|
النّضال من أجل الدّيمقراطية والحرّيات العامّة والخاصّة
رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8325 - 2025 / 4 / 27 - 04:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
1. تمهيد: من الحرّية الشكلية إلى التحرّر الطبقي. في عالم يتم فيه تقسيم الناس إلى طبقات استنادًا إلى قدراتهم الاقتصادية ومواقعهم الاجتماعية، تُصبح الديمقراطية مجرد أداة تهدف إلى تكريس نظام الاستغلال واللامساواة. الحرية السياسية في تونس، مثل أي مكان آخر في النظام الرأسمالي، لا يمكن أن تكون سوى حرية شكلية، كما أكّد تروتسكي في العديد من كتاباته: "الديمقراطية البرجوازية هي مجرد قشرة، بينما يبقى الاستغلال جزءًا أساسيًا من الهيكل". عندما تتحكم الطبقات المالكة في وسائل الإنتاج، تكون الحريات السياسية محكومة بالمصلحة الطبقية، التي تضمن بقاء النظام الرأسمالي على حاله. ولا شك أن انتخابات 2011 في تونس، على الرغم من أنها أسفرت عن تنافس سياسي بين الأحزاب، أظهرت ضعف التوجه الثوري الحقيقي الذي كان من المفترض أن ينطلق من الطبقات الكادحة. الإيديولوجيات البرجوازية التي حاولت السيطرة على المسار الثوري، سواء من قبل الأحزاب الليبرالية أو الإسلام السياسي، أفرغت الثورة من مضمونها الاجتماعي الجذري. في هذا السياق، تعتبر "حرية الرأي" في تونس جزء من أدوات النظام الرأسمالي لتصريف التناقضات التي تعيشها البلاد. 2. الثورة التونسية: لحظة انفجار للتناقضات البنيوية التحولات التي حدثت بعد الثورة التونسية المغدورة لم تقتصر على تغيير الوجوه السياسية فحسب، بل كانت بمثابة محاولة لتحويل تونس إلى "ديمقراطية" تابعة للنظام الرأسمالي العالمي. إلا أن هذه المحاولة لم تكن إلا بمثابة رد فعل للتمرد الشعبي الذي انفجر نتيجة تدهور الوضع المعيشي والاقتصادي للطبقات الشعبية. وُصِفَت الثورة بأنها لحظة "انفجار للتناقضات"، حيث تجسد رفض الناس للنظام القائم على الفساد والفقر. تروتسكي، في كتاباته حول الثورة الدائمة، أكد أن الثورات في البلدان ذات الاقتصادات الهشة لا يمكن أن تكون ثورات وطنية محضة، بل يجب أن تكون جزءًا من صيرورة عالمية متواصلة. الثورة التونسية فشلت في هذا التوجه، لأنها لم تجد الدعم الدولي من الحركات الثورية في المنطقة والعالم، بل تم استغلالها من قبل القوى الغربية لفرض أجنداتها الخاصة. 3. حرية التعبير تحت سطوة السوق مع الثورة وظهور موجة من "الحرية الإعلامية"، تم استعادة السيطرة على الإعلام من قبل نفس القوى الاقتصادية التي كانت تهيمن عليه في النظام السابق. وسائل الإعلام الجديدة في تونس أضحت مساحات للإعلانات التجارية الكبرى والسياسات النيوليبرالية. وسائل الإعلام لم تكن أداة لتحرير العقل الجماعي للشعب، بل أداة أخرى لتسويق وهم الحرية في إطار نفس النظام الرأسمالي. كما قال ميشيل فوكو: "السلطة لا تتوقف عند القمع المباشر، بل تتسلل إلى المجالات التي كانت تبدو محايدة، كالإعلام والتعليم". الإعلام التونسي بعد الثورة كان جزء من صناعة السوق التي تبيع وتشتري في هوية المجتمع وحرياته. لقد رَسَخت هذه الوسائل الإعلامية وعيًا مُسلّطًا لم يكن سوى تعزيز للهيمنة الاقتصادية والسياسية. 4. غياب الحريات الاجتماعية: جوهر الثورة المسكوت عنه بينما كانت الحريات السياسية محطّ اهتمام واسع، نُهِكت الحريات الاجتماعية والمساواة الاقتصادية، وهنا تكمن إحدى أكبر مفارقات الثورة التونسية. التحولات السياسية لم تؤثر بشكل جوهري في بنية الطبقات الاجتماعية؛ بل بقيت الطبقات الفقيرة تعيش تحت وطأة البطالة، والفقر، واللامساواة. فحتى في ظل الديمقراطية الشكلية التي جاءت بعد الثورة، لم تكن هناك آلية حقيقية لمكافحة الظلم الاجتماعي والاقتصادي. كتب ماركس في "البيان الشيوعي" أن "الطبقات الحاكمة لا تهتم بحريات الشعب الاجتماعية، بل بحرياتهم في استمرار استغلالهم". إن غياب العدالة الاجتماعية من مسار الثورة جعل الحريات محكومة بعلاقات طبقية بائسة، ما أدى إلى عدم تغيير هيكل السلطة الاقتصادية، رغم التحولات السياسية الظاهرة. 5. الشباب المهمّش: طاقة ثورية مهدورة شهدت الثورة التونسية اندفاعًا هائلًا من الشباب الذين أطلقوا الحراك الثوري، ولكن بعد اندلاع الثورة، لم يتم استثمار طاقاتهم الثورية بشكل إيجابي. بدلاً من أن يكون الشباب القائد للمشروع الثوري الاشتراكي، أصبحوا ضحايا لوهم التغيير السريع، وتم قمع طموحاتهم وتوجيههم إلى المشاركة في انتخاباتٍ لا تحمل أي معنى حقيقي لتغيير النظام الاجتماعي. كانت النخب السياسية التي حلت محل النظام القديم غير قادرة على استيعاب تلك الطاقات الثورية أو توجيهها نحو بناء مجتمع جديد. كما أكد لينين: "الشباب يجب أن يكون حليفًا للثورة المستمرة التي تحطم كافة القيود". دور الشباب في الثورة كان يجب أن يُحول إلى نضال جماعي لا يتوقف، ولكن الحركات السياسية التقليدية اكتفت بالتمثيل الرمزي دون تقديم برنامج تحرري ينسجم مع آمال الشباب. 