|
الخريطة الميتافيزيقية للوجود.
منال حاميش
مهندسة مدني.. باحثة بالباراسيكولوجي
(Manal Hamesh)
الحوار المتمدن-العدد: 8328 - 2025 / 4 / 30 - 09:00
المحور:
قضايا ثقافية
الخريطة الميتافيزيقية للوجود: من التجلي إلى العودة الواعية
في هذا المقال، سنرسم خريطة شاملة وعميقة لمنظومة الوجود والوعي، انطلاقًا من تأملات ميتافيزيقية وروحانية، تستلهم التصوف، والفلسفة، ورؤية الوعي الكوني، لتوضح كيف يبدأ كل شيء من "الواحد"، ولماذا نُختبر، وإلى أين نعود.
---
1. الأصل: الواحد اللامرئي
"كان الله ولا شيء معه..."، هكذا تبدأ الحكاية الكونية. في البدء لم يكن هناك زمان، ولا مكان، ولا كثرة، بل وجود مطلق، لا يُدرَك بالعقل ولا بالحواس. هذا الوجود – الذي نسميه الله، أو المطلق، أو المصدر – لم يكن ناقصًا أو محتاجًا، بل كان كنزًا مخفيًا، أراد أن يُعرف. ولم تكن هذه الإرادة نقصًا، بل فيضًا من المحبة، من رغبة المطلق في أن يرى نفسه، أن يتجلّى في مرايا لا حصر لها.
---
2. الفيض الأول: إشراق النور
بإرادة هذا الوجود المطلق، خرج الفيض الأول: نور، طاقة، إشراق غير مخلوق بالمعنى المادي. سماه الصوفية "الأنفاس الرحمانية"، أو "نور محمد"، وسماه بعض الفلاسفة "العقل الأول". في هذا الفيض ظهرت البذور الأولى للوعي… وعي لم يأخذ شكلاً بعد، لكنه مستعد أن يتجلّى. هنا يبدأ نسيج الزمن الخفيف، والوجود الطيفي، حيث النور يُنبت صورًا عليا من الإدراك والكينونة.
---
3. مرآة الكثرة: تجلي الأسماء والصفات
الفيض لم يتوقف، بل تجلى في كثرة: الرحمة، الجمال، القوة، العدل، الرفق، الكبرياء، وغيرها من الأسماء الإلهية. ولأن الصفات لا تظهر إلا في "غير"، فقد تشكّلت الكائنات – من الملائكة إلى الأرواح إلى الصور الكونية – كلٌّ يحمل أثرًا من هذه الصفات. لكن الإنسان وحده خُلق مرآة جامعة، يعكس في داخله كل الأسماء، ويحتمل التناقضات، ويملك القدرة على أن يعرف، ويخطئ، ويتوب، ويحب، ويتجلّى.
---
4. انبثاق الوعي في الكثافة
الوعي الإلهي تدرّج نزولاً في عوالم أكثر كثافة: من عالم الأرواح، إلى الصور، إلى الزمان، إلى المكان، إلى المادة. وهنا دخلت النفس تجربة "النسيان". فلم تعد تتذكّر أنها من نور، بل ظنّت نفسها جسدًا في عالم صلب. لكن هذا النسيان ليس لعنة، بل باب اللعبة الكبرى: أن تتذكّر من جديد، بحرّيتك.
5. الاختيار: تفعيل الإرادة الحرة
في قلب كل كائن وُهب شيئًا عظيمًا لا يُقاس: الاختيار. الإرادة الحرة ليست هدية عابرة، بل هي ختم الألوهية في الإنسان، السرّ الذي جعله خليفة، وجعل من تجربته مركزية في قصة الوجود كلّه.
الله لا يختبرك ليعرف، فهو يعلم السر والعلن، لكنه أراد أن يُطلقك حرًّا، أن تعيش داخل النسيج الكوني ككائن واعٍ، يملك أن يقول: "لا"، ويملك أن يقول: "نعم"، لا كما تفعل الآلة، بل كما يفعل الكائن القادر على الحب، والخوف، والرجاء، والإيمان.
الاختيار هو ما يميّز الإنسان عن الملَك، وعن الحيوان، وعن الجماد. الملَك لا يعصي، والحيوان لا يعقل، أما الإنسان، فوسطٌ بين العالمين: كائن يمشي في المجهول، ويملك أن يصنع الطريق.
والاختبار ليس دائمًا في الصدمة الكبرى أو الموقف العظيم، بل هو أحيانًا في أصغر التفاصيل: في نظرة، في نية، في خفقة قلب، في قرار داخلي لا يراه أحد.
هنا، يصبح الوجود كله مرآة لك، وتصبح كل لحظة أرض اختبار… ليس لله، بل لك أنت، لتعرف من تكون.
---
6. التطور: صقل الوعي
الوعي لا يُمنح دفعة واحدة، بل يتكشّف، كما تتفتح الزهرة، طبقة بعد طبقة، والحياة ليست إلا ورشة نحتٍ كونية، تشكّل فيها التجارب والمحن والمسرّات هذا الكائن العجيب الذي هو "أنت".
الألم ليس دائمًا عقوبة، بل كثيرًا ما يكون أداة ترميم. الضياع ليس نهاية، بل باب بداية. الفشل ليس سقوطًا، بل نقطة مراجعة.
وكل روح تختار نمط تطورها: منهم من يسير بخطى سريعة، يتعلم من الإشارة، ومنهم من لا يتعلّم إلا من الجدار حين يصطدم به.
