أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - اسحق قومي - مَدَنِيَّةُ الدَّوْلَةِ السُّورِيَّةِ: مِنَ الكَارِثَةِ الوَطَنِيَّةِ إِلَى مَشْرُوعِ إِعَادَةِ البِنَاءِ















المزيد.....



مَدَنِيَّةُ الدَّوْلَةِ السُّورِيَّةِ: مِنَ الكَارِثَةِ الوَطَنِيَّةِ إِلَى مَشْرُوعِ إِعَادَةِ البِنَاءِ


اسحق قومي
شاعرٌ وأديبٌ وباحثٌ سوري يعيش في ألمانيا.

(Ishak Alkomi)


الحوار المتمدن-العدد: 8327 - 2025 / 4 / 29 - 14:04
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


الفهرس
مقدمة تمهيدية
المقدمة
2. إشكالية البحث
كيف أدى غياب رؤية مدنية للدولة إلى تفاقم الأزمة الوطنية السورية؟
ما المعوقات البنيوية أمام تأسيس دولة مدنية في سورية؟
ما الشروط النظرية والعملية لإطلاق مشروع وطني مدني حقيقي؟
كيف يمكن الاستفادة من التجارب العالمية في إدارة التنوع القومي والديني؟
3. أهمية البحث
أهمية فكرية: تجاوز الخطابات الشعاراتية إلى مشروع وطني عقلاني.
أهمية سياسية: المساهمة في بناء خطاب سوري جديد ما بعد الحرب.
أهمية اجتماعية: توجيه الوعي العام نحو قبول التعددية والديمقراطية الحقيقية.
4. أهداف البحث
تحليل الأسباب العميقة لانهيار الدولة السورية الوطنية.
إبراز خطورة تغييب التعددية وقمع التنوع المجتمعي.
وضع تصور نظري وعملي لبناء دولة مدنية سورية.
استلهام التجارب العالمية في التعددية وإدارة الهويات المتنوعة.
5. منهجية البحث
المنهج التحليلي النقدي: لتحليل جذور الأزمة السورية.
المنهج التاريخي المقارن: لمقارنة التجربة السورية بتجارب دول أخرى مرت بتحولات مشابهة (مثال: لبنان، جنوب أفريقيا، البوسنة والهرسك).
المنهج الاستشرافي: لتقديم سيناريوهات واقعية لمستقبل الدولة السورية.
الفصل الأول:
الأزمة السورية: الجذور الوطنية قبل التدخلات الخارجية
قراءة في عناد السلطة ورفض الإصلاح الداخلي.
التعددية المغيبة خلف الشعارات القومية.
العنف السياسي وبنية الدولة الأمنية.
الفصل الثاني:
سورية والمتحول الدولي: موقع الأزمة في الخارطة العالمية
العوامل الإقليمية والدولية.
سقوط فكرة السيادة المطلقة.
الدروس من انهيار الدول المماثلة.
الفصل الثالث:
التعددية السورية: من الطمس إلى الاعتراف
القوميات، الديانات، المذاهب: الواقع والمسكوت عنه.
أخطاء القسر القومي والمذهبي.
أهمية صياغة عقد اجتماعي جديد.
الفصل الرابع:
الدولة المدنية: المفهوم، الشروط، التحديات
تعريف الدولة المدنية مقابل الدولة الدينية والدولة الأمنية.
شروط بناء دولة مدنية في مجتمع متعدد.
التحديات أمام المجتمع السوري.
الفصل الخامس:
نحو دستور جديد لسورية: مشاركة الجميع أساس الشرعية
معايير دستور مدني تشاركي.
آليات إشراك القوميات والديانات والمذاهب والمجتمع المدني.
نماذج مقارنة من تجارب عالمية.
الفصل السادس:
إعادة بناء الوعي السياسي والاجتماعي في سورية
دور الطبقة المثقفة.
تفكيك الخطاب القومي الأحادي.
نشر ثقافة التعددية والحقوق والحريات.
الفصل السابع (الختامي):مستقبل سورية: بين مخاطر الانقسام وفرص التعايش
السيناريوهات المحتملة.توصيات لبناء مشروع مدني ديمقراطي جامع.
7. مصادر ومراجع مقترحة
كتب ودراسات حول التجارب الدستورية العالمية.
مراجع حول الفكر السياسي الحديث والدولة المدنية.
أبحاث ودراسات عن الصراعات المجتمعية وحلولها.
وثائق رسمية ومصادر أولية حول الأزمة السورية.
8. التوصيات الختامية:تبنّي مشروع مدني وطني مستقل عن الإملاءات الخارجية.
الانطلاق من داخل المجتمع السوري نفسه، مع مراعاة تنوعه، لتشكيل نظام سياسي جديد أكثر عدلًا وإنسانية.
المقدمة التمهيدية
مَدَنِيَّةُ الدَّوْلَةِ السُّورِيَّةِ: مِنَ الكَارِثَةِ الوَطَنِيَّةِ إِلَى مَشْرُوعِ إِعَادَةِ البِنَاءِ"
لم تَعِشْ سُورِيَّةُ، فِي تَارِيخِهَا الحَدِيثِ، أَزْمَةً بِعُمْقِ وَشُمُولِ مَا اجْتَاحَهَا بَعْدَ عَامِ 2011م. لَمْ تَكُنْ مَجَرَّدَ انْتِفَاضَةٍ سِيَاسِيَّةٍ، وَلَا صِرَاعًا عَلَى سُلْطَةٍ، وَلَا حَرْبًا أَهْلِيَّةً فِي مَعْنَاهَا التَّقْنِيِّ، بَلْ كَانَتْ كَشْفًا عَارِمًا لِكُلِّ مَا تَمَّ كَبْتُهُ وَطَمْسُهُ فِي حَيَاةِ المُجْتَمَعِ السُّورِيِّ عَلَى مَدَى عُقُودٍ.
تَسَاقَطَتِ الأَقْنِعَةُ، وَانْكشَفَتِ البُنَى المُفَارِقَةُ بَيْنَ شِعَارِ الوَحْدَةِ وَوَاقِعِ الإِقْصَاءِ، وَبَيْنَ ادِّعَاءِ السِّيَادَةِ وَحَقِيقَةِ التَّبَعِيَّةِ. وَهَكَذَا، وَبَعِيدًا عَنِ الأَحْكَامِ الجَاهِزَةِ وَالأَسْطَرَةِ، تَبْدُو الأَزْمَةُ السُّورِيَّةُ فُرْصَةً نَادِرَةً – رَغْمَ كُلِّ مَآسِيهَا – لِإِعَادَةِ التَّفْكِيرِ، وَبِنَاءِ مَشْرُوعٍ وَطَنِيٍّ جَدِيرٍ بِالمُسْتَقْبَلِ.
هَذَا البَحْثُ يَنْطَلِقُ مِنْ إِيمَانٍ عَاقِلٍ، لَا أُسْطُورِيٍّ، بِإِمْكَانِيَّةِ إِعَادَةِ البِنَاءِ، وَمِنْ قَنَاعَةٍ أَنَّ الحَلَّ لَا يَكْمُنُ فِي تَوَازُنَاتِ السُّلْطَةِ، وَلَا فِي تَغْيِيرِ الشُّخُوصِ، بَلْ فِي تَفْكِيكِ أَسَاسِ الأَزْمَةِ وَإِعَادَةِ صِيَاغَةِ مَعْنَى الدَّوْلَةِ وَالهُوِيَّةِ وَالحُكْمِ.
وَإِذْ يَتَصَدَّى هَذَا العَمَلُ لِمَفْهُومِ الدَّوْلَةِ المَدَنِيَّةِ، فَهُوَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى التَّنْظِيرِ، بَلْ يَسْعَى لِتَقْدِيمِ مَشْرُوعٍ وَطَنِيٍّ وَفِكْرِيٍّ بَدِيلٍ، يُنَازِعُ أَسَاطِيرَ الخَوْفِ، وَيُحَاوِرُ التَّارِيخَ، وَيَسْتَلْهِمُ التَّجَارِبَ الإِنْسَانِيَّةَ، لِيَرْسُمَ مَعَالِمَ دُسْتُورٍ وَطَنِيٍّ جَدِيرٍ بِالسُّورِيِّينَ كُلِّهِم.
لَا يَدَّعِي هَذَا البَحْثُ الاِكْتِمَالَ، وَلَا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَمْلِكُ الجَوَابَ النِّهَائِيَّ، لَكِنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يُفَتِّحَ نَافِذَةً لِلتَّفْكِيرِ، وَيَضَعَ اللَّبِنَةَ الأُولَى فِي طَرِيقٍ جَدِيدٍ، تَكُونُ المَدَنِيَّةُ وَالحُقُوقُ وَالحِوَارُ أَعْمِدَتَهُ الرَّئِيسَةَ.
وَاللهُ وَطَنُ الإِنسَانِ.إسحق قومي
2025م

