أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - من الإيمان إلى العدم: سردية الغياب في الفلسفة الغربية الحديثة














المزيد.....

من الإيمان إلى العدم: سردية الغياب في الفلسفة الغربية الحديثة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8328 - 2025 / 4 / 30 - 11:32
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
لقد مثّل انبثاق الفلسفات المادية في أوروبا تحوّلًا جذريًا في بنية التفكير الغربي، حيث اتخذ الإنسان موقعًا مركزيًا في الكون، متحررًا من سلطة الميتافيزيقا والدين، ومنفتحًا على عالم يُدار بقوانين المادة والحس والتجربة. ومع صعود العقلانية الديكارتية، والفيزيائية النيوتونية، والنفعية البنتامية، والفلسفات الوضعية التي جاء بها أوغست كونت، أخذت المادة تُفسّر كل شيء، وصار الإنسان يُقاس بما يُنتج، ويُقيَّم وفقًا لمنفعة حسية قابلة للقياس والتكميم. هذه الانزياحات الفكرية لم تكن محض تحولات معرفية، بل حملت معها قطيعة حادة مع التصورات الأخلاقية والدينية التي شكّلت لقرون البنية العميقة للوعي الأوروبي.

لقد ساهمت الفلسفات المادية، وعلى رأسها الماركسية والداروينية الاجتماعية، في اختزال الإنسان إلى كائن اقتصادي أو بيولوجي، تُحدده طبقته أو تحكمه آليات الاصطفاء الطبيعي والبقاء للأقوى. ومع أن بعض هذه الفلسفات نشأت بدافع من العدالة الاجتماعية أو التفسير العلمي للعالم، فإنها ـ من حيث لا تحتسب ـ زعزعت الأسس الرمزية التي تقوم عليها الأخلاق والدين، عبر نفيها لأي غاية عُليا للوجود، وتجريدها الإنسان من أبعاده الروحية. ففي عالم بلا غائية، بلا معنى مسبق، تصبح الأخلاق نسبية، والدين مجرّد نتاج تاريخي اجتماعي، لا حقيقة له في ذاته.

إن التحوّل من الإيمان إلى العلمنة، ومن اللاهوت إلى الوضعية، لم يكن مجرد خيار فلسفي، بل مسارًا طويلًا من التصعيد ضد السلطة الكنسية، التي استبدّت بالمعرفة والضمير لقرون. غير أن المأساة لم تكمن فقط في تحطيم سلطة الكنيسة، بل في تحطيم الإيمان ذاته، بما هو مصدر للمعنى والرجاء والضابط الأخلاقي. وهنا تبرز مفارقة الحداثة الغربية: لقد حررت الإنسان من الخوف، لكنها جردته من السكينة؛ رفعت من شأن عقله، لكنها أضعفت صلته بالرحمة والسمو؛ وفّرت له أدوات السيطرة على العالم، لكنها فقدت البوصلة الأخلاقية التي تمنع الانحدار نحو العدمية.

في هذا السياق، يُعد فريدريك نيتشه من أبرز من التقطوا هذا التحول، بإعلانه "موت الإله"، لا كخبر لاهوتي، بل كحقيقة ثقافية وجودية. فبموت الإله، سقطت القيم العليا، وتحرر الإنسان من كل مرجعية تتجاوزه، لكنه ـ في المقابل ـ فقد المعنى واليقين، ووقع في العدمية التي لم يعد لها علاج سوى "إرادة القوة". وقد كانت هذه الإرادة، كما رأينا لاحقًا، من بين العوامل التي مهّدت لصعود الأنظمة التوتاليتارية في القرن العشرين، حيث استُبدلت القيم الدينية بأيديولوجيات علمانية شمولية، ألغت الحرية باسم العقل، وأبادت الملايين باسم التقدم.

كما أن الفلسفات المادية الحديثة، وعلى رأسها البنيوية وما بعد البنيوية، قد أسهمت بدورها في زعزعة المفاهيم الأخلاقية الثابتة، من خلال تفكيكها لمقولات الهوية والذات والمعنى. ففي ظل خطاب مائع يُشكّك في كل يقين، ويفكك كل سلطة، لم يعد للدين موقع ثابت، ولا للأخلاق معنى مطلق. ومع انتشار النزعة الاستهلاكية والنفعية في المجتمعات الغربية، تعمّق هذا التراجع، وتحوّل الإنسان إلى مستهلك في سوق لا يعرف إلا القيمة المادية.

