|
-تعدد الأقطاب؟ احتمال قائم في المستقبل-
حازم كويي
الحوار المتمدن-العدد: 8399 - 2025 / 7 / 10 - 15:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
فيجاي براشاد* ترجمة :حازم كويي
بالنظر إلى النقاش السياسي الدائر في ألمانيا، قد يحصل المرء على انطباع بأن الغرب محاصر بالأعداء الذين يسعون إلى تدميره. لكن خارج فقاعة واشنطن- برلين، تسود نغمة مختلفة: فالولايات المتحدة، التي هيمنت على السياسة العالمية على الأقل منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، تمر الآن بأزمة عميقة، وتزداد عجزاً بالحفاظ على هيمنتها العالمية. وهذا يحمل في طياته من جهة خطر اندلاع المزيد من النزاعات المسلحة، كما هو الحال في الحربين الجاريتين في أوكرانيا وقطاع غزة، لكنه يفتح من جهة أخرى المجال أمام نشوء عالم يتسع لعدة فاعلين إقليميين ومسارات تنموية مستقلة عن ما يُعرف بتوافق واشنطن. وفيما تُستأنف المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار في حرب غزة، ويعلقُ إيران تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتلتقي دول "البريكس بلس" في البرازيل، يُحلل المؤرخ فيجاي براشاد تحوّلات ميزان القوى على الساحة الدولية. يحذر براشاد من أن "الناتو هو أخطر منظمة في العالم"، فيما تتواصل مظاهر النفاق الأوروبي تجاه العالم الأفقر. ومع ذلك، لا ينبغي المبالغة في تقدير هذه التطورات ـ فالدولار لا يزال يحتفظ بمكانته كعملة عالمية مهيمنة، والنخب الحاكمة في دول "البريكس بلس" ما تزال بعيدة عن تحقيق استقلال فعلي عن الغرب. إن النظام العالمي الجديد لا يزال بعيد المنال ـ لكنّ أزمة النظام القائم تتيح أيضاً إمكانيات لاختراقات يسارية. رغم أن الهيمنة العالمية للولايات المتحدة بدأت تتآكل، وأن الصين تبرز كمنافس، إلا أن النظام العالمي الأحادي القطب لا يزال قائماً، كما يرى المؤرخ فيجاي براشاد.
في هذا الحوار، يشرح لماذا يعتبر الناتو أخطر منظمة في العالم.
س: تم قصف إيران من قبل إسرائيل وكذلك من قبل الولايات المتحدة دون مبرر ذي مصداقية. وقد ردّت طهران بهجمات صاروخية على إسرائيل وعلى قاعدة أمريكية في قطر. ولا تزال الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة مستمرة منذ أكثر من 600 يوم، دون أي بوادر لنهايتها، في حين تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي هجماتها على لبنان. جميع هذه الهجمات تُعدّ أعمالاً عدوانية وغير قانونية بموجب القانون الدولي. كيف تقيّمون الوضع الحالي للصراع، وما هو تصوّركم لمستقبل منطقة الشرق الأدنى والأوسط؟
خاضت الهند وباكستان حرباً استمرت ثلاثة أيام. وقد اتضح خلالها أنه في حالة قوتين عسكريتين تملكان كلتاهما دفاعاً جوياً متطوراً، وطائرات مسيّرة، ونظاماً متكاملاً مع الطائرات المقاتلة، لا يمكن لأي طرف أن يحقق النصر. فلم تتمكن لا القوات الجوية الهندية ولا الباكستانية من اختراق أنظمة الدفاع الجوي للطرف الآخر أو تدميرها. وعند النظر إلى إسرائيل وإيران، من حيث القدرات العسكرية فقط، كان من الواضح بسرعة أن أياً منهما لا يستطيع تحقيق نصر حاسم. إسرائيل لن تغزو إيران، وإيران لن ترسل قوات برية إلى داخل إسرائيل. العامل الوحيد الذي يمكن أن يُغيّر موازين القوى هو