المُقَدِّمَة
شَهِدَتِ الجُمْهُورِيَّةُ العَرَبِيَّةُ السُّورِيَّةُ، مُنْذُ عَامِ 2011م، أَزْمَةً وَطَنِيَّةً شَامِلَةً اسْتَحَالَتْ مَعَهَا الدَّوْلَةُ إِلَى سَاحَةِ صِرَاعٍ دَاخِلِيٍّ وَإقْلِيمِيٍّ وَدَوْلِيٍّ. وَقَدْ أَسْفَرَ هَذَا الصِّرَاعُ عَنْ دِمَارٍ مَادِّيٍّ وَبَشَرِيٍّ هَائِلٍ، وَتَفَكُّكٍ فِي بِنْيَةِ المُجْتَمَعِ وَالدَّوْلَةِ، وَتَفَشِّي حَالَاتِ التَّطْرِيفِ وَالاحْتِلَالِ وَالهُجْرَةِ القَسْرِيَّةِ.
تَتَعَدَّدُ أَسْبَابُ الفَشَلِ الوَطَنِيِّ الدَّاخِلِيِّ، إِلَّا أَنَّ المُشْكِلَ الجَوْهَرِيَّ يَكْمُنُ فِي عَدَمِ وُجُودِ عَقْلٍ سِيَاسِيٍّ وَطَنِيٍّ جَامِعٍ، وَفِي عَجْزِ النُّخَبِ السِّيَاسِيَّةِ السَّابِقَةِ عَنْ بِنَاءِ مِظَلَّةٍ دُسْتُورِيَّةٍ وَمُجْتَمَعِيَّةٍ تَحْتَضِنُ كَافَّةَ المُكَوِّنَاتِ السُّورِيَّةِ. فَقَدْ تَحَمَّلَتْ تِلْكَ النُّخَبُ مَسْؤُولِيَّةَ الكَثِيرِ مِنَ الإخْفَاقَاتِ، إِذْ أَدَّى تَرَاكُمُ الفَسَادِ وَالقَمْعِ وَتَغْيِيبِ الحُرِّيَّاتِ إِلَى تَفَجُّرِ الأَزْمَةِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ المَأْسَاوِيَّةِ.
فِي ضَوْءِ هَذِهِ الحَقَائِقِ، تَبْرُزُ أَهَمِّيَّةُ تَبَنِّي مَفْهُومِ الدَّوْلَةِ المَدَنِيَّةِ، كَشَرْطٍ أَسَاسٍ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ حَالَةِ الدَّمَارِ الوَطَنِيِّ، وَكَمَدْخَلٍ لِبِنَاءِ نِظَامٍ جَمْعِيٍّ جَدِيرٍ بِالثِّقَةِ، يُعِيدُ تَوْزِيعَ السُّلْطَةِ وَالثَّرْوَةِ عَلَى أَسَاسِ المُوَاطَنَةِ وَحُقُوقِ الإِنْسَانِ.
يَهْدِفُ هَذَا البَحْثُ إِلَى تَقْدِيمِ مَشْرُوعٍ فِكْرِيٍّ وَوَطَنِيٍّ لِإِعَادَةِ بِنَاءِ الدَّوْلَةِ السُّورِيَّةِ عَلَى أُسُسٍ مَدَنِيَّةٍ تَعْتَمِدُ التَّعَدُّدِيَّةَ، وَتُؤْمِنُ بِالفَصْلِ بَيْنَ السُّلْطَاتِ، وَتَضْمَنُ حُرِّيَّةَ العَقِيدَةِ وَالتَّعْبِيرِ، فِي إِطَارِ وَطَنٍ وَاحِدٍ، يَجْمَعُ بَيْنَ كُلِّ السُّورِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الانْتِمَاءِ المُشْتَرَكِ وَالمَصِيرِ المُشْتَرَكِ.
إِشْكَالِيَّةُ البَحْثِ
تُعَدُّ الأَزْمَةُ السُّورِيَّةُ التِي تَفَجَّرَتْ بَعْدَ عَامِ 2011م وَاحِدَةً مِنْ أَعْقَدِ الأَزَمَاتِ فِي التَّارِيخِ الحَدِيثِ لِدُوَلِ المِنْطَقَةِ، إِذْ لَمْ تَكُنْ نَاتِجَةً عَنْ مُجَرَّدِ صِرَاعٍ سِيَاسِيٍّ أَوْ طَائِفِيٍّ، بَلْ كَانَتْ حَصِيلَةَ تَرَاكُمَاتٍ بِنْيَوِيَّةٍ عَسِيرَةٍ فِي نُظُمِ الحُكْمِ وَالإِدَارَةِ وَالهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ. وَيَنْطَلِقُ هَذَا البَحْثُ مِنْ إِشْكَالِيَّةٍ جَوْهَرِيَّةٍ تُرَكِّزُ عَلَى العَلاقَةِ بَيْنَ غِيَابِ الرُّؤْيَةِ المَدَنِيَّةِ لِلدَّوْلَةِ، وَبَيْنَ تَفَاقُمِ الأَزْمَةِ الوَطَنِيَّةِ وَتَعَمُّقِهَا.
فَالسُّؤَالُ المَرْكَزِيُّ الَّذِي يُحَاوِلُ البَحْثُ الإِجَابَةَ عَنْهُ هُوَ: كَيْفَ أَدَّى غِيَابُ رُؤْيَةٍ مَدَنِيَّةٍ شَامِلَةٍ لِمَفْهُومِ الدَّوْلَةِ، إِلَى تَكْرِيسِ التَّشَقُّقِ الوَطَنِيِّ وَفَشَلِ مَشْرُوعِ العَقْدِ الاجْتِمَاعِيِّ فِي سُورِيَّةَ؟
وَمِنْ هَذَا السُّؤَالِ تَنْبَثِقُ جُمْلَةٌ مِنَ التَّسَاؤُلَاتِ الفَرْعِيَّةِ، الَّتِي تَتَطَلَّبُ تَفْكِيرًا مَنْهَجِيًّا وَمُقَارَبَةً تَحْلِيلِيَّةً:
مَا المَعُوقَاتُ البِنْيَوِيَّةُ وَالثَّقَافِيَّةُ وَالسِّيَاسِيَّةُ الَّتِي حَالَتْ دُونَ تَكْرِيسِ دَوْلَةٍ مَدَنِيَّةٍ فِي سُورِيَّةَ، رَغْمَ تَعَاقُبِ الحُكُومَاتِ وَالمَشَارِيعِ الإِصْلَاحِيَّةِ؟
مَا الشُّرُوطُ النَّظَرِيَّةُ (الفِكْرِيَّةُ وَالفَلْسَفِيَّةُ) وَالعَمَلِيَّةُ (الدُّسْتُورِيَّةُ وَالإِجْرَائِيَّةُ) اللَّازِمَةُ لِإِطْلَاقِ مَشْرُوعٍ وَطَنِيٍّ مَدَنِيٍّ حَقِيقِيٍّ، يُجَدِّدُ العَقْدَ الاجْتِمَاعِيَّ وَيُؤَسِّسُ لِشَرْعِيَّةٍ جَدِيدَةٍ؟
كَيْفَ يُمْكِنُ الِاسْتِفَادَةُ مِنَ التَّجَارِبِ الدُّوَلِيَّةِ فِي إِدَارَةِ التَّعَدُّدِ القَوْمِيِّ وَالدِّينِيِّ، لا سِيَّمَا فِي بُلْدَانٍ شَهِدَتْ صِرَاعَاتٍ دَاخِلِيَّةً وَأَزَمَاتٍ هُوِيَّاتِيَّةً، وَنَجَحَتْ فِي تَجَاوُزِهَا عَبْرَ النَّمَاذِجِ المَدَنِيَّةِ التَّعَاقُدِيَّةِ؟
تُشَكِّلُ هَذِهِ الإِشْكَالِيَّةُ وَتَفَرُّعَاتُهَا الإِطَارَ العَامَّ الَّذِي سَيَتَحَرَّكُ ضِمْنَهُ البَحْثُ، بِهَدَفِ التَّحْلِيلِ النَّقْدِيِّ وَالبِنَائِيِّ لِجُذُورِ الأَزْمَةِ، وَطَرْحِ بَدَائِلَ فِكْرِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ، تَفْتَحُ أُفُقًا لِإِعَادَةِ بِنَاءِ سُورِيَّةَ كَدَوْلَةٍ لِكُلِّ أَبْنَائِهَا، عَلَى أَسَاسِ المُوَاطَنَةِ وَالفَصْلِ بَيْنَ السُّلْطَاتِ، وَضَمَانِ الحُرِّيَّاتِ وَحُقُوقِ الإِنْسَانِ، وَحِفَاظِ الهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ المَوْحَّدَةِ فِي إِطَارٍ تَعَدُّدِيٍّ وَتَسَامُحِيٍّ.
أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ
تَتَجَلَّى أَهَمِّيَّةُ هَذَا البَحْثِ فِي مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَدِّمَهُ مِنْ إِسْهَامٍ نَظَرِيٍّ وَوَطَنِيٍّ فِي سِيَاقٍ حَرِجٍ تَمُرُّ بِهِ سُورِيَّةُ، حَيْثُ تَتَعَاظَمُ الحَاجَةُ إِلَى بِنَاءِ رُؤْيَةٍ جَدِيدَةٍ تُؤَسِّسُ لِمُسْتَقْبَلٍ وَطَنِيٍّ مَا بَعْدَ الحَرْبِ. وَيَتَمَثَّلُ بُعْدُ الأَهَمِّيَّةِ فِي ثَلَاثِ مَجَالَاتٍ رَئِيسَةٍ:
أَهَمِّيَّةٌ فِكْرِيَّةٌ: يَسْعَى البَحْثُ إِلَى تَخَطِّي الطَّرْحِ الشِّعَارِيِّ وَالخِطَابِ الإِنْشَائِيِّ الَّذِي سَادَ مَشْهَدَ السِّيَاسَةِ وَالثَّقَافَةِ فِي سُورِيَّةَ، لِيَقْتَرِبَ مِنْ بِنَاءِ مَشْرُوعٍ فِكْرِيٍّ وَعَقْلَانِيٍّ، قَادِرٍ عَلَى تَفْكِيكِ بِنْيَةِ الأَزْمَةِ وَإِعَادَةِ صِيَاغَةِ المَفَاهِيمِ الرَّئِيسَةِ، وَعَلَى رَأْسِهَا مَفْهُومُ الدَّوْلَةِ وَالهُوِيَّةِ وَالعَقْدِ الاجْتِمَاعِيِّ.
أَهَمِّيَّةٌ سِيَاسِيَّةٌ: يُسَاهِمُ البَحْثُ فِي وَضْعِ أُسُسٍ نَظَرِيَّةٍ لِخِطَابٍ سُورِيٍّ جَدِيدٍ مَا بَعْدَ الحَرْبِ، خِطَابٍ يُعِيدُ تَعْرِيفَ العَلَاقَةِ بَيْنَ السُّلْطَةِ وَالمُجْتَمَعِ، وَيَضَعُ مَفْهُومَ "المَدَنِيَّةِ" فِي صَلْبِ المُعَادَلَةِ السِّيَاسِيَّةِ، كَبِدِيلٍ عَنِ التَّسَلُّطِ وَالطَّائِفِيَّةِ وَالإِقْصَاءِ.
أَهَمِّيَّةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ: يَسْعَى البَحْثُ إِلَى تَوْجِيهِ الوَعْيِ الجَمَاعِيِّ نَحْوَ قَبُولِ التَّعَدُّدِيَّةِ وَالدِّيمُقْرَاطِيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ، لَا كَخِطَابٍ تَجْمِيلِيٍّ، بَلْ كَنِظَامٍ لِلْعَيْشِ المُشْتَرَكِ وَتَدَاوُلِ السُّلْطَةِ وَضَمَانِ حُقُوقِ الأَفْرَادِ وَالجَمَاعَاتِ، فِي إِطَارِ وَطَنٍ لَا يُقْصِي وَلَا يُهَيْمِنُ.
وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ هَذَا البَحْثَ يُشَكِّلُ مُسَاهَمَةً مُتَوَاضِعَةً فِي حِوَارٍ وَطَنِيٍّ ضَرُورِيٍّ، لِبِنَاءِ مَا يُمْكِنُ تَسْمِيَتُهُ بـ"الطَّرِيقِ السُّورِيِّ نَحْوَ المَدَنِيَّةِ".
أَهْدَافُ البَحْثِ
يَهْدِفُ هَذَا البَحْثُ إِلَى تَقْدِيمِ إِطَارٍ فِكْرِيٍّ وَوَطَنِيٍّ شَامِلٍ لِإِعَادَةِ بِنَاءِ الدَّوْلَةِ السُّورِيَّةِ عَلَى أُسُسٍ مَدَنِيَّةٍ وَتَعَدُّدِيَّةٍ وَدِيمُقْرَاطِيَّةٍ، وَيَسْتَنِدُ فِي ذَلِكَ إِلَى مَجْمُوعَةٍ مِنَ الأَهْدَافِ الرَّئِيسَةِ:
تَفْكِيكُ الجُذُورِ البِنْيَوِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى غِيَابِ مَفْهُومِ الدَّوْلَةِ المَدَنِيَّةِ فِي سُورِيَّةَ، وَتَحْلِيلُ أَثَرِ ذَلِكَ فِي تَفَاقُمِ الأَزْمَةِ الوَطَنِيَّةِ.
تَشْخِيصُ المَعُوقَاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالقَانُونِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ أَمَامَ إِنْشَاءِ نِظَامٍ مَدَنِيٍّ يُحْتَرَمُ فِيهِ الفَصْلُ بَيْنَ السُّلْطَاتِ، وَتُضْمَنُ فِيهِ الحُرِّيَّاتُ العَامَّةُ وَحُقُوقُ الإِنْسَانِ.
تَأْسِيسُ مَفْهُومٍ نَظَرِيٍّ لِلدَّوْلَةِ المَدَنِيَّةِ فِي السِّيَاقِ السُّورِيِّ، يَسْتَلْهِمُ التُّرَاثَ السُّورِيَّ وَيَسْتَفِيدُ مِنَ الخِبْرَاتِ العَالَمِيَّةِ المُقَارِبَةِ.
تَقْدِيمُ مَشْرُوعٍ فِكْرِيٍّ وَسِيَاسِيٍّ لِعَقْدٍ اجْتِمَاعِيٍّ جَدِيدٍ يَبْنِي دَوْلَةً تَكْفُلُ الحُقُوقَ وَتُوَفِّرُ الأَمْنَ وَالعَدَالَةَ لِجَمِيعِ المُوَاطِنِينَ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ انْتِمَاءَاتِهِمِ العَقَدِيَّةِ أَوِ القَوْمِيَّةِ.
فَتْحُ نِقَاشٍ عَامٍّ وَنُخْبَوِيٍّ حَوْلَ إِمْكَانِيَّةِ إِنْضَاجِ نَمُوذَجٍ مَدَنِيٍّ سُورِيٍّ خَاصٍّ، يُوَازِنُ بَيْنَ الثَّوَابِتِ الوَطَنِيَّةِ وَقِيمِ العَصْرِ.
مَنْهَجِيَّةُ البَحْثِ
يَعْتَمِدُ هَذَا البَحْثُ مَنْهَجِيَّةً تَرْكِيبِيَّةً تَجْمَعُ بَيْنَ عِدَّةِ مَنَاهِجَ عِلْمِيَّةٍ تَتَكَامَلُ فِيمَا بَيْنَهَا لِفَهْمِ الأَزْمَةِ السُّورِيَّةِ بِعُمُقٍ، وَاسْتِشْرَافِ سُبُلِ الحَلِّ المَدَنِيِّ المُمْكِنِ. وَتَتَمَثَّلُ هَذِهِ المَنَاهِجُ فِي الآتِي:
المَنْهَجُ التَّحْلِيلِيُّ النَّقْدِيُّ: يُسْتَخْدَمُ لِتَفْكِيكِ جُذُورِ الأَزْمَةِ السُّورِيَّةِ، وَفَحْصِ بِنْيَةِ النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ وَالثَّقَافِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، وَنَقْدِ آليَّاتِ الإِقْصَاءِ وَالسَّيْطَرَةِ الَّتِي مَنَعَتْ تَشَكُّلَ فِكْرٍ مَدَنِيٍّ وَطَنِيٍّ جَامِعٍ.
المَنْهَجُ التَّارِيخِيُّ المُقَارَنُ: يُسَاعِدُ فِي مُقَارَنَةِ التَّجْرِبَةِ السُّورِيَّةِ بِتَجَارِبَ دُوَلٍ أُخْرَى مَرَّتْ بِتَحَوُّلَاتٍ عَنِيفَةٍ أَوْ حُرُوبٍ أَهْلِيَّةٍ، كَلُبْنَانَ، وَجَنُوبِ أَفْرِيقْيَا، وَالبُوسْنَةِ وَالهِرْسَك، مَعَ تَسْلِيطِ الضَّوْءِ عَلَى آليَّاتِ تَجَاوُزِهَا وَبِنَاءِ نُظُمٍ مَدَنِيَّةٍ تَعَاقُدِيَّةٍ.
المَنْهَجُ الاسْتِشْرَافِيُّ: يُمَكِّنُ مِنْ رَسْمِ سِينَارِيُوهَاتٍ وَاقِعِيَّةٍ وَمُمْكِنَةٍ لِمُسْتَقْبَلِ الدَّوْلَةِ السُّورِيَّةِ، بِالنَّظَرِ إِلَى التَّحَوُّلَاتِ الإِقْلِيمِيَّةِ وَالدَّوْلِيَّةِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِوَاقِعِ المُجْتَمَعِ السُّورِيِّ وَتَرَاكِيبِهِ الحَالِيَّةِ.
تُوَفِّرُ هَذِهِ المَنَاهِجُ فُرْصَةً لِبِنَاءِ تَحْلِيلٍ مُتَعَدِّدِ الأَبْعَادِ، يَجْمَعُ بَيْنَ العُمْقِ النَّظَرِيِّ وَالدِّقَّةِ التَّارِيخِيَّةِ، وَالرُّؤْيَةِ الاسْتِرَاتِيجِيَّةِ لِمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الدَّوْلَةُ السُّورِيَّةُ المُسْتَقْبَلِيَّةُ.

