أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - من هو عدونا؟ سؤال طبقي لا طائفي















المزيد.....


من هو عدونا؟ سؤال طبقي لا طائفي


علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور، كاتب وأديب

(Ali Tabla)


الحوار المتمدن-العدد: 8399 - 2025 / 7 / 10 - 20:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مقدمة: إعادة صياغة سؤال العدو بعد 2003
بعد احتلال العراق في عام 2003، برز سؤال ملحّ في الوعي الجمعي: من هو العدو الحقيقي؟ غير أنّ الإجابات عنه سرعان ما ارتدت لبوسًا طائفيًا. إذ أخذت الخطابات السياسية والإعلامية تعيد تعريف العدو بوصفه الآخر المذهبي أو الديني أو القومي، وليس الطبقي. هكذا بات السنّي يعدّ خصمًا للشيعي، والشيعي عدوًا للسنّي، وصُوِّر الصراع السياسي وكأنه حرب هويات، بينما غُيّب عن المشهد جوهر الصراع الطبقي والاستغلال الاقتصادي. لقد حملت السنوات التي أعقبت سقوط النظام السابق سرديّات جديدة تصوّر العدو بأنه “الآخر الطائفي” الذي يجب هزيمته، وأبطالها أولئك الذين يدافعون عن طائفتهم . في ظل هذا التشويش المتعمّد، تُطرح مجددًا الحاجة لتحليل جذور إنتاج صورة العدو في العراق: هل هو حقًا الخصم المذهبي المختلف، أم الطبقة المسيطرة والطغمة الفاسدة التي تختبئ خلف قناع الهويات؟
الجذور التاريخية: من فرق تسد إلى دولة المكونات
لتفكيك خطاب العدو الطائفي، لا بد من العودة إلى الجذور التاريخية لتشكّل الهويات والصراعات في العراق. فمنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، اعتمد المستعمر البريطاني سياسة “فرق تسد” عبر تفضيل نخب معينة على أخرى ، مما خلق خللًا في تمثيل المكونات الاجتماعية. ورثت الدولة الوليدة هذا الخلل؛ إذ هيمن سنّة من نخب معينة على مؤسسات الحكم زمن الملكية، مما ولّد شعورًا بالمظلومية لدى قطاعات شيعية شعرت بالتهميش . هذه التراكمات التاريخية زرعت بذور التوتر الطائفي حتى قبل 2003، وإن ظلّت كامنة نسبيًا تحت سطح الخطاب الوطني العام.
في عهد النظام السابق (1968-2003)، لم تكن الهوية الطائفية معلنة كأداة صراع رئيسية بشكل رسمي، بل ارتدى القمع طابعًا “علمانيًا” قوميًّا رغم انحيازه ضمنيًّا . نظام البعث قمع المعارضين على اختلاف توجهاتهم بتهمة الخيانة أو العمالة بغض النظر عن مذهبهم، فكان “قمعًا متساوي الفرص” كما يصفه بعض المؤرخين . ورغم ذلك، استمر النظام في استثمار التفاوتات الاجتماعية والمناطقية، مع تصعيد خطاب معاداة “الآخر” وفق مقتضيات الحاجة (سواء كان الآخر سياسيًا كالشيوعيين والإسلاميين، أم قوميًّا كالأكراد). أي أن صورة العدو في الحقبة السابقة للاحتلال الأميركي لم تكن بريئة تمامًا من الاستقطاب الهوياتي، لكنها ظلت تخضع لمحددات أمنية وسياسية أكثر منها طائفية معلنة .
العراق ما بعد 2003: تكريس الطائفية وإنتاج عدو وهمي
بعد الغزو الأمريكي وسقوط بغداد في 2003، دخل العراق مرحلة إعادة تأسيس سياسي على أسس طائفية وعرقية معلنة. وضع المحتل أسس نظام المحاصصة المكوّناتية الذي قسّم السلطة والثروة وفق معادلة شيعة – سنّة – أكراد بصورة مؤسسية. هذا التحول البنيوي عمّق الهويات الفرعية وجعلها محور الشرعية السياسية. ومنذ ذلك الحين، راحت النخبة الجديدة – وهي غالبًا خليط من زعامات دينية وقومية عادت برفقة الاحتلال – تؤجّج المشاعر الطائفية لتثبيت مواقعها. شهد العراق تصاعدًا حادًا في العنف الأهلي عامي 2006-2007، حيث انفجرت حرب أهلية مصغرة جعلت المجتمع أكثر انقسامًا. عزز العنف حدود الهوية الطائفية بين الجماعات، ورسّخ في الوعي الشعبي سردية الضحية والمظلومية لكل طرف . ضمن هذه السردية، صار العدو = الجار المختلف طائفياً الذي صُوِّر كتهديد وجودي . بهذا، حلَّ “الآخر الطائفي” محل العدو الحقيقي في الخطاب العام، وتحوّل أبناء الوطن الواحد إلى خصوم لدودين في مخيلة بعضهم البعض.
