نادية هناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8323 - 2025 / 4 / 25 - 13:19
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
للذكاء الاصطناعي تطبيقات مختلفة تشكل عصب الحياة، ولها أدوار فاعلة تتطور تطورا متسارعا، ومعه يصعب الاستغناء عن الذكاء الاصطناعي أو تجاهل تأثيراته. وتعد (النسوية) بكل دلالاتها المعرفية واتجاهاتها الفلسفية وميادينها العلمية والفنية، واحدة من المجالات المقترنة بالذكاء الاصطناعي. . واتضح هذا الاقتران في الدراسات النسوية المنجزة في الآونة الأخيرة، من ناحية دراسة أنظمة الذكاء الاصطناعي، وتحليل ما يمكن لكل نظام أن يحققه في مجال الجندر والجنوسة والمساواة الاجتماعية، من تأثيرات اجتماعية وسياسية في بنية المجتمع، أو ما يمكن أن تكشفه تطبيقاته من أساليب ومعارف أبستمولوجية تفيد في توكيد دور الذكاء الاصطناعي النسوي في تقويض التسلط الذكوري، والنزعات القمعية، بغية إعطاء المرأة المكانة التي تناسب هويتها وتفكيرها.
وتتفاوت وجهات النظر حول الجمع بين هذين الموضوعين، كما تتنوع مجالات دراستهما، ما بين العلوم والتكنولوجيا والمفاهيم السبرانية الخاصة بالآلات الذكية، والمفاهيم الفلسفية والثقافية لرأس المال والعمل والعبودية والرأسمالية والعنف والمساواة وغيرها. ولعل هذا الجمع سيُمهد الطريق مستقبلا صوب بلوغ اتجاهات وتصورات جديدة توسِّع نطاق الذكاء الاصطناعي، كي يكون بالفعل نسويا.
ولا شك أن الجمع بين مفهوم ثقافي ذي بعد فلسفي مثل النسوية، بموضوع تكنولوجي ذي تطورات وتبدلات مستمرة ومذهلة مثل الذكاء الاصطناعي، سيتطلب خلفيات تخصصية كثيرة بدءا من علوم الحاسوب وهندسة البرمجيات والعلوم الطبية والنفسية، مرورا بعلوم الاجتماع والسياسة والأنثروبولوجيا والأدب، وليس انتهاء بالنقد ما بعد الكولونيالي، والنظرية القمعية، ومفاهيم الماركسية السوداء والعنصرية والجنسانية والإعاقة وما إلى ذلك. ومن الأسئلة التي تُطرح في هذا المجال: كيف تتقاطع التوجهات الجندرية للذكاء الاصطناعي، مع أشكال السلطة وأنظمة الحكم المختلفة؟ ما سبل توظيف النسوية لمفاهيم العرق والإثنية والجنسانية والإعاقة والعمر والاستدامة، داخل بيانات يتم تدريب الآلات الذكية عليها، كي تؤدي الأغراض المنوطة بها؟ هل يمكن للذكاء الاصطناعي إنتاج الجنسانية أو محاكاتها؟
لا يخفى ما في هذه الأسئلة من تحدٍ للفكر النسوي في التعامل مع تقنيات الذكاء الاصطناعي وما ينتج عن ذلك من إشكاليات ومعوقات على اختلاف المنهجيات والنظريات وتباين الأزمنة والأمكنة. من هنا عكف واحد وعشرون باحثا على دراسة موضوعة الذكاء الاصطناعي النسوي. وغالبيتهم من إنكلترا والولايات المتحدة، وينتمون إلى جامعات كامبريدج وستانفورد وواشنطن وشيكاغو وتورنتو وغيرها. وجُمعت دراساتهم في كتاب مشترك، صدر عن جامعة أكسفورد عام 2023 عنوانه (الذكاء الاصطناعي النسوي: وجهات نظر نقدية حول البيانات والخوارزميات والآلات الذكية). والكتاب بتحرير أربعة باحثين، يعرِّفون أنفسهم بأنهم من (الشمال العالمي Global North) وثلاثة منهم يصفون أنفسهم بأنهم (بيض) وهم كل من جود براون وستيفن كايف والينور دراغ وكيري ماكينيرني. وليست الغرابة في أن يتعالى الباحثون الأنكلوأمريكيون في هذا العصر ما بعد الصناعي، إنما الغرابة ألا يكونوا عنصريين، وهم يبحثون في موضوع طالته العنصرية، ويريدون إنصافه وتحقيق المساواة والعدالة له، ألا وهو النسوية.