وهكذا، فإن العلاقة بين الفلسفات المادية وتراجع الدين والأخلاق ليست عرضية أو ظرفية، بل علاقة بنيوية، تشكّلت عبر قرون من النقد الفلسفي والتفكيك الرمزي، حتى وصلت المجتمعات الأوروبية إلى وضع لم تعد فيه الأخلاق تُستمد من الواجب أو الإيمان، بل من مصلحة مؤقتة أو قانون وضعي. وهذا ما يطرح تساؤلات وجودية عميقة: هل يمكن لمجتمع أن يعيش بلا غاية تتجاوز المادة؟ وهل تستطيع الأخلاق أن تستمر في ظل طرد المقدس من المجال العام؟ إنها أسئلة ما تزال الحداثة، بل وما بعد الحداثة، عاجزة عن تقديم إجابات مقنعة لها حتى الآن.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البيولوجيا السياسية: آليات السلطة على الجسد والحياة في الدول ...
- تقاطع السلطة والمعرفة والسرد في الواقع السياسي العربي الراهن
- انفجار المعلومات وتحولات المعرفة: أزمة الإدراك في زمن التدفق ...
- الزمان والمكان في فلسفة كانط: أطر المعرفة وحدود الإدراك
- أنثروبولوجيا العلمانية: تفكيك المقدس وإعادة تشكيل الذات في ز ...
- الاقتصاد الرقمي في العالم العربي: الواقع، التحديات، والآفاق ...
- ترامب والتجارة العالمية : السياسات الخاطئة في مواجهة الصين و ...
- استثمار في الخراب : كيف تبتلع الحروب مقومات التنمية في المجت ...
- تفكيك المقدس: ديكارت في مواجهة الميتافيزيقا
- نيتشه و مابعد الحداثة: من موت الإله إلى تشظي المعنى
- العلمانية والإسلاموفوبيا: جدلية التنوير والإقصاء
- الذكاء الاصطناعي في مواجهة تغير المناخ: أمل تقني في معركة مص ...
- عصر الخوازميات الناطقة: الثقافة الرقمية وتحولات الإعلام
- مستقبل القواعد العسكرية الأجنبية في الوطن العربي في ظل التحو ...
- الحرية بين العقل والإيمان: قراءة مقارنة في الفلسفة الإسلامية ...
- المقاومة التنظيمية وإعادة تشكيل الثقافة المؤسسية: تحديات وسب ...
- على حافة العدم: النقد الفلسفي للإلحاد الوجودي ومعضلة المعنى
- الأمن الأوروبي في مفترق طرق: تحديات التحول الاستراتيجي في ظل ...
- الأمن المائي في العالم العربي: بين التحديات الجيوسياسية والف ...
- الوعي تحت المقص: مقارنة نقدية لتحولات الإعلام والدراما المصر ...


المزيد.....




- -إفريقيا قارة المستقبل- – إثيوبيا
- المبادرة المصرية تطالب وزارة الداخلية بتمكين محمد عادل من حق ...
- طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه ...
- مقاتلات هندية تنسحب من أجواء كشمير بعد تحرك باكستاني فوري
- -فضيحة تجسس- جديدة... برلين تتهم وبكين تنفي!
- الاتحاد الإفريقي يرفع العقوبات عن الغابون بعد انتهاء المرحلة ...
- شويغو: إقامة دولة فلسطينية هو السبيل الوحيد لإحلال سلام دائم ...
- بيسكوف يعلق على إمكانية الاتصال المباشر بين بوتين وترامب
- دبلوماسي أمريكي يرجح إعلان واشنطن عن اتفاق المعادن مع أوكران ...
- -رويترز-: الأردن نجح في الحفاظ على المساعدات الأمريكية


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - من الإيمان إلى العدم: سردية الغياب في الفلسفة الغربية الحديثة