لقد لعبت وسائل الإعلام الحزبية والفضائيات دورًا خطيرًا في صناعة هذا العدو الوهمي. مع غياب رقابة الدولة الرشيدة، ظهرت قنوات ومنصات إعلامية ممولة من قوى سياسية متنفذة، تبث سموم التحريض ليل نهار . راحت تلك المنابر تذكّي نار الفتنة عبر قصص وسيناريوهات مفبركة تستحضر وقائع تاريخية عمرها قرون بصورة انتقائية، لتؤجج الكراهية بين السنّة والشيعة . وفي ظل هشاشة الهوية الوطنية وضعف الإعلام المهني المستقل، وجد الخطاب الطائفي أرضًا خصبة . منابر التحريض هذه صوّرت أبناء الطائفة الأخرى كمصدر كل شر وبلاء، وروّجت نظرية المؤامرة بأن كل طائفة مستهدفة من الأخرى وجوديًا. وقد أدّت هذه الدعاية المستمرة إلى تزييف الوعي الجمعي لكثيرين، حتى بات بعض العراقيين يعتقدون فعلاً أن جاره في الوطن هو عدوه الأول، متناسيًا من الذي سرق لقمة عيشه ونهب ثرواته.
سيطرة الطبقة والنيو-ليبرالية: العدو الحقيقي المغيَّب
في خضم تلك الضوضاء الطائفية، توارى العدو الحقيقي عن الأنظار. لم يعد الحديث يدور حول الطبقة الحاكمة الجديدة التي تشكّلت تحت رعاية الاحتلال، ولا حول الطغمة الكومبرادورية التي ارتبطت مصالحها بشركات ودول خارجية، بل انصبّ الاهتمام على صراع السنّي والشيعي والكردي فيما بينهم. الحقيقة أن النظام السياسي-الاقتصادي بعد 2003 أرسى أسسًا نيوليبرالية تابعة أضرّت بمصالح الغالبية الساحقة لصالح أقلية ثرية. فقد شهدت تلك الفترة خصخصة واسعة وانفتاحًا اقتصاديًا متوحشًا سُلّمت بموجبه مقدرات العراق وثرواته - وعلى رأسها النفط - إلى شركات عملاقة متعددة الجنسية . اعتُبر ذلك “أخطر النتائج الاقتصادية طويلة الأمد للغزو” بحسب بعض الباحثين ، حيث جرى نزع الملكية الوطنية وتسليمها لشركات مثل شل وإكسون موبيل وبي بي وتوتال وغيرها. هذه الصفقات الهائلة جرت بينما كان الشعب غارقًا في انعدام الأمن والخدمات، وبعد أن فكّك الاحتلال مؤسسات الدولة (حلّ الجيش واجتثاث البعث) مما ترك فراغًا أمنيًا ملأته الميليشيات الطائفية .
ووسط هذا التحول الاقتصادي، برزت طبقة جديدة من المستفيدين: تحالف بين سياسيين ورجال أعمال كومبرادور (وهم وكلاء رأس المال الأجنبي) اغتنوا فجأة من العقود والعمولات. هذه الطبقة المسيطرة عابرة للطوائف في واقع الأمر؛ إذ ضمّت شيعة وسنّة وأكرادًا يوحّدهم هوس السلطة والثروة لا المذهب. لكنها تنكّرت خلف أقنعة طائفية؛ فكل زعيم أو حزب منها ادعى تمثيل طائفته والدفاع عنها، بينما هو في الحقيقة يدافع عن امتيازاته ومصالحه الضيقة. لقد تمكّن هؤلاء من الاحتماء بالانقسامات المذهبية، بحيث يصعب على الشعب رؤيتهم كعدو مشترك. في المحصلة، أُعيد تعريف الصراع على أنه بين المكوّنات العراقية ذاتها، وليس بين الشعب (بجميع طوائفه) والفئة الحاكمة المتحالفة مع رأس المال العالمي.