6. اختزال الثورة في صناديق الاقتراع من المؤسف أن يتم اختزال الثورة التونسية في عملية انتخابية، مما أسهم في تحجيم روحها التحررية الأصلية. الانتخابات لم تكن سوى إعادة تشكيل لنظام رأسمالي جديد مع استبدال الوجوه، حيث تم القبول بما يعرف بـ "الديمقراطية الشكلية" التي تستمر في هيمنة طبقة قليلة على ثروات البلاد. كما قال ماركس: "الديمقراطية في ظل الرأسمالية لا تُنتج سوى دكتاتورية الطبقات المالكة". في هذا السياق، لا يمكن أن تُعتبر انتخابات 2011 بداية فصل جديد في التاريخ التونسي، بل كانت مجرد إعادة تدوير لنظام الاستغلال. الأحزاب التي صعدت إلى السلطة، سواء كانت إسلامية أو ليبرالية، لم تكن لديها الإرادة لتغيير جذري في السياسات الاقتصادية، بل كانت في صراع على المصالح الضيقة. وهكذا، بقيت الأغلبية الساحقة من الشعب التونسي تُعاني من البطالة، وتدهور الخدمات الاجتماعية. 7. ماذا نُريد؟ من الإصلاح إلى الثورة الدائمة بينما تم طرح الثورة التونسية كمسعى للانتقال إلى "ديمقراطية حقيقية"، كانت النظرة الثورية الحقيقية غائبة عن المشهد. الثورة لم تكن فقط لتحسين الأوضاع السياسية، بل لتغيير جذري في البنى الاقتصادية والاجتماعية التي تحكم حياة الجماهير. كما قال تروتسكي في "الثورة الدائمة": "الثورات لا تنتهي في حدود الدولة القومية، بل هي جزء من تحول عالمي يعيد تشكيل النظام الاقتصادي والاجتماعي". إن الانتصار الحقيقي للثورة يكمن في الثورة الدائمة التي يجب أن تتجاوز حدود النظام السياسي القائم، وأن تسعى لتغيير جذري في توزيع الثروة ووسائل الإنتاج. نحن بحاجة إلى تجاوز النظام الرأسمالي، ليس بإصلاحاته الشكلية، بل من خلال الثورة الاشتراكية التي تنقض الهيمنة الطبقية. 8. قمع الحركات الاجتماعية: من الثورة إلى الاستعادة في الفترة ما بعد الثورة، لم تتوقف عمليات القمع الاجتماعي والاقتصادي. رغم "الحرية" السياسية التي تم التباهي بها، إلا أن التفاوت الطبقي لم يتغير، بل ازداد حدة. الحركات العمالية والفلاحية، التي كان من المفترض أن تكون الحامل الثوري الحقيقي للمشروع الاشتراكي، تعرضت لتجاهل ممنهج من النخب السياسية. تلك الحركات كانت تتعرض للهجوم من القوى السياسية المسيطرة، التي لا ترى في الطبقات العاملة سوى أداة للانتخابات، لا أكثر. كما قال روزا لوكسمبورغ: "الثورة لا تُبنى عبر الاستفتاءات، بل عبر الاشتباك الطبقي المستمر". 9. المقاومة الطبقية في الشارع أحد أبرز أوجه الثورة التونسية كان الاحتجاجات الشعبية العارمة التي اجتاحت البلاد، مما يعكس الصراع المستمر بين الطبقات الحاكمة والطبقات الكادحة. تلك الاحتجاجات لم تكن مجرد ردود فعل على السياسات الاقتصادية، بل كانت تعبيرًا عن الاستياء العميق من نظام استغلالي لا يهتم سوى بتركيز الثروة بيد القلة. كما يقول ماركس في "رأس المال": "يعيش البشر في المجتمع في إطار علاقات طبقية متصارعة، وهذا الصراع هو ما يعين حركة التاريخ". الشارع التونسي كان ساحة للاحتكاك بين الوعي الطبقي الكامن والتعبير السياسي الواعي عن هذا الوعي، وهو ما يثبت أن الثورة التونسية لم تكن مجرد لحظة عابرة، بل كانت صراعًا مستمرًا للمطالبة بالعدالة الاجتماعية. المظاهرات التي اندلعت في مختلف المناطق التونسية، سواء في المناطق الداخلية أو في العاصمة، كانت تحمل في طياتها بُعدًا اجتماعيًا اقتصاديًا عميقًا. وكان من الواضح أن المطالب لم تكن فقط تتعلق بحرية التعبير أو انتخاباتها، بل تتعلق بتغيير جذري في بنية النظام الاجتماعي الذي استمر في توجيه الثروات إلى النخبة المالكة. لهذا، كان من الضروري أن تتحول تلك الاحتجاجات إلى نضال من أجل حقوق طبقية فاعلة، تأخذ على عاتقها مواجهة السيطرة الاقتصادية. 10. الانتخابات البرجوازية: أداة لإعادة إنتاج النظام عند الحديث عن الانتخابات في تونس، لا يمكن إغفال الدور الذي لعبته كأداة لإعادة إنتاج النظام الطبقي القائم. هذا الانتقال السريع من "الثورة" إلى الانتخابات لم يكن إلا تسوية طبقية تهدف إلى حماية مصالح الطبقات المالكة التي لا يمكنها القبول بأي تغيير جذري في توزيع الثروة. الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت بعد الثورة لم تكن سوى فرصة لتوظيف "الديمقراطية" كواجهة تستر استمرار السيطرة الطبقية. كما يؤكد لينين في "الدولة والثورة": "الديمقراطية البرجوازية ليست سوى أداة لخدمة الطبقة المالكة". لقد تم استخدام الانتخابات للترويج لإصلاحات لا تمس جوهر النظام الرأسمالي. لم يكن هناك حديث حقيقي عن توزيع الثروة، ولا عن قضايا الطبقات العاملة والفلاحين، بل كان الحديث عن الاستقرار السياسي على حساب التغيير الاجتماعي. كانت الأحزاب التي صعدت إلى السلطة، سواء كانت إسلامية أو ليبرالية، تمثل مصالح الطبقات الحاكمة، مما أدى إلى تفريغ الثورة من مضمونها الطبقي العميق. 