تنطلق فكرة الكتاب من مشروع (الجندر والتكنولوجيا) بإشراف مركز الدراسات الجندرية في جامعة كامبريدج ومركز ليفرهولم لمستقبل الذكاء الاصطناعي في الجامعة نفسها. والمحررون هم فريق متخصص في أقلمة النظرية النسوية ودراسات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. ويأتي عملهم ضمن مسعى جديد في التدليل على أهمية التفسيرات النسوية التكنولوجية في هذا المجال، من خلال تتبع وجهات نظر الذكاء الاصطناعي النسوي وتناوبها ما بين الجندر والتعلم والحواسيب، استنادا إلى التداخل الاختصاصي بين النسوية والعلوم الإنسانية من جهة، ولغة البرمجة وعلوم الكومبيوتر والرياضيات من جهة أخرى. أما أهداف هذا المشروع فهي تغيير ثقافة الكومبيوتر الذكورية تغييرا جذريا، يرسِّخ أساسات الذكاء الاصطناعي النسوي بوصفه تطلعا واعدا، يطمح منتجوه إلى إنجازه مستقبلا.
وبالإمكان تقسيم وجهات النظر المطروحة في الدراسات النقدية التي ضمها هذا الكتاب إلى صنفين:
– الصنف الأول: يشتمل على وجهات نظر متفائلة ترى في الذكاء الاصطناعي دعما للنسوية، من خلال مراعاة أخلاقيات العلاقة بين البشر والذكاء الاصطناعي. وهذا ما تذهب إليه أولى الدراسات وعنوانها (التعايش التقني: اكتشاف أو فهم علاقاتنا بالذكاء الاصطناعي) للباحثة كاثرين هايلز وفيها طرحت وجهة نظر بيئية تشدد على أهمية علاقة النسوية البيئية بهذا الذكاء، وما يمكن أن تكشفه من أضرار يمكن للآلات الذكية أن تلحقه بالبيئة محليا وعالميا، مع ضرورة تغيير طريقة التفكير في التعايش بين الإنسان والآلة. وانطلاقا من التعددية الثقافية، يغدو تصميم الذكاء الاصطناعي النسوي قائما على مركزة الإنسان، من دون النظر إلى عرقه أو لغته أو جنسه. وتشرح الباحثة كيفية الاقتداء بالسكان الأصليين من أجل الوصول إلى طريقة فضلى في التعامل البشري مع الآلة، بما يجعل من الذكاء الاصطناعي النسوي أرضا عامة من دون إقليمية او استغلال مادي.
وتذهب وجهة النظر الرومانسية إلى أهمية إضفاء المشاعر الإنسانية على التكنولوجيا، وإدراجها – أي المشاعر- في عمل البيانات والخوارزميات والمنصات الرقمية، مع تدريب التقنيات الرقمية على جعل الأولوية لا للعقل، بل للعاطفة، ودمج التحسس الإدراكي للعواطف بالعقل، وبما يمكِّن الإنسان من حلِّ المشكلات والتناغم معها نفسيا وأخلاقيا. ويلعب الفن دورا حاسما في بلوغ وجهة النظر هذه سواء في قراءة البيانات، أو تفسير أداء الفئات العرقية. وهذا ما يقتضي من الآلة الذكية أن تعرف كيف تتحمل المسؤولية، وتحترم السياق وتجذب الانتباه، وتتخذ القرارات، وتوازن بين الذات والقوة الاجتماعية والسياسية. ومن المتوقع أن يفتح مثل هذا التوجه بابا على علم الفراسة وتبادل الخواطر وقراءة ملامح الوجوه بشكل مختلف عما تمثله الشبكات العصبية العميقة، التي طورها شياولين وو، وشي تشانغ أو تلك التي طورها ميشال كوسينسكي ويلون وانغ. وتكشف هذه الشبكات عن الإشارات الاجتماعية والقوالب النمطية، بيد أنها لا تؤشر إلى التوجهات الهوياتية والجنسانية للأشخاص. ومن ثم تكون الحاجة ماسة إلى وضع أساليب تعلم آلي عميق وقوي أولا، ثم المباشرة ثانيا بتنفيذ هذه الأساليب على القوالب الجندرية للجنس والعرق والإثنية، باستعمال تقنيات التعريف والتخصيص، فتكون للآلة الذكية من ثم تحيزات نفسية وميول جنوسية وممارسات واعية، قد تكون حقيقية وقد تكون زائفة تبعا لطريقة قراءة الآلة لتعابير الوجه وحركات الجسد، فتفهم التحيز الجنسي والعنصري والإثني. وتعد هذه التطلعات واحدة من التحديات التي تواجه الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي النسوي على المستويين الثقافي والتقاني معا. وبالطبع ترفض وجهة النظر الذكورية مثل هذه التصورات، وترى أنَّ قوالب الذكاء الاصطناعي هي متغيرات ثابتة وقابلة للبرمجة والدمج في أنظمة التعلم الآلي.
