفراحنا ، تبكي وتضحك معنا بجميع الحواس و تكاثرت بمرور الأيام و راحت تزاحمنا في البيوت والشوارع والسيارات .... كان لديها في قديم الزمان شيءٌ من إحساس التمسك بسِرِّ المهنة و أعرافها ... تأنف من الخروج على تقاليد المهنة فلا تسرق مِنّا أشياء لا تخطر على بال فلا تعرف كيف تخطف فلاناً ،مكاناً أو زمان ، وتلبد علينا أفكارنا بزعيق أغانيها ليل نهار بَعْدَ أن أصبح صمتها الليلي وهدوءها في خبر كان. لَمْ تكن الخفافيش تعمل نهاراً ولا تهاجم أحداً إلا دفاعاً عن النفس و تمارس حرفتها على قدر من السِرِّية لإشباع بطونها وبطون فراخِها العراة ، ولَمْ تكن تُفكِّر بإدّخار أو جَني الأرباح بالعُملة الصّعبة وليس لديّها هواية تغيير الزوجات والموبايلات بَلْ كانت تَتَّبع سياسة وحدويَّة لا تَخرجُ عن نظامها الداخلي، ما تجنيه اليد تمضغه الأسنان . كانت خفافيش الليّل تصطاد ما خفَّ وزنه أثناء الطيران ، لكن خفافيش النهار لا تشبعهم كنوز سُليمان وتعلَّمت الطيران بحمولة أطنان ، فقد عاد ذات يوم موظف وزوجته وأولداهما من الدوام الرسمي ليجدوا أن بيتهم قد فرغ تماماً وطارت جميع الأثاث ولم يبق منه غير بقايا فَضَلات سُود و جدران . و اكتشف صاحب محل لبيع المولّدات في منتصف النهار اختفاء إحدى مولداته الكبيرة بَعْدَ صلاة الظهر مما اضطره إلى وضع الكلبجات في أيدي بقية المولدات كيلا يُغريها خَفّاشٌ سائِب بالطيران . تَراهم في سيارات فارهة ، متأنقون بأحدث البدلات ويشيِّدون أرقى الدُور ولا خَطر عليهم بل مقدَّرون يسيرون على طولِ قاماتهم ولا يلتصقون بزوايا الجدران. خفافيش الليل أيام زمان لديها مهنة واحدة لا تمارس غيرها ، أعرف خفاشاً كان يعمل في دائرة العِقارات إذا لَمْ تُسلِّم عليه بحرارة شوق الأخ للأخ و تُقَبّلَه وتتملق له وتسعده وتدخل الفرحة في بطنه و جيبه ، حتّى لو إضطررت إلى شدِّ وسطك بيشماغك الأحمر أو قميصك ورقصت له رقصة البرتقالة ، إنْ لَمْ تفعل ذلك فأقرأ على ملفِّ معاملتك الَّذي سيحترق و أقرأ أيضا على نفسِك السلام . وأعرف خفَّاشاً يعمل صندوق أمين البصرة ،ويحرر صكوك الحساب الجاري بين لجنة النزاهة ولجنة – لجنة – لجنة – النزاهة حتى أصبح يحمل لقب اللجّان . إن كانت خفافيش الليل لا تقرأ ولا تكتب فإن خفافيش النهار من حَملة الشهادات الدنيا والعليا . أعرف خَفَّاشاً تَمَّ تعيينه مُعلّما للقراءة ، قرأ لطلابه إنشاء كيف قضيت العطلة ، نَصبَ فيه الفاعل بالفتحة المُغتَصبة ورفع المفعول به بالضَّمة مقطوعة الرأس التي منع من ظهورها التعذّر و فايروس (شَلِّه وأُعْبُر ) . وإذا كانت خفافيش الليل مجتمع ذِكوري فقد سارعت أجنحة الخفّاشات الرقيقة بدعم من منظمة حقوق المرأة إلى أن تعمل في النهار ، جَنباً إلى جنب مع أجنحة أخيها الخَفّاش في منظمات خَفْشِ حقوق البلد والإنسان . أعرفُ خَفّاشة تعمل طبيبة نساء ،وهذا مَالَمْ يَقلْهُ لي أحد بَلْ حَدثَ أمامي عِندما دَخلَتْ مريضة قرويّة تنزف مِن رحّمها وتكاد أن تموت ثَُمَّ خرجت بَعْدَ لحظات وهي تنْزف أيضا وقالت لزوجها :رفَضَتْ الطبيبة إجراء العملية لأن فلوسي لا تكفي وتريدُ مني حَلقة مَهري ، فوافق الرجل في الحال طبعاً، كيلا تموت زوجته قبل فوات الأوان. كيف تكتشف خفاشاً وتَفْضَحَه في النهار ؟ هذا كُرّاس لمنشور سرّي مُفيد وُزِّعَ سِرّاً من قِبل أحد الأحزاب، فعلى مَن يجد في نفسه الشجاعة والإقدام فليقرأه ثم يقرأهُ مثنىً وثلاث وأنا غير مسئول عمَّا يجري له لاحقاً فيما لو وَقفَ في سوق التجار أو عند أبواب العيادات والمصارف والصيدليات و المستشفيات ودوائر الضريبة والعقارات ، و ليصيح وهو يدفع بعربته " خفافيش ! خفافيش ! خفافيش ! " أغلبُ الظنِّ سيرقص من حوله الصغار وسيغضب منه الكبار ويُتَّهَم بإدّعاء النبوّة ويُقبَضُ عليه متلبساً بتهمة السحر والشعوذة وبيع اللحم الحرام ، سَتُقفَل في يديّه الكلبْجات ويُساق بتهمة العَمالة للغربان . . اربطوا الأحزمة الخفافيش قادمة ! أصبحت الخفافيش موضة هذا العصر فهذا الفريق الغنائي Four Bats المغمور إشتهر فجأة وراح شبابنا يقلده في تسريحة شعورهم الدبقة وبناطيلهم اللاصقة ، لا يعرفون مِن الثقافة غير أغنيتهم المشهورة " أنا خفّاش وأبويَ خفّاش ، جِدي وجِد جدي خفّاش" على ألبوم بذات العنوان بِِيعَ منه ملايين النسخ لحدِّ الآنْ . إمبراطورية الخفافيش هذي ، ليست ضَرباً من الخيال ، لا أسطورة فيها و لا زور أو بهتان ، بل حقيقة موجودة تؤكدها مجلة "خفافيش " مجلة مستقلة تعني بعلوم الجيل الواعد اقتنوها رجاءً يرحمكم الله و باركوا صورة فتاة الغلاف بثوبها البرلون الأسود الذي يلتصق شفافاً على مفرق جسدها كأجنحة الخفافيش . وإن لَمْ تصدقوا شاهدوا قمر ( الهوت بيرد ) فإنّه لِمَنْ يعرف شيئاً مِن الإنكليزية لا يعني حَمامةً بيضاء أو عصفور دَوّري من الأنس بل خفّاشاً من الجَان . إحذروا الخفافيش .. هذا ما أعلنته منظمة اليونسكو مؤخراً في مذَكَّرتها حول مخاطر الخفافيش على بنايات الإهرامات وأبي الهول وجدارية فائق حسن ونَصب التحرير بَعْدَ الذي جرى للمتحف العراقي وليس أمامنا إلا الدُعاء ثم الدعاء من أجل أن يكون نهارنا خالياً من الخفافيش كبقية النهارات في دُنيا الله الواسعة .
#ناظم_مزهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شباط الأسود
-
دور المثقف الآن
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|