عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8406 - 2025 / 7 / 17 - 18:34
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أولا، حين نناقش قضية التغيير لازم يكون عندنا وعي كاف بفارق السياق بين تعيُّن الدولة ك"أداة قمع طبقي" حيث تتمكنت الطبقة المهيمنة من السيطرة عليها وتوظيفها لخدمة أقلية على حساب الأغلبية المسحوقة، وقد نجح كارل ماركس في تعرية الأساس الطبقي لهذه الدولة "المُعيّنة" المُختطفة وفضح ادّعاءها الحياد.
وبين الدولة الحديثة كمؤسسة تاريخية حققت قفزات هائلة في تنظيم المجتمع وارتقت بحياة الإنسان على نحو لم يشهده أبدا.
وبهذا المعنى الدولة ليست شرًّا مطلقًا، ولا خيّرًا مطلقًا، إنما هي إطار تاريخي اجتماعي دائم التطوّر، تتحدّد وظائفه بحسب توجهات وأفكار وسياسات من يمسك بزمامه
ثانيا، لِنُبسّط الأمور ونرى أهمية هذه الدولة بقطع النظر عن كونها دولة البرجوازية الظالمة، أو دولة الشعب العادلة. ودون الدخول في مناقشة "الدولة العربية الحديثة" التي تم خلقها أعقاب الحرب العالمية الأولى بقرار استعماري فجاءت مشوّهة ومعطوبة في تكوينها وجيناتها (هذه مسألة أخرى تحتاج نظرا خاصًّا)
منذ ولادتها "الويستفالية" في المهد الأروبي أواسط القرن السادس عشر، أحدثت الدولة الحديثة تحوّلًا نوعيًا في تاريخ البشرية، وانقلابا جذريا في حياة الناس الذين كانوا يعيشون في ظل الإمبراطوريات عيشة لا تختلف كثيرا عن حياة الإنسان البدائي.
لقد غيّرت حياتهم بالكامل حين وفرت لهم أمن وقضاء يحميهم من العدوان والعنف العشوائي. وأنهت مآسي الثأر وحياة الغاب، ووضعت القانون فوق الجميع.
وغيّرت الإنسان نفسه حين أنشأت أنظمة صحية قادرة على التصدي للأوبئة وتنظيم الطب. ووفرت التطعيمات، المستشفيات العامة، برامج الصحة الإنجابية، ونظام الإسعاف والطوارئ. فساهمت بذلك في رفع متوسط عمر الإنسان وانخفاض معدلات الوفاة المبكرة.
وارتقت بحياتهم حين خلقت التعليم العمومي وجعلته إلزاميًا وربطته بمشروع بناء المواطن. وأسهمت في محو الأمية الجماعية، وبنت الجامعات ومراكز البحوث كأذرع للتقدّم المعرفي والارتقاء بحياة الإنسان من الماء الصالح للشراب والتلاقيح ضد الأمراض المُعدية مرورا بالتدفئة والإضاءة وصولا إلى المواصلات وتسهيل الحياة.
وحين وفرت البنية التحتية من مساكن، وطاقة، ومياه وشبكات الصرف الصحّي، ونظّمت الأسواق، وحمت الحقوق الاقتصادية، وأنشأت البنوك المركزية. وتدخلت أحيانًا لإعادة توزيع الثروة أو دعم الفئات الهشة (كما في دولة الرفاه). ووفرت شعورًا بالانتماء الوطني ضمن هوية جامعة، تتجاوز الهويات القَبَلية أو الطائفية. وصنعت رموزًا مشتركة، وطقوسًا مدنية، وربطت الفرد بمصير جمعي.
وحين خلقت إدارة منظمة تقوم على قواعد واضحة عامة.
وحين مثّلت شكلاً من "العقلانية القانونية" مقابل الهياكل التقليدية البدائية
وحين أقرّت مبدأ المواطنة المتساوية (حتى وإن لم يُطبق دائمًا). وحين وضعت قوانين تحمي الأقليات، وتتيح آليات للمطالبة بالحقوق.