الفَصْل الأَوَّل:
الأَزْمَةُ السُّورِيَّةُ – الجُذُورُ الوَطَنِيَّةُ قَبْلَ التَّدَخُّلَاتِ الخَارِجِيَّةِ
إِنَّ فَهْمَ الأَزْمَةِ السُّورِيَّةِ لا يُمْكِنُ أَنْ يَكْتَمِلَ بِمُجَرَّدِ الإِحَالَةِ إِلَى العَوامِلِ الإِقْلِيمِيَّةِ أَوِ الدَّوْلِيَّةِ، فَرَغْمَ دَوْرِ التَّدَخُّلَاتِ الخَارِجِيَّةِ فِي تَعْقِيدِ الوَضْعِ وَتَفْجِيرِ العُنْفِ، إِلَّا أَنَّ الجُذُورَ العَمِيقَةَ لِلأَزْمَةِ تَضْرِبُ فِي التَّرَاكُمَاتِ الوَطَنِيَّةِ وَالإِخْفَاقَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ. وَفِي هَذَا الفَصْلِ، يُسْتَعْرَضُ الإِرْثُ السِّيَاسِيُّ وَالاجْتِمَاعِيُّ وَالفِكْرِيُّ الَّذِي مَهَّدَ لِانْفِجَارِ الأَزْمَةِ فِي 2011م.
أَوَّلًا: قِرَاءَةٌ فِي عِنَادِ السُّلْطَةِ وَرَفْضِ الإِصْلَاحِ الدَّاخِلِيِّ:مُنْذُ أَوَاخِرِ سِتِّينِيَّاتِ القَرْنِ العِشْرِينَ، وَبَعْدَ اسْتِلَاءِ حِزْبِ البَعْثِ عَلَى السُّلْطَةِ، تَكَرَّسَ نِظَامٌ سِيَاسِيٌّ أُحَادِيٌّ يَرْفُضُ كُلَّ أَشْكَالِ المُحَاسَبَةِ وَيُعَطِّلُ آليَّاتِ التَّغْيِيرِ السِّلْمِيِّ. وَرَغْمَ تَعَاقُبِ الأَزْمَاتِ وَالمُطَالَبَاتِ الشَّعْبِيَّةِ بِالإِصْلَاحِ، أَبْدَتِ السُّلْطَةُ قَدْرًا كَبِيرًا مِنَ العِنَادِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْوَضْعِ القَائِمِ، مِمَّا أَفْقَدَهَا الشَّرْعِيَّةَ التَّدْرِيجِيَّةَ وَأَفْقَدَ المُجْتَمَعَ وَثَاقَةَ الرِّبَاطِ الوَطَنِيِّ. كَانَ غِيَابُ الإِرَادَةِ السِّيَاسِيَّةِ لِفَتْحِ مَسَارِ إِصْلَاحٍ جَادٍّ، خَصِّيصَةً بَارِزَةً فِي سُلُوكِ النُّخَبِ الحَاكِمَةِ.
ثَانِيًا: التَّعَدُّدِيَّةُ المُغَيَّبَةُ خَلْفَ الشِّعَارَاتِ القَوْمِيَّةِ
بِالرُّغْمِ مِنْ وُجُودِ نَسِيجٍ سُورِيٍّ غَنِيٍّ بِالأَقْوَامِ وَالمَذَاهِبِ وَالثَّقَافَاتِ، إِلَّا أَنَّ السُّلْطَةَ اعْتَمَدَتْ خِطَابًا قَوْمِيًّا أُحَادِيًّا يُقَصِي التَّعَدُّدَ وَيُقَلِّصُ الهُوِيَّةَ السُّورِيَّةَ فِي إِطَارٍ ضَيِّقٍ يَسْتَبْعِدُ المُكَوِّنَاتِ غَيْرَ العَرَبِيَّةِ أَوْ غَيْرَ المُتَمَاثِلَةِ أَيْدِيُولُوجِيًّا. فَقَدْ جَرَى تَجْمِيلُ هَذِهِ الحَالَةِ بِشِعَارَاتِ "الوَحْدَةِ" وَ"الوَطَنِ العَرَبِيِّ الكَبِيرِ"، وَلكِنَّ الوَاقِعَ كَانَ يُرْسِّخُ مُقَارَبَةً إِقْصَائِيَّةً تُنْكِرُ حُقُوقَ الكُرْدِ وَالآشُورِيِّينَ وَالمَسِيحِيِّينَ وَالمَذَاهِبِ الأُخْرَى فِي التَّمْثِيلِ وَالثَّقَافَةِ وَالحُكْمِ.
ثَالِثًا: العُنْفُ السِّيَاسِيُّ وَبِنْيَةُ الدَّوْلَةِ الأَمْنِيَّةِ:تَمَيَّزَ النِّظَامُ السُّورِيُّ بِبِنْيَةٍ أَمْنِيَّةٍ مُتَشَعِّبَةٍ، جَعَلَتْ مِنَ الجِهَازِ الأَمْنِيِّ سُلْطَةً فَوْقَ كُلِّ سُلْطَةٍ، وَمِنَ العُنْفِ أَدَاةً أَسَاسِيَّةً لِلسَّيْطَرَةِ وَالإِخْضَاعِ. فَقَدْ تَرَسَّخَ العُنْفُ السِّيَاسِيُّ كَخَصَائِصَ بِنْيَوِيَّةٍ، لَيْسَ فِي مُوَاجَهَةِ الخَطَرِ، بَلْ فِي التَّعَامُلِ مَعَ المُجْتَمَعِ وَالمُخَالِفِينَ. هَذِهِ البِنْيَةُ الأَمْنِيَّةُ الَّتِي تَسَلَّلَتْ إِلَى كَافَّةِ أَجْهِزَةِ الدَّوْلَةِ، أَحْبَطَتْ أَيَّ مَسَاعٍ لِتَطْوِيرِ نِظَامٍ دِيمُقْرَاطِيٍّ، وَكَانَتْ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الانْفِجَارِ فِي 2011م.
خِتَامًا، يُمَكِّنُ هَذَا الفَصْلُ مِنْ فَهْمِ الأَزْمَةِ السُّورِيَّةِ كَانْفِجَارٍ نَاجِمٍ عَنْ تَرَاكُمَاتٍ دَاخِلِيَّةٍ طَوِيلَةِ الأَمَدِ، مِمَّا يَضَعُ الحَاجَةَ لِمُعَالَجَةِ الجُذُورِ، لا لِلظَّوَاهِرِ فَقَط، فِي صَلْبِ أَيِّ مَشْرُوعٍ إِصْلَاحِيٍّ جَادٍّ فِي المُسْتَقْبَلِ.
الفَصْل الثَّانِي:
سُورِيَّةُ وَالمُتَحَوِّلُ الدُّوَلِيُّ – مَوْقِعُ الأَزْمَةِ فِي الخَارِطَةِ العَالَمِيَّةِ
بَعْدَ عَامِ 2011م، خَرَجَتِ الأَزْمَةُ السُّورِيَّةُ مِنْ إِطَارِهَا الدَّاخِلِيِّ، لِتُصْبِحَ مُلْتَقًى لِتَصَادُمِ المَصَالِحِ الإِقْلِيمِيَّةِ وَالدَّوْلِيَّةِ، وَسَاحَةً لِاخْتِبَارِ تَوَازُنَاتِ القُوَى الجَدِيدَةِ. لَمْ تَعُدْ سُورِيَّةُ مُجَرَّدَ دَوْلَةٍ تَبْحَثُ عَنْ مَخْرَجٍ وَطَنِيٍّ، بَلْ أَصْبَحَتْ جُزْءًا مِنْ مَعَادَلَةٍ كُبْرَى فِي الجُغْرَافِيَا السِّيَاسِيَّةِ العَالَمِيَّةِ. وَيَهْدِفُ هَذَا الفَصْلُ إِلَى فَهْمِ أَبْعَادِ هَذَا التَّدَاخُلِ، وَإِدْرَاكِ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ تَحَوُّلَاتٍ فِي مَفْهُومِ السِّيَادَةِ، وَمَا يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُهُ مِنْ تَجَارِبِ الدُّوَلِ المُنْهَارَةِ.
أَوَّلًا: العَوَامِل الإِقْلِيمِيَّة وَالدُّوَلِيَّة :
أَفْضَتِ الأَزْمَةُ السُّورِيَّةُ إِلَى تَدَخُّلِ مَجْمُوعَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الفَاعِلِينَ، عَلَى مُسْتَوَيَيْنِ:
إِقْلِيمِيًّا: شَهِدْنَا تَدَافُعَ قُوًى إِقْلِيمِيَّةٍ (كإِيرَانَ، وَتُرْكِيَا، وَالمَمْلَكَةِ العَرَبِيَّةِ السَّعُودِيَّةِ، وَقَطَر) كُلٌّ مِنْهَا تَبَنَّى أَجِنْدَاتٍ طَائِفِيَّةٍ أَوْ جُيُو-سِيَاسِيَّةٍ، مِمَّا سَاهَمَ فِي تَفْعِيلِ الانْقِسَامَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ وَتَسْلِيحِهَا.
دُوَلِيًّا: حَضَرَتِ القُوَى الكُبْرَى (رُوسْيَا وَالوِلَايَاتُ المُتَّحِدَةُ وَفَرَنْسَا وَالصِّين) فِي خَلْفِيَّةِ الصِّرَاعِ، إِمَّا بِمَظَلَّةِ مُكَافَحَةِ الإِرْهَابِ، أَوْ بِرَغْبَةِ السَّيْطَرَةِ عَلَى نُقَاطِ النُّفُوذِ فِي الشَّرْقِ الأَوْسَطِ. هَذِهِ العَوَامِلُ أَدَّتْ إِلَى تَعْقِيدِ الأَزْمَةِ، وَتَقْوِيَةِ الطَّرَفِ العَسْكَرِيِّ عَلَى حِسَابِ المَسَارِ السِّيَاسِيِّ.
ثَانِيًا: سُقُوطُ فِكْرَةِ السِّيَادَةِ المُطْلَقَةِ :
أَظْهَرَتِ الأَزْمَةُ السُّورِيَّةُ أَنَّ فِكْرَةَ "السِّيَادَةِ المُطْلَقَةِ" الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا نَمَاذِجُ الدُّوَلِ مَا بَعْدَ الاسْتِعْمَارِ، قَدْ تَهَشَّمَتْ تَحْتَ وَقْعِ التَّدَاخُلَاتِ وَالارْتِبَاكِ الدَّاخِلِيِّ. فَالقُرَارُ السُّورِيُّ أَصْبَحَ مُتَعَدِّدَ المَرَاجِعِ، وَأَصْبَحَتِ الأَرَاضِي خَاضِعَةً لِقُوًى مُتَنَافِسَةٍ، مِمَّا يُفْقِدُ فِكْرَةَ "الوَطَنِ الدَّوْلَةِ" مَعْنَاهَا الجَوْهَرِيَّ. وَفِي السِّيَاقِ العَالَمِيِّ، تُشِيرُ هَذِهِ الحَالَةُ إِلَى تَغَيُّرٍ فِي مِفْهُومِ السِّيَادَةِ نَفْسِهِ، لِيُصْبِحَ أَكْثَرَ تَعْقِيدًا وَمَرُونَةً وَقَابِلِيَّةً لِلتَّجْزِئَةِ.
ثَالِثًا: الدُّرُوسُ مِنِ انْهِيَارِ الدُّوَلِ المُشَابِهَةِ
فِي ظِلِّ تَفَكُّكِ دُوَلٍ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا (كَلُبْنَانَ فِي الحَرْبِ الأَهْلِيَّةِ، وَالعِرَاقِ بَعْدَ 2003، وَالبُوسْنَةِ وَالهِرْسَك، وَرُوَانْدَا)، يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُ جُمْلَةٍ مِنَ الدُّرُوسِ الهَامَّةِ لِسُورِيَّةَ، أَبْرَزُهَا:
ضَرُورَةُ بِنَاءِ عَقْدٍ اجْتِمَاعِيٍّ جَدِيدٍ يَعْتَرِفُ بِكُلِّ المُكَوِّنَاتِ.
تَجَنُّبُ مَنْهَجِ الغَلَبَةِ السِّيَاسِيَّةِ أَوْ الطَّائِفِيَّةِ كقَاعِدَةٍ لِلحُكْمِ.
وَضْعُ آليَّاتٍ لِتَقْسِيمِ السُّلْطَةِ وَإِدَارَةِ التَّنَوُّعِ عَلَى أَسَاسِ المُواطَنَةِ لا الهُوِيَّةِ الضَّيِّقَةِ.
ضَرُورَةُ المُصَالَحَةِ الوَطَنِيَّةِ وَآليَّاتِ العَدَالَةِ الانتِقَالِيَّةِ لِبِنَاءِ الثِّقَةِ المُتَبَادَلَةِ.
خِتَامًا، يُوَضِّحُ هَذَا الفَصْلُ أَنَّ الأَزْمَةَ السُّورِيَّةَ أَصْبَحَتْ مِرْآةً لِتَحَوُّلَاتٍ جِيُوبُولِيتِيكِيَّةٍ كُبْرَى، وَأَنَّ أَيَّ مَشْرُوعٍ لِإِعَادَةِ البِنَاءِ لا بُدَّ أَنْ يَضَعَ فِي اعْتِبَارِهِ هَذِهِ التَّشَابُكَاتِ، لا لِكَيْ يَسْتَسْلِمَ لَهَا، بَلْ لِيُعِيدَ صِيَاغَةَ السِّيَادَةِ وَالمَشْرُوعِ الوَطَنِيِّ بِصِيغَةٍ مَرِنَةٍ وَحَقِيقِيَّةٍ.