تدخل الولايات المتحدة، التي تمتلك دون منازع أقوى ترسانة نارية. صحيح أن الولايات المتحدة نفذت ثلاث غارات جوية، لكنها كانت عديمة الأثر تقريباً. وقد ردّت إيران بهجوم على قاعدة العُديد [القاعدة العسكرية الأمريكية في قطر]، وهو هجوم بدا وكأنه منسّق مسبقاً، على طريقة: "لقد ردينا". ومن هنا يتكون لديّ انطباع بأن الاستراتيجيين العسكريين في هذه الدول باتوا يدركون الآن: ما لم يحدث اختراق كبير في التكنولوجيا العسكرية، أو ما لم تستخدم إسرائيل أسلحة نووية ضد إيران، فإن فرض الهيمنة بالقوة أمر غير ممكن. من منظور سياسي، ترتكب إسرائيل إبادة جماعية بحق الفلسطينيين. وهذا عمل غير قانوني. إنها ترتكب جريمة إبادة جماعية، في حين تزوّدها الولايات المتحدة بالأسلحة. وكذلك تفعل أوروبا، بما في ذلك ألمانيا. إنهم يشاركون في عمل إجرامي. هجوم إسرائيل على إيران يشكل انتهاكاً للمادة الثانية، الفقرة الرابعة من ميثاق الأمم المتحدة. وهي نفس المادة التي أثارت استياء [رئيسة المفوضية الأوروبية] أورسولا فون دير لاين عندما غزت روسيا أوكرانيا. ومع ذلك، لا يدين الأوروبيون إسرائيل. إن الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين وهجومها على إيران يقعان على نفس المستوى من الخرق للقانون الدولي. فإيران لم تهاجم إسرائيل، ولم يكن هناك أي مظهر من مظاهر الدفاع عن النفس. ولم يصدر أي قرار عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يجيز لإسرائيل، وفقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، شنّ هجومٍ على إيران. لم تكن هناك حتى استفزازات إيرانية، ولا حتى تهديدات لفظية تجاه إسرائيل. في الواقع، صرّح مسؤولون إسرائيليون رفيعو المستوى علناً بأسباب شنّهم الهجوم على إيران، قائلين إن إيران في الوقت الحالي ضعيفة، ويجب استغلال الوضع. وقالوا على الأرجح إن إيران ستُعلن خلال شهرين أو ثلاثة أنها تمتلك قنبلة نووية، وحينها سيكون من المستحيل تحقيق تغيير للنظام في طهران. س: هل الدافع وراء هذه التدخلات الحربية هو إثارة الفوضى في المنطقة ومن ثم الاستفادة منها؟
أنا لا أعتقد أنهم يريدون الفوضى من أجل الفوضى. بل يسعون بالأحرى إلى ما يُسمى "إعادة ترتيب الشرق الأدنى والأوسط". تعتقد إسرائيل أنها قادرة على القضاء على حركة حماس في الأراضي الفلسطينية. إنهم يريدون تهجير الفلسطينيين من أجزاء واسعة من قطاع غزة، خلق "إسرائيل آمنة"، استغلال الوضع القائم، ودفع الفلسطينيين أيضاً إلى الخروج من الضفة الغربية أو على الأقل تحطيم معنوياتهم حتى لا يعودوا قادرين على مقاومة المستوطنين. إسرائيل لم تعد مهتمة بحل الدولتين ـ إذا كانت مهتمة به في أي وقت من الأساس، وهو أمر مشكوك فيه. ما تفضّله هو حل "الدول الثلاث". وهذا الحل يعني: يُرسَل جميع الفلسطينيين إلى لبنان، الأردن، ومصر ـ أي إلى الدول الثلاث المجاورة للأراضي الفلسطينية. الفكرة هي أن يختفوا من الأرض. هذا في حقيقته يمثل سياسة للإبادةالجماعية: يمكن للمرء أن يُبيد شعباً جسدياً، أي يرتكب جريمة إبادة جماعية، أو يمكنه تدميرهم اجتماعياً من خلال طردهم إلى بلدان أخرى ـ وهذا أيضاً يُعد انتهاكاً للقانون الدولي، لأننا نتحدث هنا عن أرض محتلة، يجب أن تحظى بالحماية بموجب قرارات الأمم