11. دور المرأة في الثورة: من التحرر إلى الهامشية لطالما كان دور المرأة في الحركات الثورية محوريًا، لكن الثورة التونسية لم تكن استثناءً من هذا الهامش الذي يضع النساء في موقع أقل أهمية من حيث تحقيق مطالبهن الاجتماعية. في حين كان للمرأة دور بارز في الشوارع والمظاهرات، إلا أنها لم تكن جزء من عملية اتخاذ القرارات السياسية الجوهرية بعد الثورة. سواء في الأحزاب السياسية أو في البرلمان أو في الهيئات الحكومية، لم يتمكنن من التأثير الجذري في المسار الثوري. كما قالت سيمون دي بوفوار: "المرأة لم تُناضل من أجل الحرية، بل لتحصل على الحقوق التي تُنسب إلى الإنسان". المساواة الجندرية كانت دائمًا جزء من مطالب الثورة، لكن النظام الجديد بعد الثورة فشل في تحقيق هذه المساواة بشكل ملموس، بل ظلت المرأة التونسية، خصوصًا من الطبقات الفقيرة والعمالية، تعيش تحت نفس الظروف القاسية التي كانت موجودة قبل الثورة. إن هذه الإخفاقات كانت تعكس حجم الهيمنة الطبقية في الثورة، حيث تم إقصاء الفئات الاجتماعية الأكثر اضطهادًا عن تمثيلها في الصراع السياسي. لم تقتصر التحديات التي واجهتها المرأة التونسية في سوق العمل على قضايا التحرش والتمييز، بل إن الثورة نفسها لم تُنتج تغييرات جوهرية في وضعها الاقتصادي. رغم أن المرأة التونسية تشكل نسبة كبيرة من القوة العاملة في القطاع الفلاحي والصناعي، فإنها تواجه استغلالًا مضاعفًا، حيث تتقاضى أجورًا أقل مقارنة بالرجال، وتُجبر على العمل في ظروف غير لائقة. كما أن غياب السياسات الاقتصادية التي تعزز حقوق النساء في سوق العمل يعكس عدم التزام الحكومة بتحقيق المساواة بين الجنسين بعد الثورة. هذا الاستغلال المزدوج يعيد إلى الأذهان مقولة كارول هانش في "النسوية والاقتصاد": "النساء، في أي مرحلة تاريخية، يعانين من استغلال مضاعف لا يقتصر على تهميشهن الاجتماعي، بل يتعدى ذلك إلى استغلالهن الاقتصادي". الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمرأة التونسية بعد الثورة يُظهر بوضوح كيف أن المطالب النسوية تم تهميشها في خضم الصراع الطبقي، بينما تُستغل النساء في إطار النظام الاقتصادي القائم. 12. استمرارية الهيمنة الاقتصادية: التوجه نحو النيوليبرالية إحدى الحقائق الصادمة التي برزت بعد الثورة هي تحول الاقتصاد التونسي نحو سياسات نيوليبرالية أكثر صرامة. البرامج الاقتصادية التي كانت تُنفذ تحت إشراف الحكومة الجديدة لم تكن تمثل أي تغيير جوهري في بنية النظام الاقتصادي. بل على العكس، تم تكريس سياسات الخصخصة وتحرير السوق، مما أدى إلى تعميق الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء. كما قال هيغل: "التاريخ يعيد نفسه ككوميديا"، وها نحن نرى أن النظام الجديد لا يعيد سوى نفس السياسات التي استمرت في نهب الموارد الطبيعية والإنسانية لصالح الطبقات المالكة. من خلال فرض برامج التقشف من قبل مؤسسات المال العالمية، تحولت تونس إلى سوق مفتوحة للمستثمرين الأجانب، مع تجاهل تام للمصالح الاجتماعية للمواطنين التونسيين، خاصة الطبقات الفقيرة. هذا التوجه النيوليبرالي لم يقتصر على القطاع الخاص، بل امتد ليشمل الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم، التي شهدت تدهورًا كبيرًا بعد الثورة. 13. عدم تصعيد الثورة: الثورة المؤجلة من المفارقات الكبرى في الثورة التونسية أنها لم تنجح في الانتقال من الحراك الشعبي إلى التحول الاشتراكي المنشود. يمكن القول إن الثورة التونسية كانت "ثورة مؤجلة"، حيث لم تُعِر القوى السياسية الفاعلة الاهتمام الكافي للتحولات الجذرية التي كان من المفترض أن تأخذ مكانها، مثل تأميم الموارد أو تعزيز قدرة الطبقات الكادحة على التنظيم. كما أشار ماركس في "البيان الشيوعي"، "الثورة الحقيقية هي تلك التي تغير وضع البشر في المجتمع بشكل كامل"، لكن الثورة التونسية لم تستطع أن تنجز هذا التحول الجذري. وكان ذلك نتيجة لاستمرار هيمنة الطبقات المالكة على الاقتصاد والسياسة، وهو ما جعل النظام القديم يُعاد إنتاجه بشكل جديد. إن استعادة الثورة واشتدادها إلى أقصى حد ممكن كان يتطلب بلورة استراتيجية طموحة ومتماسكة من قبل القوى الثورية الحقيقية، وهو ما لم يحدث. 14. الثورة العمياء: المفقود في الفهم الطبقي على الرغم من الاحتجاجات الشعبية الهائلة التي اجتاحت تونس في 2011، كانت الثورة التونسية تفتقر إلى وعي طبقي عميق يعكس جوهر الاستغلال الاجتماعي. فالثورة، كما يقول تروتسكي، لا يمكن أن تكون "ثورة عمياء"، بل يجب أن تكون ثورة تحمل معها وعيًا ثوريًا لمفاهيم الاشتراكية والعدالة الطبقية. الثورة التونسية، رغم قوتها الشعبية، كانت تعاني من غياب الرؤية الطبقية الثورية التي كانت ستقودها نحو استكمال المشروع الاشتراكي. كانت هناك العديد من الحركات الثورية التي اختارت الانخراط في مشروع سياسي بعيد عن الطبقات الشعبية، مما جعل الثورة تشعر بالفراغ من الداخل. عوضًا عن أن تكون هذه الثورة لحظة تحرر طبقي شامل، كانت مجرد اعتراض مؤقت، لا يحمل في طياته الإمكانية الثورية التي تعيد تشكيل المجتمع بشكل جذري. 15. التفاوت الإقليمي والتهميش المستمر كان الفارق بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية في تونس، قبل وبعد الثورة، نقطة محورية في تحديد طبيعة العلاقات الطبقية في البلاد. المدن الكبرى مثل تونس العاصمة، سوسة، وصفاقس استفادت بشكل كبير من الاستثمارات والتنمية الاقتصادية، بينما ظلت المناطق الداخلية، مثل القصرين، الكاف، جندوبة ، قفصة ، قبلي ، سيدي بوزيد ... الخ ، تعاني من التهميش المستمر. هذه الفجوة لم تنته بعد الثورة بل استمرت، بل أصبحت أكثر وضوحًا، حيث أن الحكومة الجديدة لم تستطع أو لم ترغب في معالجة الأسباب الجذرية لهذا التفاوت الإقليمي. إن تجاهل مطالب المناطق الداخلية في أي برنامج تنموي بعد الثورة يعكس تعمق العلاقات الطبقية القائمة في تونس. كما أكد أنطونيو غرامشي في ملاحظاته حول الهيمنة: "الطبقات الحاكمة تستطيع أن تبني جدرانًا لتفصل بين الطبقات، ولكن مع هذه الجدران تأتي مشاعر القهر". لقد أدى هذا التهميش إلى اندلاع العديد من الاحتجاجات في تلك المناطق، مثل احتجاجات الحوض المنجمي في 2008، التي لم تجد أذنًا صاغية من النظام الذي تلاه، مما يعكس التحدي الكبير في بناء مجتمع عادل ومتكافئ. 