عبدالرحيم كمال
كاتب
(Abdulrahim Kamal)
الحوار المتمدن-العدد: 8325 - 2025 / 4 / 27 - 02:50
المحور:
قضايا ثقافية
التعليم.. وما أدراك ما التعليم.. التعليم يعني أن تكون أو لا تكون.. حي أم ميت.. موجود أو غائب.. إنسان عاقل يفهم ويستطيع التفكير أم مجرد كائن حي مثل باقي المخلوقات من حيوانات وطيور وحشرات ونباتات.. الفرق بينها وبين الإنسان هو العقل.. والعقل لابد له من معلومات يبني عليها أفكاراً ومنظومات عقلية تسهم في تعمير الكون وتقدمه..
لكن دعونا نسأل أنفسنا أولا: هل لدينا في مصر تعليم؟ طبعاً لا.. لا.. لا بالقطع والحسم.
زينة وبريستيج
سؤال آخر: ما هو المطلوب من التعليم:
- شهادات؟ موجودة بكثرة في براويز تزركش الجدران.
- درجات علمية؟ نفس الوضع.
- وظائف محترمة؟ طبعا غير موجودة إلا بقدرة قادر.. بمساعدة صاحب مركز مرموق لا يقل عن وزير أو عضو بمجلس النواب، أو رشوة بمئات الألوف.. ومنذ أيام حسني مبارك رفعت الدولة يدها عن تعيين الخريجين الجدد.. والسبب عدم قدرة سوق العمل على استيعاب ملايين الخريجين الذين تلفظهم المدارس والجامعات سنويا، والأمر مستمر حتى الآن مع شكوى الدولة من تضخم الجهاز الإداري، ومحاولاتها الدائبة لتقليص عدد الموظفين الحكوميين، مما رسخ في وعي المجتمع –ولا وعيه- فكرة أنه لا لزوم للتعليم.. لكن ممكن أن تستفيد بالتعليم فقط كبريستيج.. واجهة براقة.. تتقدم بها للزواج.. أنا الدكتور فلان وباشتغل عامل في قهوة مثلاً.. هذا هو الواقع.
جرائم تعليمية
طبعاً العلم نفسه برئ مما سبق.. وإنما العيب يكمن في العملية التعليمية، فقد ارتكبنا سلسلة جرائم باسم التعليم الذي أفرغناه من مضمونه.. إلى درجة أن خريج الجامعة اليوم لا يستطيع كتابة جملة من خمس كلمات دون ارتكاب أخطاء فادحة في الإملاء، ولو قرأ خبراً في جريدة طبعاً سيؤذي أذنيك بنصب الفاعل ورفع المفعول.. وكسر رقبة خبر "إنّ".. ورفع المضاف إليه حتى يصعد إلى الطابق السابع.
جدوى التعليم
ما الجدوى من التعليم إذن.. الدور الأهم للتعليم ليس حشو الدماغ بالمعلومات.. إنما هو تكوين عقل الإنسان وتدريبه على التفكير العلمي الممنهج.. وتحليل المعلومات المتوافرة لديه، ومن هنا يحدث التطور المنشود في المجتمعات الإنسانية.
أين تقع المشكلة؟
لنكن صرحاء: نحن نواجه مشكلة.. بل كارثة مكوناتها مصرية بامتياز، كارثة التعليم بدأت بعد ثورة 1952 مع الأسف -وأنا ناصري- الثورة حققت المبدأ الثوري والإنساني الهام والذي نادي به من قبل العظيم "طه حسين" مطالباً بأن يكون التعليم كالماء والهواء، ونادى بمجانية التعليم، وهو ما حققته الثورة، وإلا ما كان لمثلي أن يتعلم.. لكن الثورة انحازت للكمّ على حساب الكيف، أصبح لدينا خريجون بالملايين، دون أن يحصلوا على تعليم جيد، للأسف خريج الجامعة لو كتبنا في شهادته أنه "حمار" حاصل على البكالوريوس أو الليسانس في الجهل لكنا صادقين دون تجاوز الحقيقة.