المتحدة. نقل السكان من منطقة حرب إلى خارجها يُعد جريمة بموجب القانون الدولي. أما بالنسبة لإيران، فقد كان السعي لتغيير النظام هناك قائماً منذ عام 1980. فالغرب ودول الخليج العربي، خصوصاً السعودية، هم من دفعوا صدام حسين لغزو إيران في عام 1980 وبدء حرب استمرت حتى عام 1988. وقد تلقى صدام دعماً مستمراً طوال تلك الفترة. بعد عام 1988، بدأت تصدر تصريحات متقطعة من مسؤولين أمريكيين كبار تُهدد بمهاجمة إيران. وبعد أحداث 11 سبتمبر، ارتكبت الولايات المتحدة خطأً استراتيجياً جسيماً حين أطاحت بحكومة طالبان في أفغانستان عام 2001، ثم بصدام حسين عام 2003. وهما خصمان تاريخيان لإيران ـ طالبان السنية المتشددة وصدام حسين ـ تمت إزالتهما على يد من؟ على يد الأمريكيين، وهو ما منح إيران نفوذاً هائلاً في المنطقة. من هناك، بدأت إيران تمد نفوذها وتؤثر في مجريات الأحداث في العالم العربي. ثم في عام 2006، منحت الولايات المتحدة إسرائيل الضوء الأخضر لتدمير لبنان وإضعاف حزب الله ـ مرة أخرى في خرق واضح لميثاق الأمم المتحدة. في خضم كل هذه الأحداث، تم اختراع مزاعم مفاجئة بأن إيران تسعى لتطوير سلاح نووي. وقد بدأت الولايات المتحدة لاحقاً محادثات غير قانونية مع إيران حول برنامجها النووي، رغم أن إيران عضو في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT). إيران تخضع بالفعل لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA)، وتسمح بعمليات التفتيش، وتُجري محادثات مع ممثلي الأمم المتحدة. لذلك لم يكن هناك أي مبرر لإطلاق مسار تفاوضي غير مشروع يجمع الولايات المتحدة، والأوروبيين، والإيرانيين، والأمم المتحدة خارج إطار الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومعاهدة عدم الانتشار، من أجل مناقشة برنامج نووي متخيّل لا دليل فعلي عليه. كل هذا مجرد مهزلة. ففي حين تتعرض إيران لضغوط متواصلة، قامت الهند ـ التي ليست عضواً في معاهدة عدم الانتشار ولا تخضع لتفتيش الوكالة الدولية ـ بتجربة سلاح نووي مرتين. وتحصل الهند مع ذلك على استثناء رسمي من الولايات المتحدة يتيح لها استيراد مواد انشطارية من مجموعة موردي المواد النووية (NSG). أما إسرائيل، فهي أيضاً تمتلك أسلحة نووية، ليست عضواً في المعاهدة، وتحصل رغم ذلك على مواد من نفس المجموعة. الهجوم على إيران، إذن، ليس بالأمر الجديد. بل هو جزء من مسار طويل يهدف إلى إسقاط هذه الحكومة. الهدف هو "تطهير" الشرق الأوسط: إعادة نجل الشاه إلى الحكم في طهران، إجبار الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم، وإعادة ترتيب المنطقة وفقاً لمصالح القوى الغربية والإقليمية المتحالفة معها. س: كيف تقيمون، بعد 500 عام من الاستعمار الغربي، والهيمنة النيوليبرالية أو الاستعمار الجديد في دول الجنوب، وبرامج التكييف الهيكلي التي خنقت الدول الفقيرة خلال العقود الماضية، وتعامل الغرب مع الدول النامية؟