16. القمع المزدوج: الثورة والتصعيد الأمني من المفارقات أن الثورة التونسية، التي بدأت كرد فعل على القمع السياسي والاجتماعي، قد أثمرت أيضًا في تعزيز القمع من خلال أذرع الدولة الأمنية. بعد الإطاحة بنظام بن علي، شهدت البلاد تصعيدًا في الإجراءات الأمنية التي لم تقتصر على مواجهة الحركات السياسية المعارضة فحسب، بل شملت أيضًا المجتمع المدني والصحافة. إن جهاز الأمن، الذي كان جزء من النظام الاستبدادي، أصبح الآن أداة في يد السلطة الجديدة لتثبيت الأوضاع القائمة. كما يرى ميشيل فوكو في "المراقبة والعقاب": "السلطة لا تختفي بعد سقوط الأنظمة، بل تتخذ أشكالًا جديدة". وبالفعل، كانت هذه السلطات الأمنية قادرة على استيعاب المطالب الاجتماعية والمطالب الطبقية للثوار، دون أن تنجح في فرض أي تغيير حقيقي في هيكل السلطة. هذا التصعيد الأمني عمل على حماية مصالح الطبقات الحاكمة والمستفيدين من النظام القديم، وخلق محيطًا من القمع السياسي المنظم. لم تتغير العلاقة بين المواطن والدولة بشكل جذري، بل تم تجديد آليات القمع. 17. دور الإعلام في إعادة صياغة الثورة من العوامل التي أثرت على مسار الثورة التونسية، دور الإعلام، الذي كان عاملاً محوريًا في تشكيل الرأي العام وتوجيه الاحتجاجات. وقد أظهر الإعلام التونسي، سواء المحلي أو الدولي، قدرة على تقديم صورة "مثالية" للثورة، وهو ما يعكس تمامًا كيفية استغلال القوى السائدة للإعلام لصالحها. بدلاً من أن يتم تسليط الضوء على الصراع الطبقي الجذري أو على مطالب الفئات المهمشة، تم التركيز على الجوانب "الوردية" للثورة، مثل حرية التعبير والانتخابات الديمقراطية، مع إغفال القضايا الجوهرية مثل العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة. كما يقول غرامشي في "دفاتر السجون": "إن القوة لا تقتصر على الجيوش أو الأسلحة فقط، بل تمتد لتشمل الإعلام والتعليم والثقافة". لقد نجحت النخب الإعلامية في تحويل الثورة إلى "منتج" يمكن استهلاكه عالميًا، بعيدًا عن أي مصلحة طبقية حقيقية. وفي هذا السياق، أصبحت الثورة "قصة نجاح" تروج لصورة الديمقراطية على حساب العدالة الاجتماعية. 18. دور الشباب في الثورة: من الرغبة إلى اللامبالاة من الظواهر الملفتة في الثورة التونسية هو الدور المحوري الذي لعبه الشباب في إشعال الاحتجاجات. لكن ما يثير القلق هو أن هذه الحركات الشبابية، التي كانت في البداية متوهجة بالأمل في التغيير، سرعان ما أصبحت محاصرة بين الوعود الخلبية للطبقات الحاكمة وبين الواقع المرير. هذا التحول يعكس عدم وجود برنامج ثوري حقيقي يعكس طموحات هؤلاء الشباب، الذين عادوا إلى شوارعهم بعد أن فقدوا الأمل في أن تؤدي الثورة إلى تغيير حقيقي في حياتهم. في هذا السياق، تشير مارغريتث شولتز في تحليلها للثورات الحديثة: "الشباب هم الأمل الثوري، لكنهم في غياب الوعي الطبقي يتحولون إلى ضحايا الوعود الكاذبة". لقد تحول حلم الشباب التونسي إلى حالة من اللامبالاة السياسية، خاصة بعد أن شهدوا استمرار النظام الاقتصادي النيوليبرالي وحلول نفس النخب السياسية على رأس السلطة. الشباب التونسي، الذين كانوا من أبرز المشاركين في الثورة، لم يحظوا بالفرص الاقتصادية التي كانوا يتطلعون إليها. فعلى الرغم من شعارات "العدالة الاجتماعية" التي رفعتها الثورة، لا يزال معدل البطالة بين الشباب في تونس مرتفعًا للغاية، خاصة في المناطق الداخلية. في الوقت الذي تتجه فيه النخب السياسية نحو تحقيق مصالحها الخاصة، يظل الشباب التونسي دون أفق حقيقي للعمل أو التقدم الاجتماعي. كما يؤكد بيير بورديو في "الطبقات الاجتماعية": "الشباب يمثلون الطبقة الأكثر هشاشة في المجتمع، فهم يحملون الآمال التي تُختطف منهم من قبل النظم الاقتصادية والسياسية التي تستغلهم". هذا الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية للشباب التونسي بعد الثورة تشير إلى أن الثورة لم تكن بالقدر الكافي من التغيير الجذري للواقع الذي يعيشه جيل بأسره. 19. الهجرة كحل للفقر: تعميق العلاقة بين الطبقات إن الهجرة كانت، ولا تزال، خيارًا رئيسيًا للعديد من الشبان التونسيين الهاربين من الفقر والعطالة. وبعد الثورة، لم تتغير الأسباب التي تدفع هؤلاء الشباب إلى مغادرة البلاد، بل على العكس، استمر الاضطهاد الطبقي في دفع العديد منهم نحو الهجرة إلى أوروبا أو إلى دول الخليج. هذا التوجه يعكس صورة أخرى من صور استغلال الفئات الفقيرة في المجتمع، حيث يُجبر هؤلاء الشباب على مغادرة وطنهم بحثًا عن فرص أفضل، بينما تستمر النخب الحاكمة في السيطرة على الثروات. كما قال ماركس في "الإيديولوجيا الألمانية": "الهجرة ليست فقط هروبًا فرديًا، بل هي أيضًا ظاهرة جماعية تعكس التفاوت الطبقي". الهجرة التونسية، إذن، ليست مجرد اختيار فردي، بل هي تعبير عن الفشل المستمر في بناء مجتمع يوفر حياة كريمة للجميع. 