أدوات التضليل: كيف يُحرف الصراع الطبقي
استخدمت قوى السلطة المتربعة على قمة الهرم عدة أدوات لتضليل الناس عن طبيعة الصراع الحقيقية. من أبرز هذه الأدوات:
• الخطاب السياسي التخويني: كلما ارتفع صوت نقدي يطالب بالحقوق والخدمات، سارع المتنفذون إلى وصمه بتهمة الولاء لجهة معادية مذهبيًا أو دوليًا. مثال صارخ على ذلك حدث في احتجاجات السنّة عام 2013، حين رفع المتظاهرون شعارات ضد التهميش والفساد. يومها لجأ رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي إلى استخدام “الكارت الطائفي” فوصف المحتجين بأنهم بعثيون وإرهابيون من القاعدة لتبرير قمعهم . هكذا يُصوَّر أي حراك مطلبي على أنه مؤامرة طائفية أو خطر أمني، مما ينفّر بقية المواطنين منه ويبرّر ضربه.
• الإعلام الموجّه والتحريض: كما أسلفنا، الفضائيات المملوكة للأحزاب والشخصيات النافذة عملت على شيطنة الخصوم طائفيًا. يتم انتقاء أخبار التفجيرات والجرائم وتقديمها للمشاهد بصبغة طائفية واضحة: إذا وقع تفجير إرهابي في حي شيعي فالفاعل سنّي والعكس بالعكس. تُبَثّ خطب نارية لوعّاظ متطرفين أو ساسة طائفيين يحرّضون ضد الطرف الآخر بلا رادع . ونتيجة لذلك، تترسخ الكراهية شيئًا فشيئًا في أذهان عوام الناس، وينشغلون عن مساءلة المتسبب الحقيقي في تردي أوضاعهم.
• إذكاء الذاكرة الجريحة: كثيرًا ما يعمد أمراء الطوائف إلى نبش أحداث الماضي الأليمة لاستدرار مشاعر النقمة. فيذكّر الزعيم الشيعي جمهوره بمظلوميات تاريخية قديمة وحديثة على يد أنظمة سنية أو جماعات متطرفة سنية، بينما يستحضر الزعيم السني لجمهوره ذكريات القمع على يد مليشيات أو حكم شيعي… وهكذا دواليك. يتم تغليف هذه السرديات بلغة ثأرية وقدسية (كاستدعاء معركة كربلاء مثلًا أو أحداث حرب أهلية سابقة)، مما يقطع الطريق على أي خطاب عقلي يدعو للتسامح الطبقي أو الوحدة الوطنية.
• القمع المسلح على أسس طائفية: استخدمت السلطة أدوات الدولة الأمنية لقمع فئات معينة بتهمة الإرهاب أو التمرّد، غالبًا باستهداف مناطقي/مذهبي. اعتقالات عشوائية وتعذيب وإعدامات مركزة طالت في أحيان كثيرة مكوّنًا محددًا ، مما عمّق الشعور الجماعي لدى ذلك المكون بأنه مستهدف كطائفة لا كمجموعة سياسية. وبدل أن ينظر المواطن إلى أجهزة الدولة كحامية له من الفاسدين، صار يخشاها بوصفها منحازة ضد طائفته. وهكذا نجحت السلطة في تحويل الأنظار عن فسادها وفشلها نحو صراع طائفي دموي تستفيد هي وحدها من استمراره.
التأصيل الفكري: رؤية طبقية لخطاب العدو
لفهم أعمق لكيفية تزييف وعي الناس حول من هو العدو، يمكننا الاستعانة بتحليلات مفكريّن ماركسيين في السياقين العربي والإسلامي. فقد رأى المفكر اللبناني مهدي عامل – الذي درس النظام الطائفي في لبنان – أن الطائفية ليست جوهراً أزلياً للمجتمع، بل هي علاقة سياسية ترتبط بشكل محدد من الصراع الطبقي. يؤكد مهدي أن البرجوازية في المجتمع المتعدد الطوائف تتحكم في مجرى الصراع الطبقي عبر تطييفه، أي ربط الطبقات الكادحة بها ربطًا طائفيًا . وبكلمات أخرى، يقوم النظام الطائفي بشلّ أي صراع بين المستغِلّين والمستغَلّين، عبر تحويله إلى اقتتال بين طوائف الشعب نفسها. هذه الرؤية تساعدنا على فهم ما جرى في العراق: حيث نجحت البرجوازية السياسية (التي تضم قادة أحزاب وميليشيات من مختلف الطوائف) في تحويل أنظار الشيعي الفقير والسنّي الفقير عن عدوّهما الطبقي المشترك، ودفعهما بدل ذلك لمواجهة بعضهما البعض خدمةً لمصالحها هي.