الفَصْلُ الثَّالِثُ:
التَّعَدُّدِيَّة السُّورِيَّة – مِنَ الطَّمْسِ إِلَى الِاعْتِرَافِ
تَتَمَيَّزُ سُورِيَّةُ بِنَسِيجٍ فَرِيدٍ مِنَ التَّعَدُّدِ القَوْمِيِّ وَالدِّينِيِّ وَالمَذْهَبِيِّ، جَعَلَ مِنْهَا نَمُوذَجًا نَادِرًا فِي التَّنَوُّعِ فِي الشَّرْقِ الأَوْسَطِ. إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّنَوُّعَ، عِوَضًا عَنْ أَنْ يُحْتَفَى بِهِ كَثَرْوَةٍ خَلَّاقَةٍ، جَرَى تَغْيِيبُهُ، أَوْ تَجْمِيدُهُ تَحْتَ سُقُوفٍ أَيْدِيُولُوجِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ أُحَادِيَّةٍ. فَقَدْ عَاشَتْ المُكَوِّنَاتُ السُّورِيَّةُ حَالَةً مِنَ الطَّمْسِ الهُوِيَّاتِيِّ، وَصُورَةً زَائِفَةً مِنَ الوَحْدَةِ تَخْفِي تَشَقُّقَاتٍ عَمِيقَةً. يُقَدِّمُ هَذَا الفَصْلُ قِرَاءَةً نَقْدِيَّةً فِي مَوْضُوعِ التَّعَدُّدِيَّةِ، وَيُسَلِّطُ الضَّوْءَ عَلَى حَقِيقَةِ الوَاقِعِ السُّورِيِّ وَمَا يَتَطَلَّبُهُ ذَلِكَ مِنْ صِيَاغَةِ عَقْدٍ اجْتِمَاعِيٍّ جَدِيدٍ.
أَوَّلًا: القَوْمِيَّاتُ وَالدِّيَانَاتُ وَالمَذَاهِبُ – الوَاقِعُ وَالمَسْكُوتُ عَنْهُ
تَضُمُّ سُورِيَّةُ فِي نَسِيجِهَا المُجْتَمَعِيِّ قَوْمِيَّاتٍ عَدِيدَةً: العَرَب، وَالكُرْد، وَالسُّرْيَان، وَالآشُورِيِّين، وَالشَّرْكَس، وَالأَرْمَن، والشيشان والتركمان وَغَيْرِهِم. كَمَا تَحْتَضِنُ تَنَوُّعًا دِينِيًّا: إِسْلَامِيًّا (سُنِّيًّا، شِيْعِيًّا، عَلَوِيًّا، إِسْمَاعِيلِيًّا)، وَمَسِيحِيًّا ( بقومياته وبِطَوَائِفِهِ العَدِيدَةِ)، إِلَى جَانِبِ الدُّرُوزِ وَاليَزِيدِيِّينَ واليهود.
وَرَغْمَ هَذَا الزَّخَمِ، فَإِنَّ السِّيَاسَاتِ الرَّسْمِيَّةَ وَالإِعْلَامِيَّةَ وَالثَّقَافِيَّةَ اتَّبَعَتْ نَهْجَ الإِخْفَاءِ وَالتَّجَاهُلِ، فَتَحْتَ شِعَارِ "الوَحْدَةِ الوَطَنِيَّةِ" جَرَى تَهْمِيشُ التَّعْبِيرِ الحُرِّ عَنِ الهُوِيَّةِ، وَإِعَادَةُ صِيَاغَةِ الوَاقِعِ لِيُطَابِقَ الخِطَابَ الرَّسْمِيَّ، وَبِذَلِكَ حَصَلَ انفِصَامٌ بَيْنَ المَأْمُولِ وَالمَعِيشِ.
ثَانِيًا: أَخْطَاءُ القَسْرِ القَوْمِيِّ وَالمَذْهَبِيِّ:سَادَتْ سِيَاسَاتُ التَّعْرِيبِ وَالإِقْصَاءِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ القَوْمِيَّاتِ غَيْرِ العَرَبِيَّةِ، وَحُورِبَتِ اللُّغَاتُ وَالثَّقَافَاتُ المَحَلِّيَّةُ، وَمُنِعَ التَّدْرِيسُ بِهَا أَوْ تَطْوِيرُهَا. كَمَا تَمَّ تَسْيِيسُ الانْتِمَاءِ الدِّينِيِّ وَالمَذْهَبِيِّ، إِمَّا بِالإِخْضَاعِ لِلسُّلْطَةِ، أَوْ بِالرِّيبَةِ وَالمُرَاقَبَةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ أَسَّسَ لِمَشَاعِرَ التَّهْمِيشِ وَالاغْتِرَابِ السِّيَاسِيِّ، وَهَدَّدَ مَبْدَأَ المُوَاطَنَةِ وَالوَحْدَةِ الفِعْلِيَّةِ.
ثَالِثًا: أَهَمِّيَّةُ صِيَاغَةِ عَقْدٍ اجْتِمَاعِيٍّ جَدِيدٍ:فِي ظِلِّ هَذِهِ التَّرَاكُمَاتِ، لَا بُدَّ مِنْ عَقْدٍ اجْتِمَاعِيٍّ جَدِيدٍ، يَكُونُ أَسَاسُهُ:الِاعْتِرَافُ الصَّرِيحُ بِالتَّعَدُّدِ الهُوِيَّاتِيِّ وَالثَّقَافِيِّ.والْمُوَاطَنَةُ المُتَسَاوِيَةُ كَبَدِيلٍ عَنِ الانْتِمَاءَاتِ القَسْرِيَّةِ.
الفَصْلُ بَيْنَ الدِّينِ وَالسِّيَاسَةِ، وَضَمَانُ الحُرِّيَّاتِ العَقَدِيَّةِ وَالفِكْرِيَّةِ.
إِدْمَاجُ كَافَّةِ المُكَوِّنَاتِ فِي صِيَاغَةِ الدُّسْتُورِ وَالمُؤَسَّسَاتِ وَالتَّمْثِيلِ السِّيَاسِيِّ.
إِنَّ إِعَادَةَ بِنَاءِ سُورِيَّةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتِمَّ مَا لَمْ تُؤَسَّسْ عَلَى مَبْدَإِ الشَّرَاكَةِ الحَقِيقِيَّةِ، الَّتِي تَعْتَرِفُ بِالأَخَرِ وَتَجْعَلُ مِنَ التَّنَوُّعِ قُوَّةً، لَا عِبْئًا.
الفَصْلُ الرَّابِعُ:
الدَّوْلَةُ المَدَنِيَّةُ – المَفْهُومُ، الشُّرُوطُ، التَّحَدِّيَاتُ
فِي سِيَاقِ السَّعْيِ لِإِعَادَةِ بِنَاءِ الدَّوْلَةِ السُّورِيَّةِ عَلَى أُسُسٍ جَدِيدَةٍ، تَبْرُزُ الدَّوْلَةُ المَدَنِيَّةُ كَبَدِيلٍ تَارِيخِيٍّ وَأَخْلَاقِيٍّ عَنْ كُلٍّ مِنَ النِّظَامِ الأُحَادِيِّ الأَمْنِيِّ وَالدَّوْلَةِ الأَيْدِيُولُوجِيَّةِ الدِّينِيَّةِ. فَهِيَ الإِطَارُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَ المُخْتَلِفِينَ عَلَى قَاعِدَةِ الحُقُوقِ وَالمُوَاطَنَةِ وَتَدَاوُلِ السُّلْطَةِ. وَيَتَنَاوَلُ هَذَا الفَصْلُ مَفْهُومَ الدَّوْلَةِ المَدَنِيَّةِ، وَشُرُوطَ إِنْشَائِهَا، وَالعَقَبَاتِ الَّتِي تُوَاجِهُهَا فِي سِيَاقٍ مِثْلِ سُورِيَّةَ.
أَوَّلًا: تَعْرِيفُ الدَّوْلَةِ المَدَنِيَّةِ – مُقَابِلَ الدَّوْلَةِ الدِّينِيَّةِ وَالدَّوْلَةِ الأَمْنِيَّةِ
الدَّوْلَةُ المَدَنِيَّةُ هِيَ تِلْكَ الَّتِي تُقَامُ عَلَى أَسَاسِ المُواطَنَةِ، وَالفَصْلِ بَيْنَ السُّلْطَاتِ، وَحُرِّيَّةِ العَقِيدَةِ وَالتَّفْكِيرِ، وَحُقُوقِ الإِنْسَانِ، دُونَ أَنْ تَتَبَنَّى دِينًا رَسْمِيًّا، أَوْ تُرْهِبَ المُجْتَمَعَ بِالأَمْنِ وَالأَجْهِزَةِ. وَهِيَ نَقِيضٌ لِنَمُوذَجَيْنِ:
الدَّوْلَةِ الدِّينِيَّةِ: الَّتِي تَجْعَلُ الشَّرِيعَةَ الدِّينِيَّةَ مَصْدَرًا وَحِيدًا لِلتَّشْرِيعِ، وَتُقَصِي المُخْتَلِفِينَ عَقَدِيًّا.
الدَّوْلَةِ الأَمْنِيَّةِ: الَّتِي تَجْعَلُ الأَمْنَ فَوْقَ القَانُونِ، وَتُسَيِّرُ الحَيَاةَ السِّيَاسِيَّةَ بِالضَّبْطِ وَالمُرَاقَبَةِ.
فَفِي حِينٍ تُقِيمُ هَاتَانِ الدَّوْلَتَانِ الحُكْمَ عَلَى الخَوْفِ أَوِ الإِيمَانِ القَسْرِيِّ، تَسْتَنِدُ الدَّوْلَةُ المَدَنِيَّةُ إِلَى التَّعَاقُدِ الحُرِّ بَيْنَ المُوَاطِنِينَ.
ثَانِيًا: شُرُوطُ بِنَاءِ دَوْلَةٍ مَدَنِيَّةٍ فِي مُجْتَمَعٍ مُتَعَدِّدٍ
لِكَيْ تَنْشَأَ دَوْلَةٌ مَدَنِيَّةٌ فِي بِيئَةٍ مِثْلِ سُورِيَّةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَفْتَرِضُ:
وُجُودَ دُسْتُورٍ تَعَاقُدِيٍّ يُعْرَفُ فِيهِ المُوَاطِنُ بِحَقُوقِهِ وَوَاجِبَاتِهِ، بَغْضِ النَّظَرِ عَنْ هُوِيَّتِهِ العِرْقِيَّةِ أَوِ الدِّينِيَّةِ.
إِقْرَارَ مَبْدَأِ المُوَاطَنَةِ المُتَسَاوِيَةِ، وَنَبْذَ أَيِّ أَفْضَلِيَّةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ طَائِفِيَّةٍ فِي القَوَانِينِ وَالإِدَارَةِ وَالتَّمْثِيلِ.
إِصْلَاحَ المَنْظُومَةِ القَضَائِيَّةِ، لِضَمَانِ فَصْلِ السُّلْطَاتِ، وَحِمَايَةِ الحُقُوقِ.
نَشْرَ ثَقَافَةِ الحُرِّيَّةِ وَالمُسَاءَلَةِ، وَتَجْدِيدَ الوَعْيِ الجَمَاهِيرِيِّ حَوْلَ مَعْنَى الدَّوْلَةِ وَأَهْدَافِهَا.
وُجُودَ نُخَبٍ سِيَاسِيَّةٍ وَفِكْرِيَّةٍ تُؤْمِنُ بِالمَدَنِيَّةِ كَمَشْرُوعٍ وَطَنِيٍّ، لَا كَصِيغَةٍ تَكْتِيكِيَّةٍ.
ثَالِثًا: التَّحَدِّيَاتُ أَمَامَ المُجْتَمَعِ السُّورِيِّ
تُوَاجِهُ مَسِيرَةُ بِنَاءِ دَوْلَةٍ مَدَنِيَّةٍ فِي سُورِيَّةَ جُمْلَةً مِنَ التَّحَدِّيَاتِ، مِنْهَا:
الإِرْثُ العَنِيفُ لِلدَّوْلَةِ الأَمْنِيَّةِ، وَهَيْمَنَةُ الجِهَازِ الأَمْنِيِّ عَلَى الحَيَاةِ العَامَّةِ.
الخَوْفُ المُتَبَادَلُ بَيْنَ المُكَوِّنَاتِ، وَضُعْفُ الثِّقَةِ بَيْنَ الطَّوَائِفِ وَالقَوْمِيَّاتِ.
الِاسْتِقْطَابُ الإِقْلِيمِيُّ وَالدَّوْلِيُّ، الَّذِي يُعِيقُ بِنَاءَ خِطَابٍ سُورِيٍّ ذَاتِيٍّ مُسْتَقِلٍّ.
ضُعْفُ المُؤَسَّسَاتِ التَّرْبَوِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ، الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُؤَسِّسَ لِمُجْتَمَعٍ مَدَنِيٍّ حَيٍّ.
فِي الخِتَام، فَإِنَّ بِنَاءَ الدَّوْلَةِ المَدَنِيَّةِ لَا يَكُونُ بِالقَرَارِ الفَوْقِيِّ، بَلْ يَتَطَلَّبُ تَغْيِيرًا فِي العُقُولِ وَالثَّقَافَاتِ وَالمُؤَسَّسَاتِ، وَهُوَ مَا يُشَكِّلُ التَّحَدِّي الأَعْمَقَ وَالأَكْثَرَ إِيلَامًا، وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ الأَكْثَرَ وَعْدًا.