وحين سحبت السلاح من الجماعات والأفراد، واحتكرت استخدام القوة وفق القانون، فقللت من العنف الأهلي والفوضى، (حتى وإن مارسته هي نفسها أحيانًا).
ثم الدولة وحدها قادرة على تصور مشاريع طويلة الأمد: سدود، نظم تعليم، خطط تنموية، سياسات بيئية. وهي وحدها وفرت بنية للمجال العام: برلمانات، إعلام، منظمات مجتمع مدني، (حتى ولو لم تكن دائمًا ديمقراطية)، فهي توفر فضاء أرحب للحوار مقارنة بالمجتمعات السابقة.
في المجمل، رغم كل ما في الدولة من عيوب بنيوية واحتمالات الانحراف، لا يمكن للإنسان العاقل إنكار أنها من أعظم ما أنجز الإنسان عبر تاريخه، وأنها كانت أداة ارتقاء جماعي فريدة من نوعها، وحققت للإنسانية ما لم تستطع أي صيغة تنظيمية قبلها أن تحققه.
هذه هي الدّولة التي لا يُدرك بعض الناس أنها صارت أساسا لوجودهم الإنساني والمدني، فيستسهلون الثرثرة حول تفكيكها أو إلغائها بناء على ضروب من التأويل الخاطئ وقلّة الفهم.
تبقى المشكلة في خطأين مُركّبين ومتجاورين:
الأول هو الجهل بالسياق النقدي الذي هاجم فيه كارل ماركس دولة البرجوازية المعادية للأغلبية، وأخذ ذلك على محمل الإطلاق، ما حوّل البعض من ماركسيين مُفترضين إلى مجرّد دواعش يدعون ل"تفكيك الدولة القائمة وبناء دولة جديدة" كما لون أن التفكيكيك والتركيب مسألة في غاية البساطة!
في هذا السياق، من المهم التذكير بأنّ الدّولة في زماننا جهاز عملاق ومعقد وخطير جدّا لأنه، كما ذكرنا، مرتبط بشكل وثيق بجميع تفاصيل حياة الناس كأفراد، وعائلات، وجماعات، وطبقات اجتماعية وأجهزة إدارية ودواليب اقتصادية ومالية، وتصريف موارد، ومسالك تجارية والتزامات دولية، ومرافق خدماتية، تعليمية وصحية، وعالم شغل وقوت شعب ...
ومغامرة تفكيك الدولة يعني العبث بكل هذه الأمور، وهذا يعني كارثة لا قبلها ولا بعدها، أول عنوان لها، هو اضطرار المجتمع على السقوط في الفوضى والنهب، ثم في حروب أهلية متعدّدة، إذا اشتعلت يصعب إطفاءها ومحاصرة لهيبها.. وهكذا تدخل البلاد في محنة لعقود طويلة. وتتحوّل إلى ساحة قتل وتصفية حسابات بين الدول الأخرى. والأمثلة على هذا المصير لا تُحصى ولا تُعد.
لكل هذه العوامل والمخاوف الذي يجب أن يأخُذها الجميع على محمل الجدّ، ينبغي أن لا تستبدّ بعض المعتقدات الخاطئة بأصحابها، فيستسهلون قضية الإطاحة بالدولة بناء على تأويل سطحي بالغ السّوء لمفهم كارل ماركس للدولة.
الدولة يا جماعة ليست لعبة أطفال يمكن تفكيكها وإعادة تركيبها بسهولة. الدولة هي كل شيء في البلاد، وإذا تفكّكت يلزمها دهر لتقوم من جديد.