20. هيمنة القطاع الخاص على الاقتصاد التونسي بعد الثورة مع انهيار النظام الاستبدادي، كان من المتوقع أن تحدث تحولات جذرية في هيكل الاقتصاد التونسي لصالح الطبقات الشعبية. ولكن ما حدث فعلاً هو أن القطاع الخاص، الذي كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالنظام السابق، تمتع بنمو غير مسبوق بعد الثورة. وباتت الشركات الكبرى ، و البنوك الخاصّة ، سواء كانت محلية أو أجنبية، تهيمن على مختلف القطاعات الاقتصادية، من الصناعات إلى الخدمات. هذا التراكم للثروات في يد قلة قليلة يعكس بشكل جلي الاستمرار في تكريس النظام النيوليبرالي في تونس بعد الثورة، والذي لا يختلف في جوهره عن النظام الذي أسقطته الثورة نفسها. كما يقول ديفيد هارفي في "النيوليبرالية: تاريخ مختصر": "النيوليبرالية هي الوسيلة المثلى للحفاظ على استمرارية الهيمنة الطبقية في وجه التحولات السياسية". وبالفعل، فإن القطاع الخاص في تونس لم يتأثر بتغييرات النظام السياسي، بل استمر في استغلال الوضع الاقتصادي للبلاد و الأيدي العاملة الرخيصة في حين أن الدخل الوطني تركز في أيدي قلة من الأثرياء. هذا التوزيع غير العادل للثروة يعكس بوضوح غياب العدالة الاجتماعية بعد الثورة. 21. الفقر المستمر في قلب المدن الكبرى لا تقتصر معاناة الطبقات الشعبية على المناطق الداخلية فحسب، بل إن المدن الكبرى مثل تونس الكبرى ، التي كانت مركز الاحتجاجات الثورية، تشهد أيضًا استمرارًا كبيرًا للفقر والتهميش. بين الأحياء الراقية والمناطق العشوائية في العاصمة، يكمن التفاوت الصارخ في مستويات الحياة. حيث يعيش جزء من السكان في ضواحي المدينة الكبرى في ظروف بائسة، بينما يسيطر آخرون على النخبة الحاكمة على الثروات والأراضي. هذه الفجوة لا تتعلق فقط بالثروات المادية، بل أيضًا بالفرص التعليمية والصحية، التي تجعل الطبقات الفقيرة في المدن الكبرى محاصرة في حلقة من الفقر والإقصاء. في هذا السياق، يشير توماس بيكيتي في "رأس المال في القرن الواحد والعشرين" إلى أن "المدينة هي المكان الذي تبرز فيه الاختلافات الطبقية الأكثر وضوحًا. فالظاهرة الحضرية تجمع بين الثراء الفاحش والفقر المدقع في نفس الفضاء الجغرافي". هذا يوضح بجلاء كيف أن المدن التونسية الكبرى أصبحت مواقع لترسيخ التفاوت الطبقي، وليس لتحقيق العدالة الاجتماعية التي كانت الثورة تأمل في تحقيقها. في ظل الأزمة الاقتصادية المستمرة، يعاني العديد من التونسيين من أزمة سكنية خانقة، حيث ارتفعت أسعار العقارات بشكل غير مسبوق بعد الثورة. في الوقت الذي كان فيه الأمل في التحول الاجتماعي، لم تستفد الطبقات الشعبية من هذا التغيير، بل على العكس، أصبحت تقترب أكثر من حافة الفقر. كما يشير أتيليو بوردينون في "الأزمات السكنية والنمو غير المتوازن": "إن أزمة السكن ليست مجرد مشكلة لوجستية، بل هي انعكاس للاقتصاد الذي يعمل على تعزيز الطبقات العليا على حساب الفقراء". هذا ينطبق بشكل واضح على الوضع التونسي بعد الثورة، حيث أصبح السكن حلمًا بعيد المنال للعديد من التونسيين، بينما استمرت الطبقات العليا في تحقيق أرباح طائلة من السوق العقاري 22. أزمة التعليم وغياب العدالة التعليمية من بين أكبر الإخفاقات التي واكبت الثورة التونسية كانت الفجوة المتزايدة في النظام التعليمي. رغم الثورة على الظلم الاجتماعي والسياسي، بقيت المدرسة التونسية محكومة بالطبقية، حيث لا يزال أبناء الطبقات الوسطى والعليا يدرسون في مدارس خاصة بمستوى تعليمي عالٍ، بينما يعاني أطفال الطبقات الفقيرة من نقص كبير في الموارد التعليمية وفرص التعلم. هذا التفاوت في الفرص التعليمية يعكس استمرارية النظام الطبقي، حيث لا تزال الفرص المحدودة في مجال التعليم تظل حكرًا على الطبقات الاجتماعية المميزة. كما أكد على ذلك بيير بورديو في "إعادة إنتاج": "التعليم ليس مجرد وسيلة للمعرفة، بل هو أداة لإعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي". وفي السياق التونسي، يعزز النظام التعليمي الحالي هذه اللامساواة، مما يجعل من الصعب على الفئات الفقيرة أن تحقق تحسينًا في وضعها الاجتماعي. هذه الأزمة التعليمية تضاعف من الفجوة بين الطبقات، وتزيد من التهميش الاجتماعي للأجيال الجديدة. 23. تزايد الفساد في ظل الحكومات الانتقالية مع بداية الانتقال السياسي في تونس بعد الثورة، كان من المتوقع أن يشهد البلد تغييرًا جذريًا في آليات الحكم والشفافية. ولكن الواقع أظهر أن الفساد لم يختفِ، بل ازداد تطورًا وتوغلًا في بنية الدولة بعد الثورة. الحكومات المتعاقبة بعد بن علي لم تقدم حلولًا حقيقية لمكافحة الفساد، بل استمرت النخب القديمة في الاستفادة من صفقات مشبوهة، مما جعل الطبقات الشعبية تدرك أن الثورة لم تكن سوى تغيير في الوجوه بينما بقيت ممارسات الفساد على حالها. كما قال لوي ألتوسير في "الإيديولوجيا وأجهزة الدولة": "أجهزة الدولة لا تتغير بتغيير الأشخاص في السلطة، بل تستمر في الحفاظ على هيمنتها على الطبقات الشعبية". وهذا ما حدث في تونس، حيث استمر الفساد في التأثير على السياسة والاقتصاد، مما أثر سلبًا على أي محاولات لإحداث تغييرات حقيقية في حياة المواطنين. 