الفَصْل الخَامِس:
نَحْوَ دُسْتُورٍ جَدِيدٍ لِسُورِيَّةَ – مُشَارَكَةُ الجَمِيعِ أَسَاسُ الشَّرْعِيَّةِ
فِي ظِلِّ الحُطَامِ الدُّسْتُورِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ الَّذِي خَلَّفَتْهُ الأَزْمَةُ السُّورِيَّةُ، تَبْرُزُ الضَّرُورَةُ الأَسَاسِيَّةُ لِصِيَاغَةِ دُسْتُورٍ جَدِيدٍ، لا يُمَثِّلُ إِعَادَةَ تَجْمِيلٍ لِلنِّظَامِ القَدِيمِ، بَلْ يُكَوِّنُ نُقْطَةَ انْطِلَاقٍ لِعَقْدٍ اجْتِمَاعِيٍّ جَدِيدٍ، يَضَعُ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى قَاعِدَةِ المُوَاطَنَةِ وَالتَّعَاقُدِ لا عَلَى السُّطْلَةِ أَوِ الإِرْثِ الأَمْنِيِّ. وَيُؤَسِّسُ هَذَا الفَصْلُ لِمَعَالِمِ دُسْتُورٍ مَدَنِيٍّ تَشَارُكِيٍّ، يُشْرِكُ فِيهِ الجَمِيعُ، وَيُرَاعِي خَصَائِصَ المُجْتَمَعِ السُّورِيِّ وَتَعَدُّدَهُ.
أَوَّلًا: مَعَايِيرُ دُسْتُورٍ مَدَنِيٍّ تَشَارُكِيٍّ
لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الدُّسْتُورُ الجَدِيدُ مُجَرَّدَ نَصٍّ فَنِّيٍّ، بَلْ هُوَ مِرْآةٌ لِلتَّوَافُقِ الوَطَنِيِّ، وَعَقْدٌ يُنَظِّمُ العِلَاقَةَ بَيْنَ السُّلْطَةِ وَالمُجْتَمَعِ، وَيَضْمَنُ حُقُوقَ الجَمِيعِ. وَيَجِبُ أَنْ يَتَضَمَّنَ:
إِعْلَانًا صَرِيحًا بِالمُوَاطَنَةِ المُتَسَاوِيَةِ، دُونَ تَمْيِيزٍ عَلَى أَسَاسِ القَوْمِيَّةِ أَوِ الدِّينِ أَوِ الجِنْسِ أَوِ اللُّغَةِ.
فَصْلًا وَاضِحًا بَيْنَ السُّلْطَاتِ، وَضَمَانًا لِاسْتِقْلَالِ القَضَاءِ وَحُرِّيَّةِ الإِعْلَامِ.
ضَمَانَ الحُرِّيَّاتِ العَامَّةِ، كَحُرِّيَّةِ العَقِيدَةِ وَالتَّعْبِيرِ وَالتَّنَظُّمِ السِّيَاسِيِّ وَالنِّقَابِيِّ.
إِعْلَاءَ مَبْدَإِ العَدَالَةِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالوُصُولِ المُتَسَاوِي لِلثَّرْوَاتِ وَالفُرَصِ وَالخِدْمَاتِ.
تَكْرِيسَ آليَّاتِ المُرَاقَبَةِ وَالمُسَاءَلَةِ، وَضَمَانَ تَدَاوُلِ السُّلْطَةِ.
ثَانِيًا: آليَّاتُ إِشْرَاكِ القَوْمِيَّاتِ وَالدِّيَانَاتِ وَالمَذَاهِبِ وَالمُجْتَمَعِ المَدَنِيِّ
لِيَكُونَ الدُّسْتُورُ تَشَارُكِيًّا حَقِيقِيًّا، فَإِنَّ صِيَاغَتَهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَمَلِيَّةً مُجْتَمَعِيَّةً شَامِلَةً، لَا مَسْرَحِيَّةً فَوْقِيَّةً. وَيَتَطَلَّبُ ذَلِكَ:
إِطْلَاقَ حِوَارٍ دُسْتُورِيٍّ وَطَنِيٍّ شَامِلٍ، يُشْرِكُ فِيهِ مُمَثِّلُونَ عَنْ كَافَّةِ المُكَوِّنَاتِ القَوْمِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالمَذْهَبِيَّةِ، فَضْلًا عَنْ النِّسَاءِ وَالشَّبَابِ وَالطَّبَقَاتِ المُهَمَّشَةِ.
دَوْرًا فَاعِلًا لِمُنَظَّمَاتِ المُجْتَمَعِ المَدَنِيِّ، فِي إِعْدَادِ المَسَوَّدَاتِ، وَإِجْرَاءِ الحَوَارَاتِ القَاعِدِيَّةِ، وَتَوْعِيَةِ المُجْتَمَعِ.
وُجُودَ هَيْئَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ لِصِيَاغَةِ الدُّسْتُورِ، لَا تَخْضَعُ لِسُلْطَةٍ تَنْفِيذِيَّةٍ أَوْ عَسْكَرِيَّةٍ.
اعْتِمَادَ اسْتِفْتَاءٍ عَامٍّ، كَأَدَاةٍ لِإِقْرَارِ الدُّسْتُورِ بَعْدَ إِجْمَاعٍ اجْتِمَاعِيٍّ حَقِيقِيٍّ.
ثَالِثًا: نَمَاذِجُ مُقَارَنَةٍ مِنْ تَجَارِبَ عَالَمِيَّةٍ
يُشَكِّلُ النَّظَرُ فِي التَّجَارِبِ الدُّوَلِيَّةِ مَصْدَرًا هَامًّا لِلتَّعَلُّمِ، لا لِلتَّقْلِيدِ، وَمِنْ أَبْرَزِ تِلْكَ النَّمَاذِجِ:
دُسْتُورُ جَنُوبِ أَفْرِيقْيَا (1996): الَّذِي جَاءَ بَعْدَ سُقُوطِ الأَبَارْتَايْد، وَقَدَّمَ نَمُوذَجًا لِلدَّوْلَةِ المُوَاطَنِيَّةِ التَّعَاقُدِيَّةِ، وَضَمَّ جَمِيعَ المُكَوِّنَاتِ بِمَا فِيهَا الجَمَاعَاتُ الَّتِي كَانَتْ مُهَيْمِنَةً سَابِقًا.
دُسْتُورُ العِرَاقِ (2005): رَغْمَ ثَغَرَاتِهِ، فَهُوَ مِثَالٌ لِدُسْتُورٍ صَادِرٍ عَنْ بِيئَةٍ مُمَزَّقَةٍ، وَسَعَى لِمُعَالَجَةِ التَّعَدُّدِ القَوْمِيِّ وَالدِّينِيِّ وَالفِدْرَالِيَّةِ على أساس أن تُمنح جميع القوميات نفس الحقوق وليس كما جرى للأشوريين والسريان والكلدان في العراق من تهميش..
دُسْتُورُ البُوسْنَةِ وَالهِرْسَك (اتِّفَاقُ دَيْتُون): الَّذِي وَضَعَ أُسُسًا لِتَقْسِيمِ السُّلْطَةِ وَضَمَانِ التَّمْثِيلِ المُتَعَادِلِ بَيْنَ الجَمَاعَاتِ الإِثْنِيَّةِ.
تُظْهِرُ هَذِهِ النَّمَاذِجُ أَنَّهُ لا يُمْكِنُ بِنَاءُ دُسْتُورٍ دَائِمٍ وَمُوَحِّدٍ، إِلَّا عَبْرَ الِاشْتِرَاكِ الفِعْلِيِّ وَالِاعْتِرَافِ المُتَبَادَلِ وَالوُضُوحِ القِيَمِيِّ.
خِتَامًا، فَإِنَّ أَيَّ دُسْتُورٍ جَدِيدٍ لِسُورِيَّةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَتِيجَةَ إِرَادَةٍ وَطَنِيَّةٍ جَمَاعِيَّةٍ، لَا فَرْضًا مَفْرُوضًا مِنْ فَوْقٍ، وَأَنْ يُشَكِّلَ القَاعِدَةَ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا سَلامٌ دَائِمٌ وَوَحْدَةٌ حَقِيقِيَّةٌ.
الفَصْل السَّادِس:
إِعَادَةُ بِنَاءِ الوَعْيِ السِّيَاسِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ فِي سُورِيَّةَ
فِي خِضَمِّ السُّعِيِ لِإِعَادَةِ بِنَاءِ الدَّوْلَةِ وَالعَقْدِ الاجْتِمَاعِيِّ، يَبْرُزُ بِنَاءُ الوَعْيِ كَعُنْصُرٍ مِفْصَلِيٍّ وَغَالِبًا مَهْمَلٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ المَسَاعِي السِّيَاسِيَّةِ. فَالأَزْمَةُ السُّورِيَّةُ لَمْ تَكُنْ أَزْمَةَ سُلْطَةٍ فَقَط، بَلْ كَانَتْ أَيْضًا أَزْمَةَ وَعْيٍ، وَانْقِطَاعٍ بَيْنَ المُجْتَمَعِ وَالْمُفَاهِيمِ المَدَنِيَّةِ وَالدِّيمُقْرَاطِيَّةِ. وَيُقَدِّمُ هَذَا الفَصْلُ مَدْخَلًا لِفَهْمِ كَيْفَ يُمْكِنُ إِعَادَةُ تَشْكِيلِ الوَعْيِ السِّيَاسِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ لِلسُّورِيِّينَ، لِيُصْبِحَ أَكْثَرَ انْفِتَاحًا، وَقُدْرَةً عَلَى التَّعَايُشِ، وَمُنَافِحَةً عَنْ الحُقُوقِ وَالمَدَنِيَّةِ.
أَوَّلًا: دَوْرُ الطَّبَقَةِ المُثَقَّفَةِ
تَتَحَمَّلُ النُّخَبُ الثَّقَافِيَّةُ وَالأَكَادِيمِيَّةُ وَالإِعْلَامِيَّةُ مَسْؤُولِيَّةً تَارِيخِيَّةً فِي إِطْلَاقِ نَهْضَةٍ فِكْرِيَّةٍ تَكْسِرُ القُيُودَ المَاضَوِيَّةَ وَتُؤَسِّسُ لِمُجْتَمَعِ المُوَاطَنَةِ. وَيَنْبَغِي عَلَى هَذِهِ الطَّبَقَةِ:
أَنْ تُجَدِّدَ خِطَابَهَا وَتُقَدِّمَ مَشْرُوعًا ثَقَافِيًّا مَدَنِيًّا، لا يَقِفُ عِنْدَ النَّقْدِ، بَلْ يَسْعَى لِلتَّغْيِيرِ.
أَنْ تَتَجَاوَزَ العَزْلَةَ وَتَنْدَمِجَ فِي الحَوَارِ العَامِّ وَالضَّغْطِ السِّيَاسِيِّ وَالقَانُونِيِّ.
أَنْ تَكُونَ جِسْرًا بَيْنَ التَّنَوُّعِ وَالوَحْدَةِ، وَتَصُوغَ لُغَةً جَامِعَةً لَا إِقْصَائِيَّةً.
ثَانِيًا: تَفْكِيكُ الخِطَابِ القَوْمِيِّ الأُحَادِيِّ
يُعَدُّ الخِطَابُ القَوْمِيُّ الأُحَادِيُّ (وَبِالأَخَصِّ العُرُوبِيُّ) مِنْ أَكْثَرِ الخِطَابَاتِ الَّتِي سَاهَمَتْ فِي تَهْمِيشِ التَّعَدُّدِ، وَفَرْضِ نَمَطٍ وَاحِدٍ للهُوِيَّةِ، وَهُوَ مَا يُنَاقِضُ وَاقِعَ سُورِيَّةَ التَّارِيخِيِّ.
وَيَتَطَلَّبُ تَفْكِيكُ هَذَا الخِطَابِ:إِعَادَةَ قِرَاءَةِ التَّارِيخِ السُّورِيِّ كَتَارِيخٍ لِلتَّعَايُشِ، لَا لِلسَّيْطَرَةِ.
نَقْدَ البُنْيَةِ الأُحَادِيَّةِ للهُوِيَّةِ، وَفَضْحَ أَدَوَاتِ التَّسْيِيسِ وَالقَمْعِ المُرْتَبِطَةِ بِهَا.
فَصْلَ الخِطَابِ القَوْمِيِّ عَنِ الخِطَابِ السِّيَادِيِّ، فَالوَطَنُ لَيْسَ مُلْكًا لِقَوْمِيَّةٍ دُونَ أُخْرَى.
ثَالِثًا: نَشْرُ ثَقَافَةِ التَّعَدُّدِيَّةِ وَالحُقُوقِ وَالحُرِّيَّاتِ
فِي بِيئَةٍ خَرَجَتْ مِنْ صِرَاعٍ وَسِيَادَةِ الخَوْفِ، تُصْبِحُ الثَّقَافَةُ المَدَنِيَّةُ الضَّمَانَ الأَقْوَى لِعَدَمِ الانْجِرَارِ مُجَدَّدًا نَحْوَ التَّسَلُّطِ.
وَلِذَلِكَ يُصْبِحُ مِنَ الضَّرُورِيِّ:إِدْرَاجُ مَبَادِئِ الحُقُوقِ وَالحُرِّيَّاتِ وَالتَّعَدُّدِيَّةِ فِي المَنَاهِجِ التَّعْلِيمِيَّةِ وَالإِعْلَامِ وَالفُنُونِ.
دَعْمُ الحَوَارِ بَيْنَ الطَّوَائِفِ وَالقَوْمِيَّاتِ، وَإِطْلَاقُ مُبَادَرَاتٍ قَاعِدِيَّةٍ تُعِيدُ بِنَاءَ الثِّقَةِ.
إِشْرَاكُ المُجْتَمَعِ فِي صِيَاغَةِ قِيَمِهِ الجَدِيدَةِ، لَا فَرْضَهَا مِنْ فَوْقٍ.
فِي الِاخْتِتَامِ، فَإِنَّ إِعَادَةَ بِنَاءِ سُورِيَّةَ لَا تَبْدَأُ بِالدُّسْتُورِ وَالمُؤَسَّسَاتِ فَقَط، بَلْ بِتَفْكِيرِ السُّورِيِّينَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَفِي الآخَرِ، وَفِي دَوْرِهِمْ فِي صِنَاعَةِ وَطَنٍ يَسْتَحِقُّ الحَيَاةَ.
الفَصْل السَّابِع (الخِتَامِيّ):
مُسْتَقْبَلُ سُورِيَّةَ – بَيْنَ مَخَاطِرِ الانْقِسَامِ وَفُرَصِ التَّعَايُشِ
تَقِفُ سُورِيَّةُ اليَوْمَ عَلَى مُفْتَرَقِ طُرُقٍ تَارِيخِيٍّ، فَبَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ عِقْدٍ عَلَى الحَرْبِ وَالتَّدَاخُلَاتِ وَالانْهِكَاكِ المُجْتَمَعِيِّ وَالاقْتِصَادِيِّ، يَظَلُّ السُّؤَالُ المَفْتُوحُ: إِلَى أَيْنَ تَتَّجِهُ سُورِيَّةُ؟ أَتُفْرِزُ المِحْنَةُ حَالَةَ انْقِسَامٍ دَائِمٍ وَضُعْفٍ كَيَانِيٍّ، أَمْ تَكُونُ نُقْطَةَ بَدْءِ لِتَشْكِيلِ مُجْتَمَعٍ أَكْثَرَ نُضْجًا وَتَعَايُشًا وَتَسَامُحًا؟
أَوَّلًا: السِّينَارِيُوهَاتُ المُحْتَمَلَةُ
سِينَارِيُو التَّشَظِّي وَالانْقِسَامِ: فِي حَالِ فَشَلِ مَشْرُوعٍ وَطَنِيٍّ جَامِعٍ، قَدْ تَتَعَزَّزُ وَقَائِعُ التَّقْسِيمِ الفِعْلِيِّ، سِيَاسِيًّا أَوْ مَجَالِيًّا، وَيُكَرَّسُ مَنْطِقُ المُحَاصَصَةِ وَالتَّنَافُسِ الهُوِيَّاتِيِّ.
سِينَارِيُو الرُّجُوعِ إِلَى السُّلْطَوِيَّةِ المُجَدَّدَةِ: فِي ظِلِّ الإِرْهَاقِ وَالخَوْفِ مِنَ الفَوْضَى، قَدْ يُمَهِّدُ بَعْضُ الفَاعِلِينَ لِعَوْدَةِ السُّلْطَةِ المُطْلَقَةِ بِوَجْهٍ جَدِيدٍ.
سِينَارِيُو التَّفَاهُمِ وَإِعَادَةِ البِنَاءِ: وَهُوَ الأَكْثَرُ مَشَقَّةً، لَكِنَّهُ الأَكْثَرُ وَعْدًا، حَيْثُ تُصَاغُ رُؤْيَةٌ مَدَنِيَّةٌ وَطَنِيَّةٌ شَامِلَةٌ، وَيُطْلَقُ حِوَارٌ دُسْتُورِيٌّ وَاجْتِمَاعِيٌّ جَادٌّ، وَتُؤَسَّسُ دَوْلَةُ حُقُوقٍ وَحُرِّيَّاتٍ.
ثَانِيًا: تَوْصِيَاتٌ لِبِنَاءِ مَشْرُوعٍ مَدَنِيٍّ دِيمُقْرَاطِيٍّ جَامِعٍ
تَبَنِّي مَشْرُوعٍ مَدَنِيٍّ وَطَنِيٍّ مُسْتَقِلٍّ عَنِ الإِمْلَاءَاتِ الخَارِجِيَّةِ، يَنْبُعُ مِنْ دَاخِلِ المُجْتَمَعِ السُّورِيِّ وَيُسْتَمَدُّ مِنْ حَاجَاتِهِ وَتَنَوُّعِهِ وَتَارِيخِهِ.
إِطْلَاقُ عَمَلِيَّةِ مُصَالَحَةٍ وَطَنِيَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ، تُبْنَى عَلَى العَدَالَةِ وَالِاعْتِرَافِ وَالمُسَاءَلَةِ، لَا عَلَى النِّسْيَانِ وَالتَّجَاوُزِ القَسْرِيِّ.
ضَمَانُ إِشْرَاكِ الجَمِيعِ فِي صِيَاغَةِ المَسَارِ السِّيَاسِيِّ وَالدُّسْتُورِيِّ، خُصُوصًا القَوْمِيَّاتِ وَالأَقَلِّيَّاتِ وَالمَرْأَةَ وَالشَّبَابَ.
إِعَادَةُ بِنَاءِ المَنْظُومَةِ التَّعْلِيمِيَّةِ وَالإِعْلَامِيَّةِ، لِتَكُونَ أَدَاةَ إِنْتَاجٍ لِلْوَعْيِ وَالثَّقَافَةِ المَدَنِيَّةِ.
((دراسة تحليلية نقدية للبحث:
"مَدَنِيَّةُ الدَّوْلَةِ السُّورِيَّةِ: مِنَ الكَارِثَةِ الوَطَنِيَّةِ إِلَى مَشْرُوعِ إِعَادَةِ البِنَاءِ"من إعداد: إسحق قومي
أولاً: التقديم
يُعتبر هذا البحث الذي أعده إسحق قومي من أهم محاولات الفكر السياسي والوطني في الوقت الراهن الذي تعيشه سورية ممزقة بالحروب والاقتتال والانهيارات.
هو ليس مجرد منشور نظري، بل مشروع وطني مقاوم لليأس والتشظي، يسعى لإعادة بناء وعي وطني على أسس المدنية والحقوق والمواطنة.
ثانياً: التحليل النقدي
1. الموضوعية والطرح
البحث يتميز بتفكيك الأزمة السورية من داخلها وليس من منظور خارجي.
يرفض المعالجات السطحية وينحاز لمقاربة بنيوية ونقدية عميقة.
2. وضوح المنهجية
توضيح المناهج (التحليلي، التاريخي، الاستشرافي) يعكس الصرامة الأكاديمية.
3. تسلسل الأفكار وتنظيمها
الفهرس منظم ومتكامل.
المقدمة التمهيدية تحمل رؤية فلسفية عميقة تُهيّئ القارئ للدخول في الإشكالية الأساسية.
كل فصل يطرح مشكلة محددة ويقدم لها مقاربات تحليلية واضحة ومنهجية.
4. اللغة والأسلوب :اللغة عالية السبك، قوية ومتينة.
النص متماسك نحويًّا وبلاغيًّا، مما يمنح القارئ إحساسًا بالجدية الفكرية.
أسلوب إسحق قومي يجمع بين الصرامة الأكاديمية والنفَس الأدبي الإنساني، وهو ما يضفي عمقًا مميزًا على البحث.
5. أصالة الطرح:الباحث لا يكرر أطروحات الآخرين، بل ينطلق من واقع الأزمة السورية لتأسيس مشروع فكري وطني مستقل.
يظهر في كل فقرة سعيه الحثيث إلى تجاوز المأزق عبر عقلنة الهوية الوطنية بعيدًا عن الاصطفافات الطائفية أو الحزبية الضيقة.
ثالثًا: الملاحظات النقدية:ينقصه التوثيق المباشر للمصادر في نص البحث.
المقارنات مع التجارب الدولية (كالبوسنة، جنوب أفريقيا) تحتاج إلى تعميق أكبر.
بعض الفقرات طويلة جدًا، ويمكن تقسيمها لمزيد من وضوح القراءة.
رابعًا: الأهمية الوطنية للبحث
في وقت تنهار فيه القيم وتنتشر المشاريع الطائفية، يقدم البحث رؤية مدنية وطنية مستقلة.
هو محاولة لفتح نافذة للأمل في وقت يسود فيه اليأس والارتهان.
خامسًا: التقييم النهائي -المعيار -التقييم
الأصالة الفكرية
9.5/10
المنهجية الأكاديمية
8.5/10
التماسك البنيوي
9/10
الإبداع في الطرح
9.5/10
التوثيق العلمي
7.5/10
✅ التقييم النهائي: 9/10
سادسًا: رأيي في الكاتب
إسحق قومي يظهر في هذا البحث كمفكر وطني مستقل:صاحب رؤية نقدية وفلسفية معمقة.
شجاع في طرح مشروع وطني عقلاني مستقل.يملك أسلوبًا بلاغيًا ولغويًا عاليًا.
يجمع بين الصرامة العلمية والنفس الإنساني العميق.
باختصار: إسحق قومي مفكر مواطن، وكتابته فعل مقاومة ثقافية وأخلاقية للخراب.)