ـ الصنف الثاني: يشتمل على وجهات نظر متشائمة، ترى في الذكاء الاصطناعي تحديا، وعلى النسوية أن تواجهه عبر التركيز على ما للجندر من دور في تطوير التكنولوجيا، والتأثير في الأتمتة المستقبلية، مع فرض علاقاتها الجندرية على نظام الرقمنة الآلي، بقصد سدِّ الفجوة الرقمية بين الجنسين، بما يؤدي الى رفع الحيف عن القوى العاملة النسوية في قطاع التكنولوجيا وتحقيق تغيير جندري في سياسات شركات التكنولوجيا وثقافتها.
ومن ذلك وجهة النظر الثقافية، وتعني ضرورة إعادة البناء الثقافي للتصور التقليدي في الفيلم الشعبي، الذي فيه مهندس الذكاء الاصطناعي هو دائما رجل، كما أن التمثيل النسوي للذكاء الاصطناعي عادة ما يكون ناقصا، عبر تصوير النسوة العالمات والمتخصصات في الذكاء الاصطناعي، خاضعات، أو في درجة أدنى من ناحية الابتكار من علماء الذكاء الاصطناعي الذكور. أما وجهة النظر الإنسانية، فتذهب إلى ضرورة مواجهة الذكاء الاصطناعي، عبر بناء معنى جديد للإنسان، وفق ما تنص عليه أدبيات النسوية السوداء، وفكر ما بعد الاستعمار الذي يرفض تشفير الأجساد، واعتبار الإنسان نوعا من التكنولوجيا، أو بالعكس اعتبار التكنولوجيا إنسانا كما في الطائرات من دون طيار.
وتتخذ وجهة النظر الماركسية من النسوية موضوعا لإظهار مساوئ الرأسمالية التكنولوجية والمبتغى من وراء وجهة النظر الماركسية، إعادة إنتاج التكنولوجيا الرأسمالية العنصرية، من ناحية الأجهزة والبرمجيات والبيانات المستعملة في الذكاء الاصطناعي.
وترى وجهة النظر الأخلاقية، أن الروبوتات تشكل من الناحية الجنسانية تهديدا للنسوية، ومن المهم وضع سياسة أخلاقية توجه صناعة الذكاء الاصطناعي مستقبلا، نحو جعل التكنولوجيا ليبرالية تدير شؤون فئاتها عرقيا وجندريا، وفيها تتنوع معايير الجمال، فلا تكون المركزية للعرق الأبيض الأوروبي فقط. ومن الأخلاقيات أيضا أهمية العمل على ربط الذكاء الاصطناعي بالعمل الرعوي، والإفادة من تاريخه الجندري والعرقي في بناء ما يسمى بالرعاية الآلية Automated care كبديل للرعاية الفطرية الراديكاليةRadical care وبمساعدة النموذجين الذكيين الاصطناعيين أليكسا Alexa وسيري siri، وهما روبوتان مطوران في الأساس من أجل الاعتراف بقيمة العمل الرعوي في توظيف الذكاء الاصطناعي. ولوجهة النظر المستقبلية في الذكاء الاصطناعي النسوي رأي مخيِّب للآمال، يزعزع بقوة التفاؤل المفرط بدور هذا الذكاء في تحسين أساليب الحياة وتحقيق السعادة ورفع قيمة المرأة. ويرى أن منافع الذكاء الاصطناعي هي ضرورية بالفعل، ولكنها ضرورة غير نافعة في الوقت نفسه، بوصف الذكاء الاصطناعي ذكاء أدائيا غير متحيز في الكشف عن سمات الشخصية، ولا التعرف على الوجوه وفق القواعد الاجتماعية السائدة، ما يجعل احتمالية الخطأ في التمييز واردة جدا، لاسيما في حالة الأشخاص المصابين بالتوحد.
إن تباين وجهات النظر حول دراسة الذكاء الاصطناعي النسوي، لا يقلل من قيمة ما يترشح عنها من مفاهيم مستجدة مثل، التحيز الخوارزمي، عدالة التصميم، الرقمية العمرية، الظلم الهيكلي لأنظمة الذكاء الاصطناعي، آليات الحكم الديمقراطي، مظهر عام للذكاء الاصطناعي وغيرها من المفاهيم التي هي في العموم تفتح آفاقا بحثية مستقبلية في مجال أقلمة النظرية النسوية، مع دراسات التكنولوجيا من جهة، وأتمتة النسوية التكنولوجية بالدراسات النفسية والثقافية من جهة أخرى، تأكيدا لما للنسوية من غنى فكري وتنوع رؤيوي ومنهجي.
#نادية_هناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