24. النظام النقدي وارتباطه بالاستعمار الجديد من النقاط التي لا يمكن إغفالها عند الحديث عن الثورة التونسية هو ارتباط النظام النقدي التونسي بالاقتصاد العالمي. بعد الثورة، كانت تونس تحت ضغط متزايد من المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي فرضت شروطًا اقتصادية صارمة على البلاد مقابل القروض. هذه الشروط، التي تتضمن خفض الدعم على السلع الأساسية وتحرير السوق، لا تمثل مجرد قروض مالية، بل هي عملية استمرارية للاستعمار الجديد في شكل اقتصادي. كما يشير فرانز فانون في "معذبو الأرض": "الاستعمار لا يقتصر على السيطرة العسكرية والسياسية، بل يمتد إلى الهيمنة الاقتصادية عبر المؤسسات المالية". هذه الهيمنة الاقتصادية المستمرة تعني أن تونس لا تزال محكومة من قبل القوى الاقتصادية العالمية، مما يعرقل أي محاولة لبناء اقتصاد مستقل يخدم مصالح الطبقات الشعبية. 25. تراجع الزراعة التونسية وأثرها على الطبقات الفقيرة من بين أكبر التحديات التي واجهت تونس بعد الثورة هو تراجع القطاع الزراعي، الذي يعتبر مصدرًا رئيسيًا للعيش بالنسبة للعديد من العائلات الريفية الفقيرة. ففي حين كانت الثورة تركز على شعار "الحرية والعدالة الاجتماعية"، إلا أن سياسات الحكومة الانتقالية لم تولِ اهتمامًا كافيًا للقطاع الفلاحي، الذي شهد انهيارًا في الأسعار وتدهورًا في البنية التحتية الزراعية. وبينما يتجه الاقتصاد التونسي نحو مزيد من التوجه نحو التصنيع والخدمات، فإن الطبقات الفقيرة، خاصة في المناطق الريفية، وجدت نفسها محاصرة في وضع اقتصادي صعب، بعد تدمير مواردها الاقتصادية الأساسية. في هذا السياق، قال مايكل هاردت وآنتوني نيجري في "الإمبراطورية": "بينما تجذب العولمة موارد الطبقات العليا، تترك الطبقات الشعبية رهينة لما تبقى من نظام اقتصادي هزيل". هذا يعني أن الطبقات الفقيرة في تونس، وخاصة في الأرياف، لم تتمكن من الاستفادة من نتائج الثورة بشكل حقيقي، بل شهدت تدهورًا متزايدًا في أوضاعها المعيشية. 26. تزايد استثمار الشركات الكبرى في السياحة والموارد الطبيعية بعد الثورة، تمكنت الشركات الكبرى، بما في ذلك الشركات الأجنبية، من الاستحواذ على الموارد الطبيعية في تونس، بما في ذلك الأراضي الزراعية والمناجم والشواطئ. وقد سهلت الحكومة الانتقالية هذه الاستثمارات، في إطار سياسة التحرير الاقتصادي التي تسعى لتحقيق نمو اقتصادي سريع، رغم أن ذلك يتم على حساب الطبقات الشعبية والبيئة. هذه السياسات أدت إلى زيادة التفاوت الطبقي، حيث استفاد الأغنياء والمستثمرون الأجانب من الثروات الطبيعية، بينما بقيت الطبقات الفقيرة محرومة من هذا الاستفادة، وواجهت التدهور البيئي نتيجة لهذه الاستثمارات غير المنضبطة. في هذا الصدد، قال كارل ماركس في "رأس المال": "كلما زادت ثروات الرأسماليين، ازداد جوع الطبقات الفقيرة، التي أصبحت من دون حقوق في مواردها". هذا ينطبق بشكل كبير على الوضع في تونس بعد الثورة، حيث تزايد الاستثمار في القطاعات التي استفادت منها النخب، بينما عانى الفقراء من تداعيات هذه السياسات. 27. التشكيك في جدوى الديمقراطية بعد الثورة بعد سنوات من الثورة والتغيير، أصبح هناك شعور متزايد في تونس بأن الديمقراطية التي جاء بها الربيع العربي لم تحقق تطلعات الشعب. ففي الوقت الذي استبشر فيه العديد بمستقبل سياسي جديد، وجدت الطبقات الشعبية نفسها أكثر تهميشًا من أي وقت مضى، بينما استمر الفساد والمحسوبية في التأثير على مختلف مناحي الحياة السياسية. الانتخابات الحرة لم تُترجم إلى تغيير حقيقي في الحياة اليومية للعديد من التونسيين، وأصبح العديد يعتقد أن الثورة قد "سرقت" منهم. في هذا السياق، يقول أنطونيو غرامشي في "ملاحظات حول الهيمنة": "الديمقراطية في المجتمعات الرأسمالية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل هي عملية استمرارية للهيمنة الطبقية". هذه المقولة تعكس الوضع في تونس، حيث أصبح يُنظر إلى الديمقراطية على أنها مجرد وسيلة لتسويق هيمنة النخب الجديدة التي جاءت بعد الثورة، دون أن تؤدي إلى أي تحسن حقيقي في أوضاع الطبقات الفقيرة.. 28. تكريس العلاقات النيوكولونيالية في السياسة الخارجية رغم الثورة وتغيير النظام السياسي، إلا أن السياسة الخارجية التونسية ظلت تحت تأثير القوى الاستعمارية القديمة، خاصة فرنسا. العلاقات الاقتصادية والسياسية مع فرنسا لم تشهد تغييرات جذرية بعد الثورة، مما يسلط الضوء على استمرار هيمنة النيوكولونيالية في السياسة التونسية. حيث استمرت تونس في التبعية الاقتصادية والتجارية للاتحاد الأوروبي، مما أضاع فرصًا حقيقية لتحقيق استقلال اقتصادي واجتماعي. كما يقول إدوارد سعيد في "الاستشراق": "النظام العالمي لا يتغير بتغيير الأنظمة السياسية، بل تبقى العلاقات الاقتصادية والسياسية غير المتكافئة". في هذا السياق، استمرت تونس في الوقوع تحت تأثير القوى الاستعمارية القديمة، مما عرقل تحقيق استقلالها الحقيقي بعد الثورة. 