حسام الدين فياض
أكاديمي وباحث
(Hossam Aldin Fayad)
الحوار المتمدن-العدد: 8407 - 2025 / 7 / 18 - 21:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
”ويُعد الترحيب بالأفكار من دون التسليم بها إحدى أهم العلامات التي تميز العقل المثقف“ أرسطو.
”وحتما، يمكن أن يكون العقل أي شيء… فطريقة تفكيرك هي التي تحدد شخصيتك“ بوذا.
– مقدمة لا بد منها:
يعتبر العقل الإنساني أحد أعقد أدوات الإدراك والتحليل التي تمكنت البشرية من صقلها عبر التاريخ، ليس فقط بوصفه آلة للمعرفة، بل وأداة لإنتاج المعنى، وتوجيه الفعل، وإعادة تشكيل الواقع. وتتنوع ممارسات هذا العقل بحسب السياقات الثقافية والفلسفية والاجتماعية التي يُستثمر فيها، وهو ما يدفعنا إلى التمييز بين نماذج متعددة من العقل، أبرزها: العقل الأداتي الذي يركز على النجاعة والوظيفية، والعقل النقدي الذي يسعى إلى تفكيك البنى وتعرية الأنساق المهيمنة، والعقل التواصلي الذي يرتكز على الفعل التواصلي بوصفه أساسا للتفاهم والاعتراف المتبادل.
لقد أدى تصاعد هيمنة العقل الأداتي، في الحداثة الغربية إلى إنتاج أنماط من التفكير، تخضع للفعالية التقنية والمنفعة المادية، ما جعل الإنسان وسيلة لا غاية، وفقا لتحليلات مدرسة فرانكفورت. في المقابل، برز العقل النقدي رد فعل على هذا الاختزال، محاولا استعادة البُعد التحرري للعقل عبر مساءلة الأنظمة الرمزية والسلطوية. أما العقل التواصلي، كما شرحه لنا هابرماس، فإنه يمثل أفقا ثالثا يتجاوز الاستعمال الأداتي والنقدي للعقل، قائما على الحوار والتفاهم بوصفهما جوهر الفعل العقلاني.
إن تحليل هذه النماذج لا يقتصر على مجرد التصنيف النظري، بل هو مدخل لفهم ديناميات السلطة، وتحولات الوعي، وأشكال التفاعل الإنساني في المجتمعات المعاصرة. وهذا ما تسعى إليه هذه الرؤية التحليلية – النقدية، عبر تفكيك الأسس الفلسفية لكل نمط، وبيان حدود كل منها، والكشف عن إمكانات التلاقي أو التوتر بينها، في ضوء التحديات المعرفية المعاصرة.
– ممارسات العقل الإنساني ما بين العقل الأداتي والنقدي والتواصلي:
ما تزال الرغبة في السيطرة على أفكار الآخرين وسلوكياتهم وأفعالهم أكثر المطالب إلحاحا منذ بزوغ فجر الإنسانية. بيد أن قلة نادرة من الناس فقط تدرك أن تقنيات السيطرة على العقل وجدت مع فجر الحضارة نفسها. وبقدر إدراكنا لما وهبنا إياه الله تعالى، من عقول متنوعة وطرائق تفكير مختلفة. ندرك في الوقت نفسه تلك الشهوة العارمة للسيطرة على عقول الآخرين وطرائق تفكيرهم، بغض النظر عن الدافع أو الفائدة المبتغاة، ربما يكون السبب نابعا من رغبتنا في فهم الطريقة التي يفكّر فيها الآخرون، وما إذا كانت تتفق مع طريقتنا أو تختلف عنها([1]).
لكن بالمقابل، يعتبر العقل ميزة الإنسان وقيمته العليا، لا بل هو والإنسان صنوان لا يفترقان وبدونه يفقد الإنسان إنسانيته. وبفضل العقل وقواه استطاع الإنسان أن يصول ويجول ويكشف الحقائق ويُخضع الأشياء لسلطانه وأن يذلل الصعاب ويبدد الظلمات وينشر النور ويتصور الأشياء ويتأمل في الوجود ويسبح في الخيال والفرضيات واللامعقول.
وعن أهمية العقل في التطور البشري يمكننا القول إن العقل هو قوة أساسية تمكّن الإنسان من التطور والنمو الشخصي. بفضل العقل، يستطيع الإنسان أن يفكر ويتعلم ويتطور، ويستخدم التفكير العقلي لتحقيق أهدافه واتخاذ القرارات الصحيحة. يساعد العقل الباطن في تطوير الذات وتحقيق النجاح في الحياة([2]).