الخطأ الثاني يتمثل في العجز المُزمن على التمييز بين الدولة والنظام والسلطة، خصوصا في المجتمعات التي استحوذ فيها الحزب الحاكم على الدولة لزمن طويل، واندمج بها إلى الحدّ الذي استعاض بنفسه عن مؤسّساتها، فصار هو السلطة وهو النظام وهو الدولة، وهذا أيضا موضوع يطول شرحه. ولكن بإبجاز:
ما الفرق بين الدولة والنظام والسلطة ؟
الدولة هي الكيان السياسي العام والدائم، المكوّن من الشعب، وإقليم جغرافي بحدود معترف بها دوليا، وسلطة مسؤولة على السيادة الترابية. وعلى خدمة الشعب وإدارة شؤونه عبر المؤسسات وباسم القانون. وتشمل مؤسسات الجيش، القضاء، التعليم، الوزارات، الشرطة، المؤسسات السيادية (البنك المركزي...).
والدولة بهذا المعنى باقية، تتطوّر ولا تزول. ويُفترض فيها الحياد لأنها "الوعاء" أو "الإطار"، وليست الشخص أو الحزب الذي يُديرها، ولا حتى النظام.
أما النظام فهو الإطار العام الذي يحدد شكل الدولة وطريقة الحكم (مثل النظام الجمهوري أو الملكي، أو النظام الديمقراطي أو الشمولي).
وأخيرا السلطة هي الجهة أو الحزب أو الأشخاص الذين يمارسون الحكم ضمن هذا النظام، وتتمثل في الرئيس وأعضاء الحكومة ومستشاريهم، وأعضاء البرلمان، والولاة، ورؤساء المصالح...
بعبارة أخرى، النظام يحدد القواعد، والسلطة تُمارس الحكم وفقًا لتلك القواعد..
والسلطة متغيّرة بطبيعتها، والنظام أيضا قابل للتغيير متى قرّر الشعب ذلك.
بالنهاية السلطة هي "من تدير الدولة" ضمن نظام عام معيّن، وليست الدولة نفسها،
ثانيًا: هل نعارض الدولة أم نعارض السلطة أو النظام؟
الشعوب المتحضرة ونخبها تُعارض السلطة، تفوز عليها بالانتخابات لتضع مكانها سلطة جديدة. تطالب بتغيير النظام سواء بإحداث تغيير على الدستور أو بثورة شعبية تفرض تغيير النظام بدستور جديد. ولكنها لا تستهدف الدولة، ولا تدعو لتفكيكها ولا تعمل على انهيارها، وحين يحدث هذا في بعض البلدان المتخلفة تكون النتيجة كارثية. ولقد رأينا كيف تم تفكيك الدولة العراقية بذريعة اجتثاث البعث سنة 2003، وهذا ما جعل البلد ساحة حرب، وإلى يوم الناس هذا لم يتعافى رغم ما لديه من مقدرات نفطية وزراعية. حيث تحولت حجة "اجتثاث الحزب الحاكم"، إلى حجّة هدم الدولة وتجريد البلاد من كفاءاتها ومن عناصر قوّتها. وبالمناسبة الكارثة لا تقف عند مسألة التجريد من عناصر القوة، بل تحول عناصر القوة تلك إلى قوّة عشوائية معادية تفتك بالمجتمع. فأنت حين تحلّ الجيش العراقي (على سبيل المثال)، وبين عشية وضحاها تُحيل مليون عسكريا وشرطيًا وموظّفا على هامش الموت بالقتل والتهجير أو بالسجن والمطاردة أو بقطع المُرتّب وتجويع ملايين السكان، فأنت الذي حوّلت القاعدة من تنظيم صغير إلى داعش التي سيطرت على نصف جغرافيا العراق وثلثي جغرافيا سوريا. الأمر الذي جعل المنطقة ملتهبة منذ ربع قرن.
ورغم تجربة تفكيك الدولة العراقية، مع الأسف تكرّر نفس المشهد في بلدان أخرى بمقادير مختلفة. لعلّ أسوأ ما حدث هو تفكيك الدولة الليبية، والنتيجة أمامكم.