لكن الجميع، مهما اختلفت مساراتهم، يعودون إلى النور في النهاية. لا أحد يُنسى، لا أحد يُهمل، لا أحد يضيع إلى الأبد.
الكون كله يعمل لصقلك، والمصادفات ليست عبثًا، بل علامات على طريق العودة.
---
7. العودة: استعادة التوحيد بوعي
بعد أن تمر النفس في دروب الكثافة، وتذوق مرارات الانفصال، تبدأ شيئًا فشيئًا في تذكّر الأصل. ليس تذكرًا عقليًا فقط، بل تذكّرًا كليًا: الروح، والنفس، والجسد، تبدأ جميعها في الانسجام من جديد مع "الواحد".
تبدأ ترى الوحدة خلف التعدد، تدرك أن الخير والشر، النور والظلمة، كلها كانت أجزاءً من رقصة واحدة… رقصة العودة.
وحين تكتمل الدائرة، تعود النفس، لكنها واعية، ناضجة، خَبِرت، وتطهّرت.
وهنا تتغير نوعية العلاقة مع الله: لم تعد علاقة خوف فقط، بل علاقة محبة وفهم وتوحد. تصبح الشهادة: "لا إله إلا الله" ليست جملة تُقال، بل حقيقة تُعاش، وتُرى، وتُتنفَّس.
---
8. ما بعد العودة: الخلق الواعي
العودة ليست نهاية، بل بداية جديدة.
فمن يعود إلى النور، لا يعود فارغًا. يعود ممتلئًا، مشعًا، خلاقًا. يبدأ يُشارك في الخلق لا كعبد فقط، بل كمرآة صافية، كـ"آية" على الأرض، كأداة وعي في يد المطلق.
الإنسان الذي بلغ هذا المقام يخلق بالنية، بالحب، بالكلمة، بالاهتزاز. يتحول إلى مركز تناغم، يشعّ حضورًا، ويؤثر في الزمان والمكان، ليس بالسيطرة، بل بالانسجام.
وهنا يصبح الكون كله منصتًا له. كل شيء فيه يتحرك باتساق مع الحكمة العليا. وهذا هو السر الذي تحدّثت عنه الحكماء، والصوفية، والأنبياء: أن الإنسان إذا عرف نفسه، عرف ربه، وإذا عرف ربه، عرف كل شيء.
---
الخاتمة: خارطة العودة، ومفتاحها في يدك
الوجود ليس عبثًا، وأنت لست صدفة في كون ميكانيكي بارد.
أنت مركز رحلة ميتافيزيقية هائلة، بدأت من نور، ومرّت عبر كثافة، وها هي تدعوك أن تعود إلى النور… لكن بوعي.
ليست هذه العودة هروبًا من العالم، بل حضورًا فيه، لا إنكارًا للجسد، بل تطهيرًا له، لا رفضًا للألم، بل فهماً لمعناه.
كل لحظة في حياتك هي مفتاح من مفاتيح الخريطة، وكل قرار، كل نظرة، كل نَفَس… إما يقربك أو يبعدك.
لكن لا تخف: الخريطة محفورة في داخلك، والدرب يشتاق إليك كما تشتاق إليه.
فانهض… وسِر. العالم ينتظر منك أن تعود من جديد، لكن هذه المرة… أنت من يرسم النور.
---
#منال_حاميش (هاشتاغ)
Manal_Hamesh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلم و الروح
-
(أولو) بوابة نحو بعد.خفي
-
فلسفة الزمن و الترددات
-
الظل في عقل نيوتن
-
ازدواجية الزمن
-
ما هو الزمن ؟؟؟
-
ماهي الميتافيزياء،الحية ؟؟
-
عذرا .الارض ليست بيتزا
-
سر ارقام تسلا 3,6,9
-
الرياضيات المقدسة
-
عندما خرجت من المصفوفة
-
تفكيك لعنة الدوغمائية
-
القادم صادم
-
من نحن ؟لماذا جئنا ؟اين سنذهب ؟
-
العدالة الكونية ام ظلم المقادير
-
بين المونادولوجيا و الميتافيزياء،الحية
-
نبضات الوجود الخفية
-
منال حاميش،و الميتافيزياء،الحية
-
التأملات السبعة
-
.ماهو علم القطرة
المزيد.....
-
رئيس جامعة هارفارد يعتذر عن -الإسلاموفوبيا- و-معاداة السامية
...
-
تيم سيباستيان ورنا الصباغ يكتبان: أول 100 يوم من عهد ترامب ا
...
-
محمد بن زايد يستقبل جوزاف عون في أبوظبي.. وهذا ما أكد عليه ا
...
-
السعودية الأولى عربيًا.. هذه الدول صاحبة أعلى إنفاق عسكري في
...
-
-روساتوم-: مناقشة الوجود الأمريكي في محطة زابوروجيه يعود للق
...
-
الكشف عن رسالة كتبتها ضحية جيفري إبستين الشهيرة قبل انتحارها
...
-
نائب أوكراني: نظام كييف فقد السيطرة على جيشه
-
إسرائيل تحترق.. إخلاءات واسعة للسكان واستنفار أمني كبير وسط
...
-
أقارب الجنود الإسرائيليين القتلى يزورون المقبرة العسكرية في
...
-
زاخاروفا: تهديدات الاتحاد الأوروبي لفوتشيتش بشأن زيارته موسك
...
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|