شهادات جامعية لفك الخط
طبعا المشكلة تبدأ من تلقي الطالب قشوراً علمية دون إعطائه المعلومة كاملة، ودون تعليمه منذ الصغر كيفية الحصول على المعلومة ثم كيف يمكنه تقييمها، يقتنع بها أو يرفضها، هي مبادئ النقد الأولية لكل ما في الكون.. إضافة إلى أسلوب الحفظ والتلقين لا الفهم.. زمان كنا نصفُ الأمي بأنه من لا يعرف الألِف من كوز الدرة.. اليوم المتعلم نفسه أمام نفس الإشكالية.. عدم معرفة الألف من كوز الدرة، كل ما تعلمه هو "فك الخط".. وبالتالي أصبحت ثقافتنا شفهية تعتمد على الأذن ممن لديهم شهوة الكلام والقدرة عليه.. أو نكون جميعا -وخاصة الشباب في مقتبل العمر- خامة أولية تعمل عليها الجماعات الإرهابية، وتغسل عقولهم ببساطة، لأن هذه العقول ليس بها علم حقيقي، ولا يمكن للشاب منهم فرز الأفكار جيدة أم سيئة، حقيقية أم مزيفة.
البحث عن الحل
تلك هي المشكلة.. فهل من حل؟
نعم يوجد حل، لكن قبل ذلك نوضح أن التقدم الحقيقي لأي أُمّة وفي أي مجال يبدأ بالتعليم.. فبدون تعليم جيد لن يكون عندنا طبيب أو مدرس أو مهندس أو سباك أو ميكانيكي، بل ولا زبال جيد -مع كامل احترامي للجميع-
الحل صعب، وصعب جداً ويحتاج:
- أولاً: عملية التطوير تبدأ من دور الحضانة وحتى الانتهاء من الجامعة بوضع منهج تعليمي ثوري، يطيح بفكرة الحفظ كالببغاوات، ويستبدله بالتدريب على التفكير وإعمال العقل.. ومنذ سنوات يطالب بعض المخلصين والفاهمين أن اختبار هذا الأسلوب الجديد لن يتم إلا بعد حوالي 30 عاما، هي الفترة التي يبدأها التلميذ من الحضانة حتى ينتهي من دراسته الجامعية، دون فصل أوقطع منها.. يعني One Package" دفعة واحدة"، كيان واحد، مثل كرسي مثلا لا بد أن تشتريه بأرجله الأربع ولا يمكن أن نختصر منها واحدة لزوم نقص الميزانية أو التوفير.
ثانيا: توفير الميزانية المطلوبة كاملة من بداية عملية التطوير دون انتظار الموازنات السنوية أو غيرها المعرّضة للطوارئ ومزاج وزير المالية وطواقم المسئولين، وأي تعطيل يعنى موت المشروع.. ولكي يتحقق ذلك لابد من توافر الإرادة السياسية، والإرادة المجتمعية -والأخيرة موجودة ومتوافرة بحمد الله
الوعي المجتمعي
الجميل، والغريب في الوقت ذاته، هو وعي الشعب المصري –أكثر من الدولة- بأهمية التعليم، ووجود إرادة مجتمعية للإصلاح في كل المجالات، وعلى رأسها التعليم، مما يرفع فاتورة الدروس الخصوصية إلى أرقام فلكية تقترب من موازنة الدولة.. والسبب قصور المدرسة في العملية التعليمية وقبلها التربوية، لنحصل على مجتمع مشوه كامل الفساد.
يبقى العنصر الأخير، وهو العنصر الأول من ناحية الأهمية لأنه الفاعل الحقيقي والمنفِّذ، وهو الإرادة السياسية، لنعيد طرح التساؤل مرة أخرى: هل لدينا إرادة سياسية لتطوير التعليم.. أجيبك والأرزاق على الله: لا.. لا.. لا.
30 سنة؟؟!!