الموقف السائد هو أن الغرب لا يدين لهؤلاء الدول بشئ: "استمعوا، لقد إستعمرناكم، ونحن نأسف لذلك. لكننا بنينا لكم سككاً حديدية وجسوراً، وعلّمناكم لغاتنا، وحصلتم على العقل والعلم." هذا الموقف يُدرَّس حتى في المدارس. في ألمانيا على سبيل المثال، لا يتعلم الأطفال شيئاً عن الإبادة الجماعية لهيريرو وناما. في حرب البوير، أقام البريطانيون معسكرات اعتقال. وقد استلهم النازيون فكرة معسكراتهم، مثل تريبلينكا وبوخنفالد، من هذه المعسكرات. وبعد الحرب والمحرقة، بنى البريطانيون معسكرات اعتقال في كينيا لاحتجاز مقاتلي انتفاضة ماو- ماو. إذن، الأمر ليس كما لو أنهم "تعلموا درسهم" و"لن ينسوه أبداً". هل يُعلَّم هذا للأطفال في بريطانيا؟ لا، فهم لا زالوا يتعلمون أن تشرشل بطل. قال ماكرون للأفارقة إن عليهم أن يكونوا مُمتنينَ لهؤلاء. هذا أمر مثير للغضب. الحد الأدنى من الأدب يجب أن يمنع قائد عالمي من أن يطالب من إستعمرهم أن يكونوا مُمتنينَ له. كيف يمكن لأحد أن يقول مثل هذا؟ هذه وقاحة. في السياسة، لا أرى أي تغيير أيضاً. لننظر إلى صندوق النقد الدولي (IMF). الصندوق مؤسسة ديمقراطية لأنه يتكوّن من دول أعضاء. لذلك، يجب أن يكون لكل دولة عضو الحق، وكعضو في المنظمة أن تقدم مقترحات حول ما تريد وما لا تريد القيام به. لكن في صندوق النقد الدولي هناك حقوق تصويت غير متساوية. الحكومات الغربية تتحكم في أكبر عدد من حقوق التصويت، ويتم التصويت بناءاً على حجم الأموال المدفوعة. هذا غير عادل ويجب أن يُدعم بالديمقراطية. الدول الأغنى هي من يُحدد أيضاً كيفية تواصل موظفي صندوق النقد الدولي، الذين من المفترض أن يخدموا الدول الأعضاء، مع هذه الدول. فهم يذهبون مثلاً إلى السنغال ويقولون: يجب أن تفعلوا هذا وإلا ستحصلون على تقرير سلبي منا أو لن تحصلوا على تمويل بعد الآن. في الأساس، يتصرفون كأنهم المافيا. س: هل ترى تغيّرات في موازين القوى، كما حدث عندما تم طرد فرنسا والولايات المتحدة من النيجر ودول أفريقية أخرى؟ وفي الوقت نفسه، تضغط الصين لدخول دول الجنوب، وبناء البنية التحتية لمبادرة الحزام والطريق، ويستثمر في الدول الفقيرة؟
الأمور تسير ببطء شديد. خذ على سبيل المثال حالة السنغال وسريلانكا، حيث اضطرت حكومتان تقدميتان منتخبتان من الوسط-اليسار للعودة إلى صندوق النقد الدولي. لماذا؟ لأن البدائل لم تتطور بسرعة كافية. على سبيل المثال، أنشأت مجموعة البريكس (BRICS) بنكاً جديداً للتنمية، لكن منح القروض فيه يتم ببطء شديد. كما تم تأسيس ما يُسمى باتفاقية الاحتياطي الطارئ، التي كان من المفترض أن تكون بديلاً لصندوق النقد الدولي، لكنها لم تدخل حيز التنفيذ فعلياً بعد. مبادرة الحزام والطريق مختلفة، فهي توفر تمويلاً للبنية التحتية وتقوم ببنائها، وهذا أمر رائع لأنه يعزز قدرات هذه الدول. هنا يحدث تحول في موازين القوى. لكن عندما يتعلق الأمر بالقروض لمعالجة المشاكل المالية، مثل ميزان المدفوعات أو احتياطيات العملات الأجنبية، يبقى صندوق النقد الدولي هو الفاعل الوحيد أو الأهم. ومن المثير للاهتمام أن البنوك الصينية تفضل عدم منح قروض لمعالجة أزمات الديون، بل تركز على تمويل مشاريع البنية التحتية. هي لا ترغب في منح قروض للدول لمواجهة أزماتها الطويلة الأمد في الدين، مما يجعل الحكومات تضطر مجدداً للعودة إلى صندوق النقد الدولي. إذن، دول الجنوب تشهد تحولات، لكنها بطيئة ولا تحدث في المجالات التي تتزايد فيها مديونياتها. في الوقت الحالي، لا تملك شعوب الجنوب العالمي القوة لتقول للدائنين: "عذراً، أنتم تحملتم مخاطر عندما استثمرتم في