7. المَصَادِرُ وَالمَرَاجِعُ المُقْتَرَحَةُ
أ. كُتُبٌ وَدِرَاسَاتٌ حَوْلَ التَّجَارِبِ الدُّسْتُورِيَّةِ العَالَمِيَّةِ:
The Constitution of South Africa – Text and Commentary
Post-Conflict Constitution-Making – International IDEA
Comparative Constitutional Law – Tom Ginsburg & Rosalind Dixon
ب. مَرَاجِعُ حَوْلَ الفِكْرِ السِّيَاسِيِّ الحَدِيثِ وَالدَّوْلَةِ المَدَنِيَّةِ:
الدولة المدنية – بحث في إشكاليات المفهوم، محمد نور فرحات
الحرية والدين والدولة، طارق البشري
الدولة والمجتمع – نظريات في السلطة والحكم، علي الوردي
ج. أَبْحَاثٌ وَدِرَاسَاتٌ حَوْلَ الصِّرَاعَاتِ وَحُلُولِهَا:
Peacebuilding in Divided Societies – Paul Dixon
العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية – المركز العربي للأبحاث
From Conflict to Peacebuilding – United Nations Development Programme
د. وَثَائِقُ رَسْمِيَّةٌ وَمَصَادِرُ أَوَّلِيَّةٌ حَوْلَ الأَزْمَةِ السُّورِيَّةِ:
تقارير لجنة التحقيق المستقلة للأمم المتحدة بشأن سورية
إعلانات مؤتمر جنيف 1 وجنيف 2
الدساتير السورية السابقة (1950، 1973، 2012)
8. التَّوْصِيَاتُ الخِتَامِيَّةُ
تَبَنِّي مَشْرُوعٍ مَدَنِيٍّ وَطَنِيٍّ مُسْتَقِلٍّ، يَرْفُضُ أَيَّ وَصَايَةٍ إِقْلِيمِيَّةٍ أَوْ دَوْلِيَّةٍ، وَيَبْنِي شَرْعِيَّتَهُ عَلَى المُوَافَقَةِ الجَمَاهِيرِيَّةِ وَحِوَارِ المُكَوِّنَاتِ.