أما علي شريعتي، المفكر الإسلامي الثوري، فقد ميّز بين دين المستضعفين ودين المستكبرين. يمكن إسقاط مقولته على الواقع العراقي؛ إذ يرى أن قراءة الدين والمذهب يمكن أن تكون وقودًا للثورة الاجتماعية حين يقف مع المحرومين، أو أداة تبرير لظلم الطغاة حين يستخدم لتخدير الوعي. الخطاب الطائفي بعد 2003 مثّل بوضوح دينًا زائفًا للمستكبرين: شعارات دينية ومذهبية تُرفع لتبرير اقتتال الإخوة، فيما يبقى الجوهر دنياويًا سلطويًا يتعلق بالمال والنفوذ. وبالمثل، علّمنا حسين مروة (المفكر الماركسي اللبناني) أن التراث الديني فيه نزعات مادية ثورية تم طمسها عبر التاريخ لصالح قراءات غيبية تخدم أصحاب السلطة. ولو بعث اليوم، ربما لقال: إن المذاهب حين تتحول إلى هويات سياسية عدوانية، تفقد مضامينها الروحية والإنسانية، لتغدو أدوات سيطرة طبقية مقنّعة.
وعلى صعيد الفكر العالمي، يقدّم أنطونيو غرامشي مفهوم الهيمنة الثقافية، الذي يفسر كيف تحافظ الطبقة المهيمنة على سلطتها ليس بالقوة المباشرة فقط بل بزرع أفكارها كأنها بديهيات. في حالتنا، نجحت الطبقة الحاكمة العراقية بتحويل الطائفية إلى ما يشبه “الفطرة السياسية” للعامة؛ فكرة مسلّم بها بأن السنّي والشيعي لا يمكن أن يتعايشا بسلام لأنهما عدوان طبيعيان. هذه “الفكرة السائدة” هي ما يسميه غرامشي الفكر اليومي المهيمن الذي يخدم مصالح المسيطرين. كسر هذه الهيمنة يتطلب إنتاج فكر نقدي بديل – خطاب طبقي وطني جامع – يقلب المعادلة ليظهر من هو العدو الحقيقي: أي من ينهب الثروات ويقمع الحريات بغض النظر عن طائفته.
مقارنات عبر التجارب: الطائفية كسلاح بيد النخب
إن ظاهرة إعادة تعريف العدو على أسس هووية زائفة ليست حكرًا على العراق. كثير من المجتمعات عانت من تلاعب مشابه قامت به نخبها أو مستعمروها لإخفاء الصراع الطبقي الحقيقي. فيما يلي أمثلة مقارنة تسلّط الضوء على هذا النسق:
• لبنان: النموذج اللبناني صارخ في تكريس الطائفية سياسيًا منذ استقلاله. فقد استطاع نظام المحاصصة الطائفي هناك أن يوحّد شعوبًا متعددة خلف زعماء كل طائفة، ووضعهم في مواجهة بعضهم البعض بلا طائل . النتيجة أن المواطنين انشغلوا بتعزيز سلطة زعمائهم ومناطحة أبناء الطوائف الأخرى، دون إدراك أن لا هدف يجمعهم إلا تلميع زعاماتهم وتقويتها . خلال الحرب الأهلية (1975-1990) التي بدأت بشعارات إصلاحية ضد الدولة الطائفية، سرعان ما انزلقت الأحزاب إلى اقتتال طائفي دموي يخدم أمراء الحرب أنفسهم. غُيِّب العدو الحقيقي – الطبقة الحاكمة المتحالفة مع الخارج وأصحاب المصارف والإقطاعيات الجديدة – لصالح عدو وهمي هو الجار من طائفة أخرى. وحتى بعد الحرب، بقي الاقتصاد الريعي في يد حفنة عائلات نافذة من كل الطوائف، بينما غُلفت الأزمة بخطاب حقوق المذهب والطائفة. وشاهدنا انتفاضة 17 تشرين 2019 عندما هتف الناس “كلّن يعني كلّن” في رفض جامع لكل زعماء الطوائف باعتبارهم العدو الطبقي المشترك، في وعي شعبي نادر لكسر هذه القاعدة.