بلادنا، وعليكم شطب الديون." لكنك على حق، هناك تحول جارٍ، لكن علينا ألا نبالغ في تقييم التطورات الحالية. س: ينمو الاقتصاد الصيني أسرع بكثير من الولايات المتحدة وأوروبا. إذا نظرنا إلى ما يُسمى تعادل القوة الشرائية، فقد تجاوزت الصين بالفعل الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، هناك مبادرة الحزام والطريق التي تبنيها بكين، من خلال استثماراتها في أكثر من 150 دولة، لتأسيس بنية تحتية عالمية للتجارة والنقل. فهل يمكننا القول إذن أننا نعيش بالفعل في عالم متعدد الأقطاب ـ على الأقل من الناحية الاقتصادية؟
تعبيرك "على الأقل من الناحية الاقتصادية" يحمل بعض التضليل، لأن "على الأقل اقتصادياً" لا يحدث شئ فعلياً. صحيح أولاً أن الصين تتصدر بالتأكيد من حيث النمو الاقتصادي، لكن العديد من الدول الآسيوية مثل فيتنام، إندونيسيا، بنغلاديش، والهند تنمو جميعها بسرعة أكبر بكثير. وهذا أمر مثير للإعجاب حقاً. ومع ذلك، يجب أن نعترف أيضاً بأن هذه معدلات نمو، وهذه الدول تنطلق من مستويات متدنية جداً من حيث التنمية والحرمان. لذلك، من حيث مستوى المعيشة المطلق، لا تزال هذه الدول بعيدة جداً عن الدول الأغنى. معدلات النمو بلا شك مثيرة للإعجاب. صحيح أيضاً أن الصين تتاجر مع معظم الدول أكثر بكثير ولديها فوائض أكبر تمكنها من الاستثمار في بناء البنية التحتية والصناعة في هذه الدول. فعلاً، الصين ابتكرت نموذج تنموي جديد، لم يبتكره صندوق النقد الدولي ولا الدائنون الغربيون، الذين قضوا حياتهم يمنحون قروضاً لتسديد الديون وليس للبنية التحتية والتصنيع. الصين غيرت قواعد اللعبة، وهذا صحيح تماماً. لكننا لا نعيش بعد في عالم تغيرت فيه موازين القوى. الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة ما زالت تسيطر على أنظمة الأسلحة. حوالي 80% من الإنفاق العسكري العالمي يتم سنوياً من قبل دول الناتو بلس [أي أعضاء الناتو بالإضافة إلى أستراليا، اليابان، نيوزيلندا، كوريا الجنوبية وإسرائيل]. قوتهم العسكرية استثنائية. إضافة لذلك، نحن معرضون لفيض هائل من الإعلام الغربي الذي يهيمن على العالم. قد توجد وسائل إعلام في دول أخرى، مثل الهند وغيرها، لكن عندما يتعلق الأمر بالأخبار العالمية، يتابعون CNN وReuters وAssociated Press وAgence France-Presse. هم من يحددون الأحداث. من المدهش كيف توصل الجميع بسرعة إلى إجماع على أن ما يحدث في شينجيانغ هو إبادة جماعية، مع استنكار واسع لذلك. ولكن ما يحدث في فلسطين لا يمكن أن يكون إبادة جماعية، لا بد أن يكون شيئاً آخر، لأن إسرائيل تعرضت لهجوم. وبسبب عوامل مثل اللغة وعدم القدرة على مكافحة ما يسمى بالأخبار المضللة، لا تستطيع وسائل الإعلام الصينية أو الروسية أن تفرض نفسها عالمياً. على يوتيوب، تكتب الشركات الغربية التي تسيطر على الأجهزة: "هذه وسائل إعلام روسية حكومية، هذا تضليل". من المستحيل السيطرة على عالم النقاشات والأفكار الذي يهيمن عليه الغرب. التعددية القطبية؟ ربما في المستقبل. لكن في الوقت الحالي، أعتقد أننا يجب أن نكون واقعيين وموضوعيين، لأن هذا الأمر لم يحدث بعد. س: أنتم تديرون معهد التريكونتيننتال. في ملف جديد وصفتم فيه الناتو بأنها "أخطر منظمة في العالم". هذا تعبير قوي جداً.