وتتكرّر الآن نفس الجريمة في سوريا منذ مطلع العام الجاري. وبالرغم مما أُعلنته "هيئة تحرير الشام" في البداية من نوايا الحفاظ على الدولة، يبدو أن هذه الهيئة بحكم طبيعتها ال"لا دولتية"، وبحكم حجم الأزمة الاقتصادية السورية الهائل، وبحكم الذاكرة النازفة بالجروح والقروح التي خلفتها الحروب الأهلية. وبحكم تفكك النسيج الوطني، تعثّر السوريون في الحفاظ على الدولة وجعلها دولة كل المواطنين. وإضافة إلى جميع العوامل المحلية، كان الصهاينة ينتظرون تفكّك الدولة السورية وانفجار الصراع الطائفي كبوابة للتقسيم. ولأن ذلك لم يحدث، رأينا كيف أصرّت إسرائيل منذ ديسمبر الماضي على تدمير ما تبقّى من الدولة عبر قصف المقدرات والمنشآت العسكرية والأمنية، وعبر إثارة الفِتن، بغاية تقسيم البلاد ما يسمح للمشروع الصهيوني بالتوسع ضمن نظرية "إسرائيل الكبرى" التي تُسمى اصطلاحا "الشرق الأوسط الجديد".
عودا على موضوعنا، بناء على ما سبق، معارضة النظام تعني السعي لتغيير طريقة الحكم، أو تغيير من يحكم. لذلك حين يُدعى للتغيير هذا لا يعني تفكيك الدولة، بل يعني تغيير السلطة. وقد يعني تغيير النظام نفسه، دون إسقاط مؤسسات الدولة.
إذا سقطت السلطة هل يسقط النظام، وتسقط الدولة؟
الجواب: ليس بالضرورة. في الدول الراسخة (مثل تونس)، سقطت السلطة، وظل الصراع يدور حول إسقاط النظام الذي أُعيد تدويره وتغيير ثوبه بحرفية كبيرة، فظل قائما، وبقيت الدولة رغم كل التشوّهات التي طالتها بسبب سيطرة حركة ذات جذور إرهابية على السلطة.
لكن في دول هشّة أو فيها شخصنة مطلقة للنظام (مثل ليبيا القذافي) سقط النظام بتدخّل عسكري خارجي، وتولّت الحركات الإرهابية مهمة تفكيك الدولة بسهولة كبيرة نظرا لهشاشة جهازها الإداري، وشكلية مؤسساتها، والغياب التام للأطر التمثيلية والأحزاب والنقابات والمجتمع المدني. فكان الانهيار شاملا في أيام معدودة.
فما هو سبب هذا السقوط السّهل؟
لأن رئيس النظام، المرحوم معمر القذافي، دمّر المؤسسات، وربط كل شيء بشخصه وباللجان الثورية (الحزب الحاكم)، وفي هذه الحالات يصبح سقوط الحاكم يساوي فراغ كامل في الإدارة، الأمن، الخدمات، والسلطة.
ثالثا، ما هي مخاطر تفكك الدولة؟
الدولة جهاز صعب جدا لأنه ينمو عبر عقود وأحيانا عبر قرون وتفككه لا يعني فقط غياب الحكومة، بل انهيار العقد الاجتماعي وتفكك الأمة. وبالتالي الدخول في فوضى أمنية (مليشيات، سلاح منفلت، حروب أهلية).. انهيار الخدمات (لا صحة، لا تعليم، لا رواتب...). تهديد وحدة الإقليم (تقسيم، انفصال مناطق). وتدخل خارجي مباشر (قوات أجنبية، احتلال، وصاية). وانهيار الاقتصاد (عملة، بنوك، استثمار). وتدمير الثقة الوطنية (نمو الهويات الطائفية، القَبَلية، الإثنية). وصعود الجماعات المتطرفة (كما حصل مع داعش أو القاعدة).
إذن الدولة هي الكيان العام للشعب والإقليم. ومن حق أي مواطن أن يعارض السلطة ويُغيّرها. وأن يعارض النظام ويطالب بتغييره، خاصة إذا كان ظالما أو فاشلا، لكن من واجبه، في الآن نفسه، أن يحافظ على الدولة، وأن لا يتلاعب بأمنها وسيادتها بتعلّة خصومته مع نظام الحكم.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