• مصر: رغم أن التركيبة الاجتماعية في مصر أكثر تجانسًا مذهبيًا (غالبيتها الساحقة من المسلمين السنّة)، استخدمت النخبة الحاكمة هناك أيضًا استراتيجيات التفريق على أسس هووية وسياسية. ففي عقود ما بعد ثورة 1952، كان العدو المصطنع تارة هو الشيوعي الملحد وتارة الإسلامي الرجعي، بحسب من يناوئ السلطة. خلال حكم أنور السادات، أُطلقت يد الخطاب الإسلامي المحافظ لضرب التيار اليساري (فكان الشيوعي هو العدو)، ثم انقلب السحر على الساحر لاحقًا فأصبح الإرهابي الإسلامي هو العدو الذي يهدد الوطن. في كلتا الحالتين، ظلت جوهر الصراع الاجتماعي على التوزيع العادل للثروة والتصدي للاستبداد غائبًا. وفي عهد حسني مبارك، كثيرًا ما صُوِّرت أصوات المعارضة – من إسلاميين أو ليبراليين – بأنها عملاء للخارج يريدون تخريب الاستقرار، بينما الاستقرار هنا يعني بقاء حفنة رجال أعمال محتكرين للاقتصاد ومرتبطين بالسلطة (ما يمكن وصفه بطغمة كومبرادورية). حتى الفتن الطائفية بين المسلمين والمسيحيين في بعض الفترات، يلمح محللون إلى أنها استُخدمت لتشتيت انتباه الشارع عن مشاكله الحقيقية من بطالة وفقر وفساد، ولإظهار النظام كحامٍ للأقلية القبطية تارة وللأغلبية المسلمة تارة أخرى حسب مقتضى الحال.
• اليمن: عانى اليمن، ولا يزال، من حرب متعددة الوجوه يتم تأطيرها إعلاميًا بأنها صراع سنّي شيعي بين حكومة سنّية مدعومة سعوديًا وجماعة حوثية زيدية شيعية مدعومة إيرانيًا. هذا التأطير المبسّط يخفي طبقات معقدة من الصراع على السلطة والتوزيع غير العادل للموارد في أحد أفقر بلدان المنطقة. لقد أتقن الرئيس السابق علي عبدالله صالح لسنوات لعبة التوازنات الهوياتية؛ حيث كان يُغذي التوتر بين الإسلاميين السنّة (حزب الإصلاح ومليشيات قبلية) وبين الحوثيين الزيديين، كي يظل الطرفان منشغلَين ببعضهما البعض بدل أن يلتفتا لفساد نظامه . تشير تقارير إلى أن نظام صالح تلاعب بالانقسامات المذهبية في الشمال لضمان أن تبقى الجماعات متDistracted by each other، فلا تتحد ضده . وفي الحقيقة، كانت جذور النزاع الحوثي تعود لسنوات من التهميش الاقتصادي لمناطقهم والتلاعب بهوياتهم. خلال الانتفاضة الشعبية في اليمن عام 2011، شارك الحوثيون والإصلاحيون سويًا في ساحات الاعتصام ضد النظام، ورفع الجميع شعارات ضد الفساد والقمع التي عانى منها كل اليمنيين بغض النظر عن المذهب . لكن سرعان ما أعادت التسوية السياسية الخارجية إنتاج الانقسام بمنح طرف تمثيلاً أكبر وإقصاء آخر ، فعاد الاقتتال. واليوم يُدار الصراع بوصفه حربًا إقليمية طائفية، بينما يدفع ثمنها الشعب اليمني بكل أطيافه، ويواصل أمراء الحرب (من الجانبين) والإقطاعيون الجدد الاستفادة من اقتصاد الحرب ومعاناة الملايين.