هذا ليس مبالغة. فالناتو هو التحالف العسكري الذي مزق يوغوسلافيا، والذي غزا أفغانستان بالتعاون مع الولايات المتحدة، مما أدى إلى تدمير البلاد. الناتو هو المنظمة التي مزقت ليبيا عملياً ورفضت أي نوع من التحقيقات. أما بالنسبة لجرائم الحرب في ليبيا، فقد نص القرار 1973 لمجلس الأمن الدولي لعام 2011 فقط على فرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا. لكن الناتو انتهك هذا القرار على الفور وبدأ بقصف الجهاز الحكومي الليبي، مما أدى إلى تدمير الدولة الليبية، وليبيا بشكل عام. بناء الدولة يستغرق مئات السنين، لكن الناتو دمرها في غضون أيام قليلة. لا يوجد تحالف عسكري آخر دمّر هذا العدد من الدول في فترة ما بعد الحرب. بيتر أولسون، محامي الناتو، أصدر بعد الهجمات على ليبيا بياناً ينفي فيه أساساً إمكانية محاسبة الناتو. حيث أكد أن الناتو لا يمكنها ارتكاب جرائم حرب. لماذا؟ لأن الناتو ليست منظمة غير متحضرة، حسب الرسالة، بل منظمة أوروبية. أنت تصف الأمر بدقة: الناتو ليس أوروبياً بالمعنى الحقيقي، بل هو أداة تهيمن عليها الولايات المتحدة. كما تقول، مارك روتي، الأمين العام الحالي للناتو، ذهب إلى واشنطن وجلس بجانب ترامب، مؤكداً أن قمة الناتو ستكون استعراضاً عسكرياً لقوة الولايات المتحدة وليس للناتو أو للحلفاء الأوروبيين. الناتو بمثابة حصان طروادة لهيمنة أمريكا، حيث تُستخدم الدول الأوروبية والحلفاء المقربين في آسيا مثل كوريا الجنوبية واليابان كأدوات لاحتواء تهديدات تُعتبر في الأساس تهديدات للولايات المتحدة وليس لأوروبا. الصين، على سبيل المثال، تُعتبر تهديداً اقتصادياً وليس عسكرياً. هي مسؤولة عن حوالي 4% فقط من الإنفاق العسكري العالمي، وتهدف إلى تطوير تقنيات متقدمة، وهذا يشكل تحدياً للشركات متعددة الجنسيات الأمريكية التي تستثمر فيها النخب الأوروبية، مثل المستثمرين الألمان الذين يملكون أسهماً أكبر في شركات مثل بلاك روك ووول ستريت مقارنة بمؤشر DAX الألماني. لذلك، تُجبر الدول الأوروبية على الانخراط في صراعات دولية باسم الولايات المتحدة ومصالحها الاقتصادية، لكنها ليست صراعات أوروبية في جوهرها. س: ما هي أهمية مجموعة بريكس بلس (BRICS-Plus)، التي تضم الدول الصاعدة مثل البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، والتي تجذب إليها المزيد من الدول الراغبة في الانضمام؟ هل نحن نشهد أمام أعيننا ولادة نظام عالمي جديد لا يقوم على الهيمنة الأحادية لواشنطن، بينما نعيش في العالم فوضى وعنفاً وسلطوية سياسية؟
هذا سؤال رائع. ما يُميز الـ« بريكس بلس » في مجموعة بريكس هو أن دول بريكس تقريباً جمعت معها جميع كبار مُنتجي النفط باستثناء الولايات المتحدة. فإذا أضفنا روسيا، السعودية، إيران، وغيرها، نحصل على أهم منتجي النفط والغاز، بما في ذلك مصر. هذه تطورات مهمة جداً تظهر أن الأمر في الأساس يتعلق بمنظمة أوبك- بلس داخل عملية بريكس. وعندما يبدأون بالتفكير في أنظمة عملة بديلة، قد يفكرون باتجاه عملة جديدة تعتمد في جوهرها على مورد النفط. بالطبع هذا ليس أمراً مفرحاً للبيئيين، لكن الحقيقة المحزنة هي أننا في حضارتنا لن نتمكن من الانتقال سريعاً من النفط إلى الطاقات المُتجددة. ربما يمكن أن تعتمد العملة في البداية على خام النفط. بمعنى آخر، سيصبح النفط هو الأساس الذي ترتكز عليه العملة، مثلما كان الذهب في السابق. أما في الفترة ما بين 1971 وحتى اليوم، فكانت العملة ترتكز على الأصول الأمريكية. فالعملة أساساً يجب أن تكون مغطاة بأصل ذي قيمة. إذا كان معي كمية من أوراق العملة، يجب أن أتمكن من استخدامها لشراء شئ ما. إذا لم يرغب أحد في قبول الدولار، يجب أن أستطيع شراء أرض أو شركة أو مصنع في الولايات المتحدة. يجب أن يكون هناك أصل يضمن أن مالي لن يتحول إلى