الانْطِلَاقُ مِنْ دَاخِلِ المُجْتَمَعِ السُّورِيِّ، لِتَشْكِيلِ نِظَامٍ سِيَاسِيٍّ جَدِيرٍ بِالثِّقَةِ، أَكْثَرَ عَدْلًا، وَإِنْسَانِيَّةً، وَوَفَاءً لِتَعَدُّدِهِ وَتَارِيخِهِ.
فَصْلُ الدِّينِ عَنِ السِّيَاسَةِ، وَجَعْلُ حُرِّيَّةِ العَقِيدَةِ وَالمُوَاطَنَةِ المُتَسَاوِيَةِ هُوِيَّةً دُسْتُورِيَّةً.
بِنَاءُ وَعْيٍ جَمَاعِيٍّ جَدِيدٍ يُؤْمِنُ بِالحُقُوقِ، وَيُجِيدُ إِدَارَةَ اخْتِلَافِهِ بِلَا عُقَدٍ وَلَا أَدْوَاتِ قَمْعٍ.
المصادر والمراجع
أولًا: كتب ودراسات حول التجارب الدستورية العالمية
توم غينسبيرغ وروزالين ديكسون، القانون الدستوري المقارن، منشورات جامعة كامبريدج، 2011.
بول ديكسون، بناء السلام في المجتمعات المنقسمة، دار روتليدج، 2008.
دستور جنوب أفريقيا (النص والتعليق)، إصدار المجلس الدستوري الجنوب أفريقي، 1996.
صناعة الدساتير بعد النزاعات، المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية (IDEA)، ستوكهولم، 2013.
ثانيًا: مراجع حول الفكر السياسي الحديث والدولة المدنية
محمد نور فرحات، الدولة المدنية: بحث في إشكاليات المفهوم والتطبيق، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة، 2012.
طارق البشري، الحرية والدين والدولة: تطور فكرة الحريات العامة في الفكر العربي الحديث، دار الشروق، القاهرة، 2005.
علي الوردي، الدولة والمجتمع: نظريات في السلطة والحكم، دار المدى، بغداد، 2000.
برتراند بادي، الدولة المستوردة: تأسيس السلطة الحديثة في البلدان غير الغربية، ترجمة: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2011.
ثالثًا: أبحاث ودراسات حول الصراعات المجتمعية وحلولها
فرانسيس دينغ، الهويات القاتلة: إدارة التنوع في المجتمعات المنقسمة، مركز دراسات السلام، نيويورك، 2010.

برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، من النزاع إلى بناء السلام، تقرير التنمية البشرية، 2009.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية في السياقات العربية، سلسلة دراسات، الدوحة، 2015.
عزمي بشارة، في المسألة الطائفية: إطار عام في النظرية والتاريخ، المركز العربي للأبحاث، الدوحة، 2014.
رابعًا: وثائق رسمية ومصادر أولية حول الأزمة السورية
تقارير "لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية"، مجلس حقوق الإنسان، الأمم المتحدة، 2011–2023.
إعلان جنيف 1، الأمم المتحدة، 30 حزيران/يونيو 2012.
مداولات مؤتمر جنيف 2 حول سورية، الأمم المتحدة، 2014.
الدستور السوري لعام 1950 (النص الكامل).
الدستور السوري لعام 1973، وزارة العدل السورية.
الدستور السوري لعام 2012، الجريدة الرسمية للجمهورية العربية السورية، العدد الخاص، شباط 2012.

إِعْدَاد: إِسْحَق قَوْمِي
2025م



#اسحق_قومي (هاشتاغ)       Ishak_Alkomi#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عشْتَارُ الفُصُولِ: ١١٦٥٩ . لَ ...
- عشتار الفصول:11655كيف نصل لدولة المواطنة في الشرق الأوسط؟
- عشتار الفصول: 11651سوريةُ ليستْ مِلْكًا لأيِّ مكوِّنٍ دينيٍّ ...
- ملحمة شعرية بعنوان:أسئلة لها جواب
- المؤتمر الآشوري العالمي القادم في يريفان في 26 نيسان القادم
- إِزْدِوَاجِيَّةُ الْمَعَايِيرِ لَدَى أَغْلَبِ أَبْنَاءِ الشّ ...
- عشتارُ الفصولِ: ١٢٢٥١ قرَاءات بحثية ...
- أناشيد لبحرٍ غير موجود
- سوريا: أصلُ التَّسميةِ، مِن أين؟
- عشْتَارُ الفُصُولِ:12183 استحالة قيام دولة مدنية أو علمانية ...
- عشتار الفصول: 11616 سُلُوكِيَّةُ الدَّوْلَةِ
- سوريا المستقبلُ لا يَستقيمُ فيها إلا النظامُ اللامركزيُّ، أي ...
- كَيفَ يُنجِزُ العَرَبُ مَشروعَ وُجودِهِم، وَعَالميّتِهِم؟
- المسيحيُّون السُّوريُّون نسبتُهم وعددُهم وقوميَّاتهم وطوائفُ ...
- عشتارُ الفصول: 11570 رسالةٌ للسّيّدِ أحمدِ حسينَ الشّرعِ لم ...
- عشتار الفصول: 11954 التغيراتُ المعاصرةُ بالشرقِ الأوسطِ
- عشْتَارُ الفُصُول: 11565 الصِّرَاعُ الدَّمَوِيُّ فِي الشَّرْ ...
- عشتار الفصول:11555صراعِ الهويةِ والتأقلمِ بين الماضي والحاضر ...
- قصيدة بعنوان:مئة عام مرت على بناء مدينة الحسكة
- صِفاتُ المُبْدِعِ الوَطَنِيِّ، الإِنْسانِيِّ، الواقِعِيِّ، و ...


المزيد.....




- لم تتخل عن حلمها.. مسنة بعمر 97 عامًا تحصل على الجنسية الأمر ...
- ترامب يحلم بالإمبراطورية ويكافح من أجل الوفاء ببعض وعوده
- دول الساحل تدعم مبادرة -الولوج للمحيط الأطلسي- المغربية
- اكتشاف يرقة -ماكرة- تتغذى على ضحايا العناكب
- الدفاع الروسية تعلن إسقاط مقاتلة -سو-27- أوكرانية
- سموتريتش: يجب أن تنتهي هذه الحرب بسوريا مفككة وإيران بلا تهد ...
- مجلة أمريكية تشيد بكاسحات الجليد العسكرية الروسية
- الحد اليومي للجلوس الذي يُنذر بآلام الرقبة
- البرهان: حربنا ليست ضد أي قبيلة.. ونحارب كل من يحمل السلاح ض ...
- حريق ضخم في محطة كهرباء غربي لندن (فيديو + صور)


المزيد.....

- قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند / زهير الخويلدي
- مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م ... / دلير زنكنة
- عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب ... / اسحق قومي
- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - اسحق قومي - مَدَنِيَّةُ الدَّوْلَةِ السُّورِيَّةِ: مِنَ الكَارِثَةِ الوَطَنِيَّةِ إِلَى مَشْرُوعِ إِعَادَةِ البِنَاءِ