• أميركا اللاتينية: في تجارب دول أمريكا الجنوبية والوسطى، أخذ الصراع الطبقي طابعًا مختلفًا لكنه يقدّم دروسًا مماثلة. فعلى امتداد القرن العشرين، كانت الأنظمة الدكتاتورية المدعومة من الولايات المتحدة تشنّ حربًا على شعوبها تحت شعار محاربة العدو الداخلي. هذا العدو جرى تعريفه بأنه الشيوعيون والثوار الذين “يهددون الوطن والقيم والدين”. فمثلًا في تشيلي بعد انقلاب بينوشيه 1973، أصبح كل معارض للنظام متهمًا بأنه شيوعي عميل ويشكل عدوًا للأمة. اختفى آلاف من النشطاء والعمّال وقُمعت النقابات تحت هذه الذريعة، بينما الحقيقة أن العدو الحقيقي للشعب التشيلي كان الطغمة العسكرية-الاقتصادية التي خصخصت كل شيء وباعت البلاد للشركات الأجنبية. وبالمثل في الأرجنتين وبقية بلدان المخروط الجنوبي خلال عمليات الكندور سيئة الصيت، حيث تعاونت النخب الحاكمة لخلق شبح عدو وهمي (يساري، إرهابي، إلخ) لتبرير القمع الوحشي. هذه الدعاية السوداء أخفت واقعًا بسيطًا: أن قلة من الجنرالات والأوليغاركية هم الذين نهبوا خيرات البلاد بينما أُسكِتت أي مطالبة بالعدالة الاجتماعية بقوة النار.
حتى في البلدان الديمقراطية نسبيًا في أمريكا اللاتينية، شهدنا في العقود الأخيرة استخدام الشعبوية اليمينية لخطابات هووية (عرقية أو طبقية معكوسة) لتعميق الانقسام. فبعض السياسيين صوّروا الفقراء الذين تحركوا جماعيًا على أنهم “رعاع خطرون” يهددون الطبقة الوسطى والاستقرار، أو تم تأليب فئات الشعب الأصلية ضد المستوطنين ذوي الأصول الأوروبية وبالعكس، بحيث ينشغل الكل بصراع أفقي بينما تبقى النخب الاقتصادية في مأمن. على الجانب الآخر، أدركت حركات تحررية لاتينية (كالثورة الكوبية، وحكومة تشافيز في فنزويلا في بداياتها) أهمية إعادة تعريف العدو بشكل سليم، إذ سمّت الأشياء بأسمائها وحددت العدو بأنه الإمبريالية والاحتكارات والرأسمالية المتوحشة. هذا التحديد الواضح ساهم في تعبئة شعبية عابرة للهويات الضيقة، رغم كل التحديات اللاحقة التي واجهتها تلك التجارب.
خاتمة: أسئلة مفتوحة لإعادة تعريف الصراع
ختامًا، يتبين لنا أن سؤال “من هو عدونا؟” هو مفتاح لأي مشروع وعي تغييري. فإذا أخطأنا تعريف العدو، أخطأنا طريق النضال بل وربما حاربنا الأصدقاء وظاهرنا الأعداء الحقيقيين دون أن ندري. الحالة العراقية بعد 2003 تقدّم مثالًا مأساويًا لكيف يمكن أن يُخدَع شعب بأكمله لتوجيه غضبه نحو الجهة الخطأ. لكن هذا الوعي الزائف ليس قدرًا محتومًا؛ بإمكاننا نقده وتجاوزه عبر طرح الأسئلة الصعبة ومراجعة المسلّمات. في هذا السياق، نختتم ببعض الأسئلة المفتوحة التي نأمل أن تحفّز القارئ على التفكير وإعادة النظر في تعريفه للصراع والعدو:
• من المستفيد الحقيقي من انقسام أبناء الوطن الواحد إلى سنة وشيعة وعرب وكرد وتقاتلهم فيما بينهم؟ ومن الخاسر الأكبر في هذه المعارك الداخلية المستمرة؟
• إذا لم يكن جارك المختلف مذهبيًا هو العدو، فمن إذن ذاك الذي يسرق ثروات البلاد ويستأثر بالسلطة منذ عقود؟ وهل لون رايته الدينية يغيّر شيئًا من جوهر أفعاله في نهب المال العام وإفقارك؟
• كيف يمكن لنا إعادة توحيد صفوف الشعب على أسس المصلحة الطبقية المشتركة بدل الاصطفاف خلف زعامات طائفية تستغلنا؟ وما دورنا كأفراد ومثقفين في كشف أدوات التضليل ورفض أن نكون وقودًا لصراعات تخدم سوانا؟
• أخيرًا، هل يمكن أن نتخيّل وطنًا يكون فيه الصراع الحقيقي بين معسكر العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية من جهة، ومعسكر الفساد والتبعية من جهة أخرى – بصرف النظر تمامًا عن الأديان والطوائف؟ وهل نحن مستعدون لخوض غمار ذلك التحول الفكري والجماهيري؟
هذه الأسئلة وأكثر تبقى برسم التأمل والحوار. فإعادة تعريف العدو هي الخطوة الأولى نحو إعادة تعريف المعركة ذاتها. وحين ندرك أن عدونا ليس طائفة أخرى ولا دينًا آخر، بل منظومة استغلال وقهر عابرة للهويات، سنكون قد وضعنا أقدامنا على بداية الطريق نحو التحرر الحقيقي. حينها فقط سنعرف أين نوجّه بندقيتنا الفكرية والنضالية، ونميّز الصديق من العدو في مسيرة بناء عراق جديد تسوده العدالة والتكاتف الأهلي.