مجرد ورق عديم القيمة. حالياً، لا توجد دولة من دول بريكس مستعدة للتخلي عن أصولها لتثبيت العملة. الصين تفرض ضوابط على رؤوس الأموال، ولا تسمح للأجانب بشراء أراضيها. لا أعتقد أنهم سيسمحون بذلك أبداً. لذلك لن يكون هناك بلد من بريكس يقدم أصوله كضمان للعملة. هذا لن يحدث ببساطة. س: ساعة القيامة الصادرة عن مجلس العلماء الذريين تم ضبطها هذا العام على 89 ثانية قبل منتصف الليل. لم نكن يوماً أقرب إلى نهاية البشرية بهذا الشكل. كيف تقيّمون مخاطر الأسلحة النووية، وماذا يجب أن يُفعل حيال ذلك؟
أنا أعتبر ساعة القيامة القديمة غير مناسبة للواقع الحالي، وكان يجب أن تكون أقرب إلى منتصف الليل بالفعل. الهجوم الذي شنته الولايات المتحدة وإسرائيل على إيران أرسل رسالة جدية جداً إلى العديد من الدول حول العالم، وهي رسالة أُرسلت منذ أكثر من عقد من الزمن، مفادها: إذا لم تمتلكوا أسلحة نووية، فسندمر دولتكم. تم إرسال هذا الإشارة عندما غزت دول الناتو ليبيا وهاجمتها ودمّرتها. لماذا؟ لأن ليبيا كانت قد بدأت برنامجاً للأسلحة النووية سابقاً. وقد تخلت ليبيا عن هذا البرنامج طواعية من أجل الانضمام إلى النظام العالمي. بعد ذلك اضطرّت ليبيا لدفع ثمن باهظ جدًا: تم تدمير الدولة. أما كوريا الشمالية فتمتلك أسلحة نووية، ولا يجرؤ أحد على مهاجمة البلاد. أعتقد أن الإيرانيين سيكون لديهم قنبلة نووية قبل نهاية هذا العام وسَيعلنون ذلك رسمياً. سيبدؤون بتخصيب اليورانيوم لبناء قنبلة، فلماذا لا؟ عليهم أن يحتموا بأنفسهم. في الواقع، لم تكن الهجمات على إيران تهدف إلى منع انتشار الأسلحة النووية، بل أدت إلى انتشارها. أستطيع أن أضمن لكم أن المجلس العسكري في ميانمار قد اتصل بكوريا الشمالية وقال لهم: "أرسلوا لنا قنبلة، أرسلوا لنا صواريخ." ميانمار، السعودية، تركيا، إيران ـ كل هذه الدول ستتسلح نووياً. عندها ستتقدم عقارب ساعة القيامة لتصل إلى 59 ثانية قبل منتصف الليل. س: في كثير من دول العالم، تبدو الحركات الاجتماعية واليسار عموماً في موقف ضعيف. ولكن من جهة أخرى، شهدنا خلال العقود الماضية احتجاجات وحملات قوية، مثل حركة «احتلوا وول ستريت»، والربيع العربي، وحملات المناخ، وكذلك المقاومة السياسية ضد القمع. ومع ذلك، تبدو الأزمة تتصاعد والعالم يقترب من الهاوية. كيف ترى هذا التناقض؟ ومن أين تستمد «تفاؤل الإرادة» كما قال غرامشي؟
هذه صورة مهمة لوضع الطبقة العاملة اليوم، خاصة في ظل ما يُسمى بـ«الأوبرية» حيث تشتت العمل وتفككت الروابط التقليدية بين العمال. ساعات طويلة، أجور منخفضة، وعدم استقرار، مع غياب التنظيم النقابي الذي كان يشكل القلب النابض للحركات اليسارية تاريخياً. لكن رغم ضعف التنظيم التقليدي، لا يعني هذا غياب إمكانية التعبئة الشعبية. الاحتجاجات الكبرى مثل التي رأيناها ضد القمع أو من أجل فلسطين وغيرها ليست بالضرورة نتاج تنظيمات نقابية أو يسارية قوية. وهذه التعبئة الجماهيرية في بعض الأحيان تخدم اليمين أكثر مما تخدم اليسار، لأن اليمين لا يحتاج لبناء تنظيمات معقدة لينجح في تحريك الجماهير. في المقابل، هناك علامات أمل، مثل فوز الزعيم الديمقراطي الاشتراكي الشاب زهران ممداني في نيويورك، وهو مثال على قدرة الوجوه الجديدة والديناميكية على إحداث خرق سياسي، وهذا ممكن أن يحدث في أماكن أخرى، حتى في أوروبا وألمانيا. الأهم هو قصص الناس العاديين، كيف يمكن لحركة صغيرة في حي ما أن تنمو لتصبح قوة تغيير حقيقية. مثل حركة الفلاحين في البرازيل التي تضم ملايين الأعضاء، أو قصة الفتاة التي تحولت من قراءة مقالة إلى تأسيس مجموعة قراءة ثم تنظيم سياسي. هذه القصص تُلهم وتعطي دافع للأجيال القادمة للعمل والنضال. لذلك، رغم كل التحديات، لا يزال هناك أمل وفرص للتغيير من خلال التنظيم والاحتجاج والمبادرات الشعبية.