29. تراجع الزراعة التونسية وأثرها على الطبقات الفقيرة بعد الثورة، كانت الزراعة التونسية تمثل أحد أعمدة الاقتصاد الوطني، وخاصة في المناطق الريفية التي يعتمد سكانها بشكل كبير على هذا القطاع. ومع ذلك، تراجعت الزراعة بشكل حاد بعد 2011 بسبب عدة عوامل، من أهمها الفوضى السياسية والاقتصادية، وتراجع الدعم الحكومي للقطاع الفلاحي، وتدهور البنية التحتية. فبدلاً من أن تركز الحكومة على تنمية هذا القطاع كوسيلة لتقليل الفقر وتحقيق الاستدامة، فضلت الاستفادة من العوائد السريعة من القطاعات الأخرى مثل السياحة والعقارات. لقد أدى هذا التراجع إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية في المناطق الريفية، حيث أُجبر العديد من الفلاحين على ترك أراضيهم والهجرة إلى المدن بحثًا عن فرص عمل بديلة، مما جعلهم يواجهون تحديات جديدة في بيئات حضرية تفتقر إلى البنية التحتية المناسبة، فضلاً عن التزايد المستمر في البطالة. في هذا الصدد، يمكن ربط هذه التحولات بمقولات ألكسيس دو توكفيل في "الديمقراطية في أمريكا"، حيث اعتبر أن تدهور "الطبقة الوسطى" التي تعتمد على العمل الزراعي يمكن أن يؤدي إلى زيادة في التفاوت الطبقي. لذا، تراجع الزراعة في تونس لم يكن مجرد أزمة اقتصادية، بل كان خطوة نحو تفاقم الفجوة بين الريف والمدينة، وزيادة عدد الفقراء والمهمشين. 30. تزايد استثمار الشركات الكبرى في السياحة والموارد الطبيعية شهدت تونس بعد الثورة موجة من الاستثمارات الأجنبية، خاصة في قطاع السياحة والموارد الطبيعية. وكان لهذه الاستثمارات تأثير سلبي على الطبقات الشعبية، حيث أدت إلى تهجير السكان المحليين من أراضيهم لصالح الشركات الكبرى، التي غالبًا ما كانت تتمتع بحوافز حكومية لتشجيعها على ضخ الأموال في الاقتصاد التونسي. هذا التحول، الذي بدا كفرصة للازدهار الاقتصادي، انتهى في كثير من الأحيان إلى مزيد من الاستغلال الاقتصادي للطبقات الفقيرة والمحرومة. يشير المفكر الإيطالي غرامشي في "الأدوات الثقافية للهيمنة" إلى أن النخب الاقتصادية والسياسية تسعى دائمًا إلى خلق علاقات غير متكافئة مع الطبقات الشعبية من خلال استخدام الشركات الكبرى كأدوات لزيادة تركيز السلطة والثروة في أيدي قليلة. وبذلك، نرى أن الشركات الأجنبية التي تغزو الأسواق التونسية بعد الثورة لم تساهم في تنمية الطبقات الفقيرة، بل زادت من ضعفها الاجتماعي والاقتصادي. هذه الاستثمارات غالبًا ما كانت تتجاهل احتياجات السكان المحليين، وبدلاً من تحسين حياتهم، خلقت فجوة جديدة بين الأغنياء والفقراء. 32.تهميش الشباب التونسي وتزايد البطالة رغم أن الشباب التونسي كان القوة الدافعة وراء الثورة، إلا أن هذا الجيل عانى بشدة بعد الثورة، حيث لم تكن هناك سياسات حقيقية تهتم بتوفير فرص عمل للشباب العاطل عن العمل. بينما كانت الحكومة ما تزال تركز على الاستقرار السياسي، كانت القضايا الاجتماعية والاقتصادية تُعالج بشكل سطحي للغاية. أدى هذا إلى تزايد معدلات البطالة بين الشباب، خاصة في المناطق الداخلية، التي كانت أكثر تأثرًا بالأزمة الاقتصادية. إن الأيديولوجية الاقتصادية التي تتبعها تونس بعد الثورة قد عززت من دور الرأسمالية العالمية التي لا تهتم بمصالح الطبقات الشعبية. وفقًا لدراسة أعدها معهد التنمية الاقتصادية في تونس، ارتفعت نسبة البطالة في صفوف الشباب إلى مستويات غير مسبوقة، خاصة بين حملة الشهادات الجامعية، مما دفعهم إلى التوجه نحو الهجرة أو الانخراط في أعمال غير رسمية. ماركس في "الأيديولوجية الألمانية" يقول: "الشباب يظل ضحية للنظام الاجتماعي الذي يحدد له مصيره قبل أن يُتاح له الخيار". وهذا يوضح أن الشباب التونسي، رغم مشاركته الفاعلة في الثورة، بقي ضحية للنظام الرأسمالي الذي لم يوفر له الفرص الكافية لبناء مستقبله. 31. التشكيك في جدوى الديمقراطية بعد الثورة بعد أكثر من عقد من الزمن على الثورة التونسية، لا تزال هناك حالة من الإحباط بين التونسيين، خاصة الطبقات الفقيرة والمهمشة، التي لم تستفد من التحولات السياسية التي أُجريت. بينما شهدت تونس تحولًا ديمقراطيًا، لم تنعكس هذه التغييرات في حياة المواطنين اليومية. وعلى الرغم من انتخاب حكومات متعددة، إلا أن الفساد والمحسوبية ظلَّا يشكلان حجر عثرة أمام تحقيق العدالة الاجتماعية. في هذا السياق، كان انتقاد المفكر الفرنسي ميشيل فوكو في "الأمن، الإقليم، السكان" في محله حين قال: "الديمقراطية، على الرغم من كونها الأداة التي تروج للحرية والمساواة، غالبًا ما تكون آلية لشرعنة الهيمنة الطبقية". هذا يبرز كيف أن الديمقراطية التونسية بعد الثورة لم تؤدِّ إلى تغييرات جوهرية في توزيع الثروة والسلطة، بل أفسحت المجال لنخب جديدة للاستفادة من الوضع الجديد على حساب الفقراء. 32. تكريس العلاقات النيوكولونيالية في السياسة الخارجية على الرغم من التغيير السياسي الذي شهدته تونس بعد الثورة، إلا أن علاقاتها الخارجية مع القوى الاستعمارية السابقة، خصوصًا فرنسا، ظلت قائمة على نفس الأسس النيوكولونيالية. وهذا يعني أن تونس ظلت تحت تأثير السياسات الاقتصادية التي تخدم مصالح القوى الكبرى، بينما لم تُترجم الثورة إلى استقلال اقتصادي حقيقي. وفي هذا السياق، نجد أن معظم الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية التي أبرمتها تونس مع فرنسا، أو الاتحاد الأوروبي، لم تسهم في تطوير اقتصاد تونس بشكل حقيقي، بل ظلت تلك العلاقات تشكل ضغطًا على الطبقات الفقيرة التي كانت ولا تزال ضحية لهذا النظام النيوكولونيالي. كما يقول المفكر النيجيري كوامي نكروما في "الاستقلالية: الثورة والثقافة": "الاستقلال السياسي لا يعني الاستقلال الاقتصادي ما لم تكتمل إزالة الهيمنة الاستعمارية في جميع المجالات".