نعم.. مطلوب 30 سنة.. الشعب موجود طبعا إن شاء الله، يعني الإرادة المجتمعية مضمونة وفي جيب الساعة الصغير.. وتظل الكُرة في قدم الإرادة السياسية.. فهل هي جادة في الأمر؟ طبعا لا.. لماذا إذن؟
أقول لك.. في النهاية كلنا بشر، وطبيعي أن يحب أي واحد منا أن يرى نتاج عمله في أسرع وقت ممكن ليبرهن للجميع على صدق توجهاته وحساب إنجازاته.. لكن، هل يمكن أن يبدأ شخص مشروعاً ينتهي في عهد غيره.. نحن الآن في عهد السيسي.. وهو يعلم جيدا أبعاد المشكلة وطريقة حلها، ولكنه لا يتناولها بالشكل الذي يراه الخبراء لأنه مهتم بالإنشاءات السريعة، ذات الأرقام القياسية، وهي إنجازات جيدة في حد ذاتها، وهو عمل بالفعل أنجز إنجازات ممتازة في زمن قياسي.. أكرر "زمن قياسي" يعني سريعة التنفيذ قياساً بمشروع التعليم المكلّف زمنياً.. إذن سيظل الوضع على ما هو عليه حتى يأتي رئيس يلتف الناس حوله ويجعل تطوير التعليم شاغله الأهم والمعركة التي لا يعلو عليها صوت.. ويوجه لها كل دخل الدولة.. لكن الأهم من الرئيس أن يكون لدينا مجالس وهيئات قوية تضع خططاً مستقبلية للدولة تستشرف الرؤى لمئات السنوات تحدد المطلوب إنجازه في كل عام أو فترة منها.. ودول العالم المتقدمة تعمل بنفس النظام، حتى على مستوى الأفراد..
نعم.. أنا عاتب
أقول لكم أن أحد أسباب "عتبي" على "السيسي" أنه يعلم ذلك جيداً وكان مطروحاً عليه منذ توليه الحكم، وكنت اعتقد -أو أتمنى- أن ينحاز للبداية بالتعليم على حساب أي شئ آخر.. كان يمكن تحقيق قفزة تاريخية ونقل مصر إلى واقع جديد.. لكنها النفس البشرية.. ونبقى في انتظار "جودو".. فهل يأتي؟
تجربة ماليزيا
أذكر أن العالِم الكبير الدكتور "فاروق الباز" ذكر لمجموعة من الشخصيات -كنت أحدهم وكنا جميعاً في قطر- أنه كان يزور ماليزيا بدعوة من الملك قبل 30 سنة من لقائي بالباز- ((اللقاء تم منذ حوالي 29 سنة، يعني الفترة التي يتحدث الباز عنها تصل الآن لحوالي نصف القرن)) وأقسم الباز أنه في ذهابه للقصر الملكي للمرة الأولى وبصحبته مجموعة من العلماء، كانوا "يخوضون" في بحور من الطين ولم يكن هناك شارع واحد مرصوف ولا حتى عند القصر الملكي.. والسبب أن ماليزيا وجهت موازنة المملكة كاملة لتطوير التعليم.. بعد ذلك أصبحت ماليزيا من النمور الأسيوية بالشكل الذي نراه الآن.
السؤال الخبيث الذي يطل برأسه الآن هو: باستخدام المنطق البشري الطبيعي‘ فإن ملك ماليزيا أطلق سهم التنوير ليصيب كبد الجهل ويقتله برمية واحدة، وهو –أي ملك ماليزيا- وهو على يقين بأن نتيجة ذلك القرارستعود عليه، أو على أحد ابنائه أو أحفاده، الذي سيكون جالسا على العرش وقتها.. فماذا تفعل دولة جمهورية يجلس رئيسها على مقعده وكأن تحته الريح، وبالتالي فمن المستحيل أن يستمر في الحكم 30 عاما ليجني ثمرة قراره بتطوير التعليم –رغم أن هذا المستحيل حدث مع الرئيس الراحل محمد حسني مبارك لكنه كانت نتيجة حكمه صفرا، ولم يرحل إلا على أسنة ثورة شعبية في 25 يناير 2011
نسف الفكر القديم
سؤال آخر: وماذا عن أفكار التطويرات في التعليم.. أجيبك.. لا شئ.. صفر على الشمال، نحن نواجه الآن فكرة تحويل الثانوية العامة إلى بكالوريا، أي العودة لنظام تعليمي يعود للعهد الملكي، الفكرة لوزير التربية والتعليم الحالي، والوزير السابق عليه شغل منصبه لحوالي خمسة أعوام، كان إنحازه الوحيد هوالانقلاب على الكتاب المدرسي واستبداله بـ "التابلت" –الكمبيوتر اللوحي- فما يحدث في التعليم المصري، ومنذ ما قبل كورونا، هو ترقيع لثوب مهلهل متهالك يكشف أكثر مما يستر.. لن يجدي شيئاً.. الحل الوحيد هو تفخيخ أو تلغيم العملية التعليمية ونسفها بالكامل والبدء مما قبل الصفر..
---------
* صحفي وكاتب مصري
#عبدالرحيم_كمال (هاشتاغ)
Abdulrahim_Kamal#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