فيجاي براشاد*: هو مؤرخ ومحرر وصحفي. وهو مؤلف وكبير المراسلين في (Globetrotter). بالإضافة إلى ذلك، يشغل منصب محرر في دار نشر (LeftWord Books) ومدير معهد التريكونتيننتال للأبحاث الاجتماعية (Tricontinental: Institute for Social Research).
#حازم_كويي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-رئيسة المكسيك تُظهر كيف يمكن التصدي لترامب-
-
الهجوم الأمريكي على إيران: أصبح الآن اندلاع حرب نووية أكثر ا
...
-
عصر التراجع
-
-في الرأسمالية لا يوجد تنافس حرـ النيوليبرالية ليست نظام أسو
...
-
الشرق الأوسط يشهد تصعيدًا دراماتيكيًا في الأوضاع.
-
هل نعيش في زمن الفاشية المتأخرة؟
-
الرأسمالية تتغير – لكنها لا تتحول إلى -إقطاعية جديدة-
-
العولمة انتهت، لكن النيوليبرالية ما زالت حيّة
-
عن سبل الخروج من أزمة المناخ
-
الحزب الشيوعي النمساوي.. حزب لا مثيل له؟
-
كيف يُعرض ترامب الدولار للخطر؟
-
أميركا أولاً،مهما كان الثمن،إلى أين؟
-
إلى أين يتجه اليسار الجديد؟
-
ترامب وأزمة المناخ
-
مقارنات الحقبة النازية وإستمراريتها
-
أميركا تستعد لتأثيرات ترامب في فترة رئاسته الثانية
-
دكتاتورية الليبراليون الجُدد
-
الرجعيات العالمية والشبكات اليمينية في أنحاء العالم
-
كيف سيتصدى حزب اليسار الألماني أمام صعود اليمين المتطرف
-
البدايات الأولى للتيارات الاشتراكية اليابانية
المزيد.....
-
تحليل: هل تؤثر كلمات ترامب على تصرفات بوتين وما يقوم به في أ
...
-
فساتين تُجسّد الملكية في عرض إيلي صعب الباريسي
-
سيُمنعون من المغادرة.. وزير دفاع إسرائيل يطلب تجهيز -مدينة إ
...
-
صور أقمار صناعية تكشف: الهجوم الإيران على قاعدة العديد بقطر
...
-
من السجن إلى قيادة فصيل مسلح مناهض لحركة حماس في غزة.. ماذا
...
-
-حرمان الأطفال من الجنسية ضرر لا يُصلح-: قاضٍ فدرالي يجمّد ق
...
-
ما الذي فعلته -غارة إسرائيلية- بـ 8 أطفال في دير البلح؟
-
تدابير أوروبية للضغط على إسرائيل حال فشل اتفاق المساعدات
-
البوسنة و الهرسك: ثلاثون عاماً مرت.. مجزرة سريبرينيتسا لا تز
...
-
ما صفات الإله مردوخ؟ في العراق، فك لغز نشيد بابل القديم بفضل
...
المزيد.....
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
-
ذكريات تلاحقني
/ عبدالاله السباهي
-
مغامرات منهاوزن
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
صندوق الأبنوس
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|