عندما يستخدم الإنسان عقله بشكل فعّال، يتمكن من استكشاف إمكاناته وتطوير مهاراته العقلية والإبداعية. يسمح له العقل بالتفكير بشكل منطقي وتحليلي، وبالتالي يزيد من فهمه للمشكلات ويتمكن من العثور على حلول إبداعية. يعمل العقل الباطن في خلفية الوعي اليومي للإنسان، وهو المسئول عن تطوير العادات والمعتقدات وتشكيل الشخصية. لذا، يُعتبر استخدام العقل الباطن في تطوير الذات وتحقيق الأهداف أمرا ضروريا. من خلال تنمية العقل وتعزيز التفكير المنطقي، يمكن للإنسان أن يحسن من أدائه في جميع جوانب الحياة. فالتفكير العقلي يساعد على اتخاذ القرارات الصائبة ومواجهة التحديات بثقة. كما يساعد في تحليل المعلومات والبيانات بشكل فعّال، وبالتالي يمكن للإنسان اتخاذ قرارات مدروسة والوصول إلى نتائج إيجابية([3]). ولكن قبل الخوض في تحليل ونقد ممارسات العقل الإنساني سنحاول توضيح وتعريف مفهوم العقل في محاولة لفهم جوهر هذا المفهوم لغويا، وفلسفيا، واصطلاحيا.
– مفهوم العقل: لغويا العَقْلُ (اسم)، الجمع عُقُولٌ. مصدر عَقَلَ. عَقَلَ: (فعل). عَقَلَ عن يَعقِل، عَقْلاً عُقُول، فهو عاقل، والمفعول معقول – للمتعدِّي. عَقَلَ الوَلَدُ: أَدْرَكَ حَقَائِقَ الأَشْيَاءِ. وأصل معنى العقل المنع والإمساك والحبس، وسمي العقل عقلا؛ لأنه يعقل صاحبه، أي يحبسه عن التورط في المهالك، أو لأنه يعقل حقائق الأشياء([4]). ومن المعاني الواردة، قولهم: عقل عقلا: أي أدرك الأشياء على حقيقتها، والغلام أدرك وميّز، ويقال: ما فعلت هـذا منذ عقلت. والعاقل هـو الشخص المدرك. ومن المعاني، أن العقل هـو ما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها. ومنه قولهم: الإنسان حيوان عاقل. ومنها ما يكون به التفكير والاستدلال، وتركيب التصورات والتصديقات. كما أن من المعاني الواردة حول موضوع العقل: إنه ما يتميز به الحسن من القبيح، والخير من الشر، والحق من الباطل.
أما معجم وبستر Webster فقد أورد معان عدة لكلمة عقل، تحت الكلمة الإنجليزية، Mind ومن هـذه المعاني: الذاكرة، التذكر أو الاسترجاع. وقد تعني ما يفكر به الشخص، أو رأيه في موضوع من المواضيع. ومن المعاني الواردة: أنه يعني الإدراك، الشعور، الانتباه، الذكاء، الملاحظة. وقد قصرت بعض التعريفات في هـذا القاموس العقل: على ما يمكن التفكير به، أو إدراكه، ما يمكن تصنيفه على أنه جزء من الشعور، إلا أن تعريفا آخر، يضيف الخبرة اللا شعورية، بوصفها عملا من أعمال العقل. والتعريف الشامل الذي ورد في قاموس وبستر هـو طريقة، وحالة، واتجاه للتفكير والشعور، الذي يكون عليه الفرد، وقد وردت معاني مثل: الانتباه، الطاعة، الاهتمام، الملاحظة، الاعتراض، الكره، بوصفها معانٍ معبرةً عن العقل.
ومفهوم العقل في التربية وعلم النفس يتشعب فيها، بين الذكاء، والفهم، والقدرة العامة، والقدرات المتخصصة، بالإضافة إلى القدرات الشعورية واللاشعورية، حيث أورد فاخر عاقل، تعريفا للعقل: على أنه مجموع السلوك الذكي، بما في ذلك التذكر، والتفكير، والإدراك. وكثيرا ما يستعمل مرادفا للخبرة الشعورية([5]). فالعقل بناءً على ما سبق هو: مجموعة من القوى الإدراكية التي تتضمن الوعي، المعرفة، التفكير، الحكم، اللغة والذاكرة. هو غالبا ما يعرف بملكة الشخص الفكرية والإدراكية. يملك العقل القدرة على التخيل، التمييز، والتقدير، وهو مسئول عن معالجة المشاعر والانفعالات، مؤديا إلى مواقف وأفعال.
أما العقل فلسفيا.. يرى أرسطو أن العقل عبارة عن جوهر قائم بالإنسان، يفارق به الحيوان ويستعد به لقبول المعرفة. أقام أرسطو فلسفته كلها على الماهيات العقلية التي عرفت من خلال نظريته في الصورة. فالعقل في الفلسفة اليونانية هو مقياس لذاته، وهو سند يقينه فلا حاجة للتدليل على صدق قضاياه إلى أدلة خارجية عن دائرة ذاته، وهو وحده كاف لتحصيل العلوم والمعارف في شتى أشكالها وضروبها([6]).