#علي_طبله (هاشتاغ)       Ali_Tabla#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة ماركسية تجديدية في صناعة الكراهية وتغييب الوطنية
- الطبقة العاملة العراقية – تحديات الوجود وأفق التغيير
- هيمنة الرأسمالية المالية في العراق
- الانتخابات والتحالفات في العراق – من الاحتلال إلى اللا-دولة
- التحولات الطبقية في العراق المعاصر: قراءة ماركسية نقدية في ض ...
- تحرير المفاهيم: من الاشتراكية المشوّهة إلى العدالة الجماعية ...
- الحرية لا تُنتزع بالخطب، بل بالسلطة الطبقية الواعية
- الاشتراكية والثورة: هل يمكن التحرر دون سلطة؟ رد على أحمد الج ...
- نحو الأممية الشبكية والتنظيم الافقي في الحزب الشيوعي: منهجية ...
- من الدولة إلى التنظيم الطبقي: في الرد على أطروحات أحمد الجوه ...
- نحو تجديد ماركسي-لينيني يتجاوز المأزق اللاسلطوي - رد على أحم ...
- النهج التجديدي في الماركسية واللينينية: قراءة جدلية نقدية في ...
- نظام المكونات في العراق: الهيمنة الإمبريالية وإعادة إنتاج ال ...
- عقود النفط بعد 2003: هل خسر العراق معركته الاقتصادية الكبرى؟
- القمع: قراءة ماركسية معمقة في سياق الدولة البرجوازية والدولة ...
- يا نساء العراق، توحدنَّ!
- حول الدولة المدنية والديمقراطية: clarifications ماركسية ضرور ...
- العراق في قبضة الاحتلال المالي: كيف تُنهب ثروات بلد نفطي بأد ...
- الدولة المدنية والتغيير الشامل: قراءة ماركسية نقدية لشعار ال ...
- الدولة المدنية والاشتراكية: جدلية الضرورة والإمكان في الواقع ...


المزيد.....




- تحليل: هل تؤثر كلمات ترامب على تصرفات بوتين وما يقوم به في أ ...
- فساتين تُجسّد الملكية في عرض إيلي صعب الباريسي
- سيُمنعون من المغادرة.. وزير دفاع إسرائيل يطلب تجهيز -مدينة إ ...
- صور أقمار صناعية تكشف: الهجوم الإيران على قاعدة العديد بقطر ...
- من السجن إلى قيادة فصيل مسلح مناهض لحركة حماس في غزة.. ماذا ...
- -حرمان الأطفال من الجنسية ضرر لا يُصلح-: قاضٍ فدرالي يجمّد ق ...
- ما الذي فعلته -غارة إسرائيلية- بـ 8 أطفال في دير البلح؟
- تدابير أوروبية للضغط على إسرائيل حال فشل اتفاق المساعدات
- البوسنة و الهرسك: ثلاثون عاماً مرت.. مجزرة سريبرينيتسا لا تز ...
- ما صفات الإله مردوخ؟ في العراق، فك لغز نشيد بابل القديم بفضل ...


المزيد.....

- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي
- زمن العزلة / عبدالاله السباهي
- ذكريات تلاحقني / عبدالاله السباهي
- مغامرات منهاوزن / ترجمه عبدالاله السباهي
- صندوق الأبنوس / عبدالاله السباهي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - من هو عدونا؟ سؤال طبقي لا طائفي