إن التحولات التي شهدتها تونس بعد الثورة في عام 2011 كانت تمثل لحظة فارقة في تاريخ البلاد، حيث أضاءت آفاقًا جديدة من الأمل والطموحات لدى الشعب التونسي، خاصة لدى الطبقات الشعبية والمهمشة التي كانت تعتبر الثورة فرصة للخلاص من سنوات طويلة من القمع والاستبداد. لكن الواقع بعد أكثر من عقد من الزمن قد أظهر أن العديد من التحديات التي واجهتها تونس، سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، لا تزال قائمة، بل ربما تعمقت. لقد كشفت هذه العقد الماضي عن التباين الكبير بين الشعارات التي رفعتها الثورة والنتائج التي تحققت على الأرض، حيث بقيت الطبقات الفقيرة والمهمشة خارج دائرة التغيير الحقيقي. تراجع القطاع الزراعي في المناطق الريفية، وتزايد معدلات البطالة بين الشباب، وتدهور الخدمات الاجتماعية، وزيادة حجم الديون الخارجية، كلها كانت مؤشرات على أن الثورة لم تُترجم بالقدر الكافي إلى تحسينات ملموسة في حياة المواطنين. بما أن الزراعة، التي كانت يومًا ما المصدر الأساسي للعيش في الريف التونسي، قد تراجعت بشكل كبير بسبب سوء الإدارة وعدم دعم القطاع، فقد أصبحت هذه المناطق غير قادرة على توفير فرص عمل كافية لسكّانها، مما دفع العديد منهم إلى النزوح إلى المدن الكبرى التي كانت بدورها تعاني من أزمات اقتصادية لا تقل تأثيرًا. هذا النزوح لم يساهم في تحسين الأوضاع بل زاد من تعميق الفجوة بين الريف والمدينة، حيث جلب معه مشكلات جديدة على مستوى السكن، والبطالة، وتدهور الخدمات الأساسية. من جهة أخرى، فإن التركيز على الاستثمارات الأجنبية في القطاعات السياحية والموارد الطبيعية لم يساهم في تحسين أوضاع الطبقات الفقيرة بل كانت تفتقر إلى استراتيجيات إنمائية شاملة كانت تضمن استفادة الجميع من هذه الاستثمارات. لقد ساعدت هذه الشركات الكبرى في تعزيز الهيمنة الاقتصادية لأقلية من النخب السياسية والاقتصادية، مع تعزيز العلاقات النيوكولونيالية التي لم تسهم في استقلالية تونس الاقتصادية، بل جعلتها أسيرة للديون والضغوطات الخارجية. كما أن التجربة الديمقراطية، رغم نجاحها في إرساء أسس النظام السياسي التعددي، إلا أنها عجزت عن تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية. فبعض الحكومات المتعاقبة لم تكن قادرة على تقديم حلول جذرية للمشاكل الاقتصادية التي يعاني منها الفقراء، بل لم تُترجم التغييرات السياسية إلى تحولات اقتصادية ملموسة. البطالة بين الشباب، وتزايد الاستثمارات الأجنبية التي لم تفد سوى الفئات الأكثر قدرة، وارتفاع تكلفة الحياة كانت من بين العوامل التي أدت إلى زيادة الإحباط الشعبي. وفي هذا السياق، فإن المجتمع التونسي بحاجة إلى قراءة شاملة للثورة وتأثيراتها، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن التغيير السياسي لا يمكن أن يكون حلاً كافيًا للتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها البلاد. ومن هذا المنطلق، فإن الإشكاليات التي طرحها الواقع التونسي بعد الثورة تتطلب تحليلًا أعمق وتخطيطًا اقتصاديًا بعيد المدى، يرتكز على العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات. إن تونس بحاجة إلى إعادة التفكير في كيفية استخدام مواردها الطبيعية، وتحقيق التنمية المستدامة التي تعود بالفائدة على جميع شرائح المجتمع، بما في ذلك الطبقات الفقيرة. تحتاج البلاد إلى استراتيجيات تعليمية وصحية تمكن الأجيال الجديدة من مواجهة تحديات المستقبل بشكل أفضل، وتخلق فرصًا عمل حقيقية في القطاعات التي تخدم المصالح الوطنية. علاوة على ذلك، من الضروري إعادة تأهيل القطاع الزراعي الذي يشكل عنصرًا حيويًا في تأمين غذاء المواطنين وفي تحسين الوضع الاقتصادي في المناطق الداخلية. وهذا لا يتحقق إلا من خلال سياسات حكومية جادة وهادفة إلى دعم الفلاحين وتوفير البنية التحتية اللازمة لاستدامة هذا القطاع. عند الحديث عن الديمقراطية، لا بد من التأكيد على أن الديمقراطية الحقيقية لا تقتصر على انتخابات نزيهة بل تتطلب أيضًا مناخًا اقتصاديًا واجتماعيًا يعكس العدالة والمساواة بين جميع الطبقات. من دون هذا، فإن الديمقراطية تصبح مجرد واجهة تبرز للتجميل، بينما يبقى الواقع الاجتماعي والاقتصادي كما هو، بل ربما يتفاقم. في الختام، إن الثورة التونسية قد فتحت بابًا للأمل والحرية، لكنها في الوقت نفسه كشفت عن حجم التحديات التي لا يمكن تجاهلها. وفي المستقبل، يجب أن يكون التغيير السياسي جزءًا من تغيير اقتصادي واجتماعي أوسع، يركز على العدالة الاجتماعية وتوفير فرص الحياة الكريمة لكل المواطنين دون استثناء. وما لم تتحقق هذه الأهداف، فإن تونس ستظل تتخبط في دوامة من الأزمات التي لا تنتهي.
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدولة البوليسية المعاصرة
-
إرهابيّ أنا
-
حاسي الفريد / ما يشبه القصّة
-
المركزية الديمقراطية
-
عالم يُنتج وآخر يستهلك: الثورات الصناعية الاربعة
-
الصهيونية العربية: خيانة الداخل وخنجر في خاصرة الأمة
-
ملمّ بي
-
اسم الهزيمة
المزيد.....
-
صور إباحية مزيفة لفتيات تثير ضجة في كوريا الجنوبية.. وضحية ت
...
-
-اخرك باب المندب وترجع تاني-.. رد ساخر من علاء مبارك على ترا
...
-
صورة متداولة لاشتباكات بين الجيشين الهندي والباكستاني.. ما ص
...
-
تجربة ألمانية مثيرة ـ دخل شهري أساسي مجاني غير مشروط ودون عم
...
-
برشلونة يهزم الريال في الوقت الإضافي ويتوج بكأس الملك
-
مكملات غذائية تجنّبها إن كنت تعاني من ارتفاع ضغط الدم
-
الصين تتصدر العالم بـ102 مفاعل نووي
-
باكستان تدعو إلى تحقيق دولي في الهجوم الإرهابي على كشمير
-
إيران.. محافظة هرمزغان تعلن الحداد 3 أيام على ضحايا انفجار م
...
-
إيران.. مشاهد جوية لانفجار وحريق ميناء -شهيد رجائي-
المزيد.....
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
المزيد.....
|