إن الشعور دائما ما يحثنا على عدم قبول نتائج منطقية يؤيدها العقل. وليس من الحكمة التنكر لشعورنا لمجرد أن العقل يرفضه. ويذهب كانط إلى أن العقل أداة فكرية تحول الإدراك الحسي إلى أفكار، وتمنح التجربة وحدة الفكر. وبين التجربة والعقل تتم المعرفة، فالتأملات العقلية النظرية ليس لها قيمة ما لم تدعمها التجربة([7]). ففي كتابه نقد العقل المحض 1781، ناقش كانط شروط قيام العلم، ممثلا بالرياضيات، والتي تعتمد على الإمكان القبلي ثم الإمكان التركيبي فيما بعد، لإنتاج معرفة علمية يقينية ضرورية، والتي يُنتج المحمول فيها شيئا جديدا لم يكن متضمنا في الموضوع. وقد أخذ كانط على كل الفلسفات السابقة، سواء أكانت عقلية أم تجريبية، أنها أغفلت النظر في العقل ذاته، من حيث هو ينبوع كل معرفة، وبدلاً من ذلك، نظرت في المعارف كلها بواسطة العقل، بوصفه، أي العقل، معصوما لا مجال للتشكيك في إمكاناته المكتملة. وهذا ما دفعه (كانط) إلى النظر في العقل من حيث إمكاناته وطاقاته، بغية الوصول إلى ما قد يستطيع بلوغه، وما لا يستطيع، ومن ثم الوصول إلى القواعد والمبادئ التي تضبط المعرفة من جهة، والأخلاق من جهة أخرى([8]).
ويعرف العقل اصطلاحا بـأنه كل الأفكار والمفاهيم والمعلومات والعادات الفكرية التي توجه السلوك الفردي والاجتماعي وتقومه. إذ إن العقل ينشأ بالمعرفة ويتحكم بالأمور عن طريق التحليل والتعليل والبرهان، فالعقل يقوم على البرهان، والبرهان عادة نابع من رد النتيجة إلى المقدمة التي تولدت عنها. باختصار شديد العقل يقوم على النقد والموضوعية([9]). بناءً على ما سبق سنحاول استعراض مفهوم العقل كممارسة تطبيقية في الواقع العملي والاجتماعي من خلال المفاهيم التالية:
أولاً- العقل الأداتي Instrumental Reason : يقصد بالعقل الأداتي نوعا من التفكير السائد في المجتمع الصناعي الحديث وهو ما وصفه هربرت ماركيوز بالتفكير ذو البعد الواحد، ويتضح ذلك في أسلوب التفكير العلمي والتقني، كما تعبر عنه الفلسفة الوضعية بأشكالها المعاصرة والفلسفة البراغماتية.
يتضمن مصطلح (الأداتية) مضمونين: فهو أسلوب لرؤية العالم، وأسلوب لرؤية المعرفة النظرية. بحيث إن رؤية العالم بوصفه أداة تعني اعتبار عناصره أدوات نستطيع بواسطتها تحقيق غاياتنا، والمثال على ذلك، أنا لا أنظر إلى الشجرة لما يجلب جمالها لي من رضى، بل أراها خشبا يمكن أن يحول إلى ورق يطبع عليه كتابي الذي أألفه.. وبإمكاننا أيضا النظر إلى المعرفة باعتبارها أداة ووسيلة لتحقيق غاية. وربما تكون هذه الفكرة أصعب كثيرا لأنها تتخلل ثقافتنا لدرجة أن إي وجهة نظر أخرى لا ترى في المعرفة أداة يصعب تصورها([10]). ... يتبع
------------------------------------------
- الهوامش:
[1] – ماري د. جونز، ماري فلاكسمان: حروب العقل، ترجمة: نور الدائم باكر أحمد، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 2017، ص (9).
[2] -هيئة التحرير: العقل والعقلانية: مفاتيح النمو والرقي في الحياة، موقع تطوير الذات والمهارات الاحترافية، تاريخ الدخول إلى الموقع 06/04/2024. https://n9.cl/7yzmgq
[3]– المرجع السابق نفسه.
[4] – ابن المنظور: لسان العرب، تحقيق: مجموعة من الأساتذة العاملين بدار المعارف، دار المعارف، القاهرة، بدون تاريخ، ص (3046).
[5] – عبد الرحمن الطريوي: العقل العربي وإعادة التشكيل، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط1، 1413ه، ص (33-34).
[6] – لخضر شكير: العقل في الإسلام: مفهومه – قيمته – ودوره، مجلة الشريعة والاقتصاد، المجلد: 3، العدد: 1، الجزائر، 2014، ص (396-397).
[7] – عايدة عبد الحميد عبد الرحمن: نظرية المعرفة عند كانط، حولية كلية أصول الدين بالقاهرة، المجلد: 30، العدد: 30، 2017، ص (749).
[8] – يوسف بن عبد العزيز أبا الخيل: العقل عند كانط مؤهل للتعامل مع ظواهر الطبيعة فقط..!، جريدة الرياض، العدد: 17313، 18 نوفمبر 2015. https://www.alriyadh.com/1101577
[9] – مديحة فخري محمود: العقلية العربية في زمن العولمة (مشكلات وقضايا)، دار دجلة ناشرون وموزعون، عمان، ط1، 2015، ص (42-43).
[10] – إيان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم- محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد: 244، شهر يناير/ كانون الثاني، 1999، ص (316).
#حسام_الدين_فياض (هاشتاغ)
Hossam_Aldin_Fayad#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